}

عن لقاء الشرق والغرب في تراثنا العربي

باسم سليمان 28 أبريل 2022
آراء عن لقاء الشرق والغرب في تراثنا العربي
(gettyimages)



 

إذا اعتبرنا الاستشراق خلاصة المركزية الغربية تجاه الشرق، فهذه المركزية تتجلّى بأشكال عدّة من الهيمنة التي لا تبتدئ بالسياسي أوالاقتصادي فقط، بل تمتد إلى الديني، فالثقافي والفني، ولا تنتهي بالصور النمطية التي استقرت في الغرب عن الشرق. فالاستشراق كأيديولوجية مستمرة ما دامت المركزية الغربية قارة وثابتة تحاور نفسها بنفسها، ولا تسمح للآخر إلّا أن يكون موضوعًا للبحث والاستعمار والسيطرة. وهنا لن نجانب الصواب إذا تصوّرنا علم الاستغراب محاولة لنزع هذه الهيمنة الغربية، وإعادة الذات الشرقية التي تُدرس كموضوع من قبل العقل الغربي إلى ذات مستقلة متحرِّرة من الهيمنة الغربية. وفي الوقت نفسه تطالب بحقّها بمركزية مساوية للمركزية الغربية، سواء أنتجت عنها حوارية إيجابية تمدّ جسور التواصل الحضاري، أم كانت النتيجة مقولة الشاعر روديار كبلينغ: "الشرق شرق، والغرب غرب ولن يلتقيا".  

يعدّ إدوارد سعيد، ولا سيما في كتابيه "الاستشراق" و"الثقافة والإمبريالية"، وغيرهما من مؤلفاته، من أبرز من كشف ميكانيزميات الاستشراق، لكنّه لم يكن داعيًا إلى علم الاستغراب بالمعنى التضادي للاستشراق، على الرغم من أن الاستجابة الفكرية لكتبه في المنطقة العربية، كانت كبيرة، لكن التكلّم عن نشوء مؤسسات وانشغال مفكرين بالاستغراب ظلّ باهتًا يكاد لا يذكر إلا في المحافل الخاصة، فالفجوة المعرفية والتطورية والحضارية بين الغرب والشرق من الامتداد المكاني والزماني بحيث لا تكاد تجسر. وإذا تطرّقنا إلى المفكرين والمؤسسات الثقافية، فمن الضروري ذكر المفكر حسن حنفي، الذي نشر بعد عقد ونيف من صدور كتاب "الاستشراق"، كتابه "مقدمة في علم الاستغراب"، يتغيا فيه نقد المركزية الغربية، وإدارة العلاقة معها بحيث يتم تحويلها من ذات مهيمنة على العالم، إلى موضوع قابل للنقد والتفكيك والتشريح. لم يغب الاستغراب عن الفعاليات الثقافية الفكرية في بلادنا العربية، فهناك العديد من المفكرين الذين خاضوا غماره كمحمد عابد الجابري، وبعض الدوريات الفكرية التي تصدر عن مؤسسات عنيت بالاستغراب، كدورية "الاستغراب" التي تصدر عن المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية.  

لكن قبل أن تأخذنا تلك المقدمة إلى استيهامات شتى، لا بدّ أن نستشهد بما أورده موريس أولَنْدر(1) عن الفيلسوف لايبنتز وخاصة في دراساته الفيولوجية بأن اللسان الجرماني صدر من شعوب تحدّرت من نسل شيت؛ ثالث أولاد أبي البشر، آدم. استهدفت دعوة لايبنتز أن يتم استبعاد الأصل السامي بيولوجيّا ولسانيّا عن الشعوب الجرمانية والأوروبية عمومًا، مع أن الغصّة اللغوية التي تبنّتها الكنيسة، وخاصة القديس أوغسطين، هي أن اللسان البدئي كان عبريّا، ظلّت كالقذى في العين الأوروبية، إلى أن قدّم وليام جونز وثيقة ولادة فكرة الأصل الهندوأوروبي للغات الإغريقية واللاتينية في عام 1786 إلى جمعية كالكوتا، بعدما لاحظ الوشائج القوية بينها وبين السنسكريتية الهندية. جاء تأصيل جونز مناسبًا للنزعة الآرية في أوروبا، وخاصة لكون اليهودية  قد أعطت أوروبا عقيدتها المسيحية، فكان من حتمية الصراع اليهودي- المسيحي أن يتم البحث عن جذور أخرى للغات الأوروبية، بعد ما  كان قد أنجز الإغريق والرومان القطيعة المعرفية مع التراث السامي على صعيد الفلسفة والعلم، ولم يبق إلا القطيعة اللغوية التي أوقد جذوتها وليام جونز.

