}

جماليات القبح والبشاعة أو مصائر الجسد المغاير

فريد الزاهي 25 أبريل 2022
آراء جماليات القبح والبشاعة أو مصائر الجسد المغاير
جينا لولو بريجيدا وأنطوني كوين بفيلم "أحدب نوتردام" (Getty)

في مناقشة بحثي عن جماليات الجسد، في نهايات القرن الماضي، ختم عبد الفتاح كيليطو (الذي كان رئيسًا للجنة مناقشة الدكتوراة) تعليقه المقتضب بالسؤال التالي: وماذا عن القبح؟ طبعًا، كنت أدرك حينئذ أن الجماليات (الإستطيقا) لا تعني فقط دراسة وتلقي الجمال، ولا يمكننا اختزالها فيه، إذ كنت قد أشرت في بحثي إلى "رسالة البرُصان والعُرْجان والعُميان والحُوْلان" للجاحظ، التي يمكن أن نعثر فيها على عناصر لجماليات جسدية مغايرة لما تداولته الثقافة العربية آنذاك. بيد أني لم أنتبه إلا وقتًا بعد ذلك إلى جسد الخنثى باعتباره جسدًا يكسر مفهوم السواء الجسماني، وإلى أن البشاعة والقبح قد أضحيا مكونات أساسية في التناول الجمالي للفن والأدب والواقع.
غالبًا ما يُختزل مفهوم الجماليات في محدداته الكلاسيكية، باعتباره التعبير عن الجميل في الفن والطبيعة، في ما يتسم به من تناغم وانسجام. لكنّ التطورات الحديثة للجماليات وسَّعت كثيرًا من هذا المفهوم انطلاقًا من هوامشه، ومما تناساه، أو عارضه، فأضحت الجماليات المعاصرة تهتم بما حبل به تاريخ الفن والتاريخ الاجتماعي من مفارقات. ولا أدل على ذلك من أن أمبرتو إيكو، وبعد أن أصدر موسوعته "تاريخ الجمال"، أردفها بموسوعة "تاريخ القبح"، مبينًا بذلك أن الأول لا يكتمل إلا بالآخر، سيرًا على مقولة "بضدها تعرف الأشياء"، وانطلاقًا من مبدأ تفكيك الثنائيات العتيقة التضادية. والحقيقة أن الجمال الأنثوي مثلًا لم يكن يحدّد إلا بضده، فقد كان للعرب أسماء كثيرة للنساء الجميلات ولمواطن جمالهن، حتى لقد صار الأمر قريبًا من الاستحالة والخيال، من بهكنة طرفة ابن العبد إلى مجدولة الجاحظ، أما الكثيرة السمنة أو المفرطة في الهزال فكانت مذمومة، وكان جسدها مستهجنًا.


الجسد الهامشي بين الرمزي والاجتماعي
إذا كان الكمال الجسدي مدخلًا للسَّواء، ومن ثمَّ للجمال، فإن العُرجان والعُميان والعُوران كانت لهم سلطة رمزية كبرى في المتخيل الجماعي في كافة الثقافات. فالأعمى يُعتبر ذا بصيرة وعينُه، كما يقول جلبير دوران، تغدو رمزًا للتبصُّر (ص. 101)، وأسياد النار (الحدادون) حين لا يكونون ذوي رجل واحدة يكونون عرجانًا، وهم يرمزون إلى الشمس الغاربة، حسب معجم الرموز (ص 136). ولا يخفى أن هذه القوة ذات الطابع السحري تكون أحيانًا المعادل المتخيل لخصاصهم، وكأن فقدانهم لكمالهم الجسماني يكون الثمن الذي يؤدونه مقابل معارفهم الخارقة والقوة التي تمنحهم إياها.




إن هذه الانقلابات الدلالية ليست غريبة عن العرب والشعوب التي تعيش في محيطنا. فقد كان العرب يسمون أبناءهم بأسماء سلبية لدرْء العين وللحماية من العاهة الطارئة. ولقد سميت الخنساء بهذا الاسم (أي بذات العرجَ الخفيف) ولم تكن بها عاهة. ورسالة الجاحظ السالفة الذكر تبين لنا الشرف الذي كان يحظى به بعض ذوي العاهات. وهو يقول في ذلك: "والعُرج ـ أبقاك الله ـ والعميُ الأشراف أكثر عددًا (من البرصان)... إن جماعة منهم كانوا يبلغون مع العرَج ما لا يبلغه عامة الأصحاء، ومع العَمى ما لا يدركه أكثر البُصراء... وقد فخروا بالعَمى، وذلك كثير، واحتجوا بالعَرج، وذلك غير قليل... وإذا كان الأعرابي يعتريه البرص فيجعله زيادة في الجمال ودليلًا على المجد، فما ظنك بقوله في العَرج والعَمى، وهما لا يُستقذران، ولا يُتقزّز منهما ولا يعديان..." (ص 7 ـ 9). وفي الثقافة اليهودية الشعبية، كما الإسلامية المغربية، كان الناس يسمون الأعمى بالبصير، وثمة فندق مشهور في مدينة فاس لا يزال يحمل هذا الاسم، وكان يقطن فيه العميان، الذين كانوا يمتهنون في أغلبهم التسول وتلاوة القرآن.
أما جنس الخنثى فإن أمره كان إشكاليًا في المجتمع العربي الإسلامي، لأنه يخلخل مبدأ الذكورة والأنوثة. فقد نهى الإسلام عن حديث المخنَّث، ومحادثة المخنث، وعن صحبة المخنث، وعن إجابة دعوة المخنث. وكان الحديث النبوي الذي رواه البخاري القائل "لعن الله المخنث" متداولًا. أما الرفض القاطع لهذا الكائن "الغول"، الذي لا هو برجل، ولا هو بامرأة، فقد عبر عنه الترمذي في "المنهيات" بقوله: "فالمخنث خلْق هائل شأنه، فظيع أمره، فظاهره رجل، وباطنه امرأة. فالذي في باطنه حوَّل أحوال الظاهر حتى مدَّه إلى أحوال النساء قولًا ومشيًا وعملًا ولباسًا وزيًا وهيئة، فقد حلت به اللعنة لأنه مُسخ. فنفسه نفوس النساء، وخلقته خلقة الرجال، فلذلك لا يكاد تجد منهم تائبًا، لأن نفسه الممسوخة قد عبرت قلبه وطبعه إلى أخلاق النساء... فكأنّ الله جعل هذا موعظة للخلق ليشكروه على لباس العافية". ويضيف عن وضعيتهم في المجتمع: "وقد كان على عهد رسول الله (ص) عدّةٌ فنفاهم إلى البقيع. فلما كان زمن عمر رضي الله عنه، استأذن بعضُهم في الدخول إلى المدينة ليسأل الناس، فأذن لهم في الجمعة مرة" (ص 88 ـ 89).

لوحة لفرانسيس بيكون "ثلاث دراسات لصورة ذاتية" أثناء عرض في دار كريستيز للمزادات في لندن/ إنكلترا (19/ 5/ 2008/Getty)


بيد أن الفقهاء المتأخرين سوف يمحّصون في أمر هذا الجسد الغريب كي يوافق أحكامهم. لهذا نراهم يميزون بين الخنثى الذي تبدو عليه بعض علامات الرجولة، من لحية وقدرة على الجماع، فيكون حكمه حكم الرجال. أما الخنثى الذي تظهر عليه علامات الأنوثة من حيض وحبل وانكسار ثدي، فيكون حكم المرأة فيه أولى. لكن ثمة حالٌ ثالثة: وما القول إنْ لم تظهر عليه علامات الذكورة، أو الأنوثة، أو أن هذه المعالم كانت متعارضة في الشخص نفسه؟ إنه الخنثى المشكل. وهو مشكل (أو إشكالي بلغتنا المعاصرة) لعدم إمكان أن نرجح فيه الأنوثة، أو الذكورة. وإذا ما ثبتت هذه الوضعية الإشكالية فإن الحكم يكون بإعمال العقل والنظر: أي أن نعتبره مع النساء رجلًا، ومع الرجال امرأة. وتغليبًا لجانب الحظر كما يقول الحنابلة، يكون النظر إليه باعتباره امرأة. وهكذا فإن تأنيث الخنثى المشكل في نهاية المطاف يلحقه بالكائن الاجتماعي الأكثر عرضة لقواعد التحريم والحظر والنهي والمخالطة، أي المرأة.




ومع أن العرب لم تتحدث إلا لمامًا عن القزامة والحدَب، فإن الثقافات الشعبية كما المتخيل الجماعي العام يربط الأحدب بالشؤم والنحس، وينظر لصغار القامة بنوع الاحتقار، بالشكل نفسه الذي ينظر به إلى ذوي العاهات. وتقول الإحصائيات في مصر مثلًا عن ذوي القامات القصيرة جدًا (المصابين بالقزامة) إن عددهم يناهز المئة ألف مواطن، وهم يمثلون 35 في المئة من عدد الأقزام في العالم. والغالبية الساحقة منهم تعاني من الأمية، والقلة القليلة منهم التي تكمل تعليمها غالبًا لا تجد وظائف تتناسب مع مؤهلاتها. والصورة التي تقدمها عنهم السينما والمسرح بتصويرهم على أنهم أنصاف رجال لا تزيد إلا في تهميشهم، مع أن بعضهم يشتغلون في المسرح والسينما الهزلية في الأساس. ولعل الفيلم العربي الوحيد الذي نظر إليهم نظرة إنصاف هو "الأقزام قادمون"، من بطولة يحيى الفخراني، وليلى علوي، ودارت أحداثه حول رجل إعلانات يتطوع لمساعدة قزم يدعى شيكو، سبق أن عمل معه وأهله البالغ عددهم خمسين قزمًا، على مواجهة رغبة رجل أعمال في الاستيلاء على أرضهم وطردهم منها.
وإذن، وبالنظر إلى الجسد الكامل و"السويّ"، يغدو الأنموذج الجسدي مسطورًا مسبقًا، لا يلج حظيرته من أصيب بالقزامة، أو الحَدب، أو العرج، أو العور، أو غيرها. وعليه، ينبني الأنموذج الجمالي لدى المرأة كما لدى الرجل. هكذا يتبدى أن البشاعة والقبح والعاهة والإشْكال النوعي حالات متواشجة في الواقع كما في المتخيل. فإذا كانت العاهة تخرق مبدأ الكمال الجسدي الإنساني وأنموذجه الجمالي الذي يجعل الإنسان بشكل ما مخلوقًا على صورة الإله، فإن الخَنَث يخرق مفهوم النوع الذي عليه يقوم كمال النوع.