إن المركزية الأوروبية لم تكن لتتم، إلا باستبعاد ما اعتبر عناصر دخيلة عن أرضها، لكي تكون قادرة على فرض تلك المركزية على بقية شعوب العالم. وهنا لا بد أن نتساءل: أليس الاستشراق على الرغم من زينته الفكرية صيغة استبدادية قمعية تبتعد عن الإنسانية، مع أنه قد رفع شعارات تهدف إلى الأخذ بيد الشعوب المتخلِّفة، كي تصعد سلم الحضارة، فما الذي يمنع أن يتحول الاستغراب لدينا إلى نسخة سيئة من الاستشراق الغربي؟ فهو بقدر ما يواجه الهيمنة الغربية، فقد يقمع العناصر المختلفة، لكن الغنية حضاريا في الشرق، كي تصفو له مركزيته على عناصر مختارة كما فعلت أوروبا. لكن لنا أن نستشهد بمقولة الطهطاوي الاستغرابية في كتابه "تخليص الابريز في تلخيص باريز"؛ جوابًا على تخوّفنا: "سافرت إلى فرنسا، فوجدت إسلامًا بلا مسلمين. وحينما عدت إلى مصر، وجدت مسلمين بلا إسلام".

الطهطاوي في كتابه "تخليص الابريز في تلخيص باريز": "سافرت إلى فرنسا، فوجدت إسلامًا بلا مسلمين. وحينما عدت إلى مصر، وجدت مسلمين بلا إسلام" 


تأتي أهمية مقولة الطهطاوي من قدرتها على نقد الواقع، فلن يصحّ لنا علم استغراب حقيقي وموضوعي من دون نقد ذاتي، كما حدث في أوروبا في عصور نهضتها وتنويرها، مع الأخذ بأن لا يتحوّل علم استغرابنا إلى موضعة الآخر، ونفي الذاتية عنه، فننتج نسخة مشوهة وضدية للاستشراق، لن تكون إلا وبالًا علينا. ولا ريب أن استشهاد سعيد(2) بمقولة القس هوغو أف سان فيكتور إلا تأكيدًا على ضرورة أن لا يتحوّل استغرابنا إلى استشراق آخر: "ولذلك، فإنه لمصدر فضيلة عظيمة للعقل المجرِّب، أن يتعلّم شيئا فشيئا، أولًا أن يتغيّر في الأمور المرئية والزائلة، كي يكون قادرًا بعد ذلك على أن يخلّفها وراءه تمامًا. إن المرء الذي يجد وطنه حلوًا ما يزال غضًا مبتدئًا؛ وأمّا من يكون له كل ثُرى مثل ثُرى بلده الأصلاني فلقد اشتد عوده؛ لكن الكامل، هو الذي يرى العالم كلّه بالنسبة له مكانًا أجنبيّا. إن الروح اليافع قد ركّز حبّه على بقعة واحدة من الأرض؛ والشخص القوي قد نشر حبّه على الأمكنة كلّها؛ وأمّا الرجل الكامل فقد أطفأ شعلة حبّه". لنا أن نتجاوز ونرى الطهطاوي كالشخص القوي الذي نشر حبّه على الأمكنة كلّها. ومن هنا، لا بد من العودة إلى الماضي لندرس مركزيتنا، ونرى استغرابنا تجاه الشعوب والعقائد والأمكنة الأخرى، كي تتضح لنا الأمور، وعلى أي أسس سنبني استغرابًا يحقّق مقولة القس هوغو فيكتور في الرجل القوي، لأن مقولته في الرجل الكامل ستبقى حلمًا جميلًا ومستحيلًا للبشرية جمعاء.