جمالية القبح والبشاعة

(سبهان آدم)


منذ صدور رواية "أحدب نوتردام" لفكتور هوغو، وبعدها فيلم "الجميلة والوحش"، الذي أخرجه الكاتب الفرنسي، جان كوكتو، ثم توالي أفلام الرعب وكائناتها المشوهة الغريبة، أضحت هذه الظواهر تأخذ موطنًا لها في الوعي، بعد أن كانت تشكل لاوعي ومتخيل الكائن الإنساني. يكشف لنا أمبرتو إيكو في تاريخ البشاعة أن البشرية قد كتبت تاريخًا للجميل والجمال، غير أن تاريخ القبح والبشاعة ظل يتحدَّد بالتعارض مع الجمال، ومن ثم لا نعثر عليه إلا في شكل نتف متفرقة هنا وهناك. فلقد ظلت البشاعة تنتمي للعوالم السفلية وللشر وكائنات جهنم، وظل الشيطان الأنموذج المرجعي لكافة أنواع الهجنة الجسمانية التي تجعل منه مثالًا للقبح والبشاعة.



وإذا كانت السينما قد وطَّنت لدينا، كما لدى الناشئة، صور تلك الكائنات "البشعة" الآتية من كواكب أخرى، فإن العديد منها منحتها صورة إيجابية تقربها من المقبولية. كما أن العديد من الأفلام والمسلسلات قد لعبت بشكل واضح على ثنائية الحسناء الشريرة والمرأة "العادية" التي تمتلك بأخلاقها وأفعالها جمالًا يفتن نظر المتفرجين. بيد أن الفن التشكيلي كان أكثر حرية في خلخلة المفهوم الجمالي المرتبط بأقانيم الجمال الإنساني، وأكثر جذرية في استقصاء تخوم البشاعة ليحولها إلى قيمة جمالية.
وقد كان رودان أول من منح للفن هذه السلطة بقوله: "إن ما نسميه بشاعة وقبحًا في الطبيعة قد يصير في الفن ذا جمال باهر". وهو ما بدأ يتحقق تدريجيًا في الانزياح عن التشخيص التمثيلي مع التكعيبية والسوريالية، ليبلغ ذروته مع شخصيات فرانسيس بيكون المشوهة والبشعة والممسوخة.
أما في العالم العربي، فإن مبدأ الجمالية التقليدية ظل مهيمنًا، سواء في التوجهات التشخيصية، أو التجريدية المبنية على التناغم حتى في تناول الشخصيات "العادية". ولم يتحقق هذا الانزياح إلا في العقود الأخيرة، التي ظهرت فيها في العالم العربي بوادر التعبيرية التشخيصية، التي تبلور عوالم وكائنات لا تحيل على الواقع إلا بتفكيكه وتضخيمه وتغريبه. ففي أعمال الفنان المغربي محمد الدريسي (ت 2003)، تتحول الكائنات إلى ما يشبه الهيكل العظمي، ووجوهها ورؤوسها إلى مشاهد تنضح ببشاعة تحيل إلى أحوال القيامة. أما سبهان آدم، فإن كائناته أشبه بحشرات عظيمة نابعة من عالم سفلي، أو أشباح لا تحيل إلا عرضًا للكائن الإنساني. وفي بعض أعمال سيروان باران، تتشوه خلقة الكائنات الإنسانية لتغدو أحيانًا هلامية، حتى لأننا نخالها تنضح ببشاعة فاتنة. ويخلق كريم عطار وعبد الرحيم إقبي عوالم تتناسل فيها الكائنات ذات الأجساد الغريبة والرؤوس شبه الحيوانية، وكأنها تطل علينا من عوالم تحت الأرض، أو كأنها غيلان أليفة تتسلّل إلى متخيلنا.




إن هذه التجارب، وغيرها، تبدو وكأنها تحرّر من عقالها الكائنات التي تحدثت عنها الأساطير وكتب العجائب، أو تلك التي تعيش منبوذة من المجتمع، أو تلك التي بلورها الأدب، وتعيدها إلى وعينا المباشر، من خلال تأويل كينونتها ودمجها في جماليات جديدة لا تراتبية ولا تعارض فيها بين البشاعة والحسن ولا بين الجمال والقبح، ولا بين الذكورة والأنوثة. وكأن الفن بذلك، وهو يعيد صياغة متخيلنا العتيق، يستشرف المستقبل، ويخلق براديغمات جديدة تدعونا للتفكُّر وإعادة النظر في موروثنا الفكري والثقافي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.