كان للعرب استغرابهم الخاص بهم في الماضي، بعد أن حازوا مركزية قوية نتجت عن ظهور الإسلام، ووراثتهم إمبراطوريتين قويّتين؛ هما الفرس والروم، فطفقوا يقسّمون الأرض والناس من منطلقات دينية وقيمية وأخلاقية وجغرافية. وعندما اطلع الغرب على تلك الثقافة بدأ تأثير المركزية العربية يظهر، فلقد كان لابن سينا في الطب، وابن رشد في الفلسفة على سبيل المثال، التأثير الكبير على أفكار النهضة الأوروبية وخاصة الرشدية، حيث اعتبر ابن رشد الشارح الأكبر لأرسطو، وعنه عرفت أوروبا التراث الفلسفي. يذكر محمد عابد الجابري أمثلة على ما يمكن أن نعتبره مؤشّرًا على المركزية العربية(3)، فها هو أحد رواد النهضة الأوروبية بيكو ديلا ميراندوا يقول: "لقد قرأت في كتب العرب أن ليس ثمة في الكون شيء أكثر روعة من الإنسان". ويذهب بيير أبيلار للقول: "الله يعلم كم مرة فكّرت تحت ضغط يأس عميق في الرحيل عن الأراضي المسيحية والعبور نحو (المسلمين) للعيش هناك في سلام، دافعًا الجزية، لأعيش مسيحيّا بين أعداء المسيح". إن التوقّف عند هذين المقولتين يذكرنا بمقولة الطهطاوي عندما صدمته الحضارة الأوروبية فلم يدنها، بل وجدها معبّرة عن الإسلام، لكنّه لم يجد المسلمين.

الجذور التراثية لعلم الاستغراب

لا يمكن أن يكون هناك من استشراق أو استغراب إلا بوعي وجود الآخر، وضرورة تحجيمه وإعلاء الذات المستشرقة أو المستغربة.

وإذا عدنا إلى العصر الجاهلي نجد التأثر بقوة الروم سياسيّا وثقافيّا، فامرؤ القيس ذهب إلى قيصر عندما أراد أن يستعيد ملكه:                                                                           

وَلَو شاءَ كانَ الغَزوُ مِن أَرضِ حِميَرٍ

وَلَكِنَّهُ عَمدًا إِلى الرومِ أَنفَرا

بَكى صاحِبي لَمّا رَأى الدَربَ دونَهُ

وَأَيقَنَ أَنّا لاحِقانِ بِقَيصَرا

فَقُلتُ لَهُ لا تَبكِ عَينُكَ إِنَّما

نُحاوِلُ مُلكًا أَو نَموتَ فَنُعذَرا.

إن لجوء امرؤ القيس إلى قيصر الروم أتى من إدراكه لمركزية الروم في ذلك الزمن، لذلك أشاح بوجهه عن أصوله اليمنية، واتجه نحو القوة المسيطرة. وها هو طرفة بن العبد يستشهد في معلقته بروعة البناء الرومي:                                                             

كقنطرة الرُّوميِّ أقسمَ ربها

لتكفننْ حتى تُشادَ بقرمد.

وفي قصة بناء الكعبة استخدمت قريش بنّاءً روميّا، كما جاء في كتاب: الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام.

إن الاحتكاك العربي الإسلامي مع المركزية الرومية والفارسية كان على صعيد العقيدة الدينية مضافًا إليها القوة السياسية والاقتصادية والثقافية، لكن مع العصر الأموي ومن بعده العباسي، انقلبت المركزية من الروم والفرس، لتصبح عربية إسلامية. ولم يعد من داع لسؤال الحجاج لأحدهم عن تصنيف البلدان، وإن كانت إجابة هذا الجغرافي إشارة مهمة إلى المركزية الرومية قبل أن تنقلب الأمور، وتصبح لصالح الفاتح الجديد (4): "نزلوا بحضرة الروم، فأخذوا من ترفهم، وصناعتهم وشجاعتهم".

كلما توغل المسعودي في وصف أهل الشمال الأقصى انحدرت صفاتهم، حتى وصفهم بالبهائمية  



يناقش موريس أولندر فكرة العناية الإلهية التي تبنّتها النزعة الأوروبية، فإذا كان الإله قد خصّ اليهود بالتوحيد، إلّا أنه قد منح الأوروبيين عنايته، كي يسيروا بالتاريخ إلى غايته. وليس بعيدًا عن المعنى، فقد قسّم المسلمون العالم في تاريخهم إلى ديارين؛ ديار السلام/ الإسلام، وديار الحرب/ الكفر. لقد شكل العالم الإسلامي في ذلك الوقت قلب القارات الثلاث القديمة، وعلى حدود هذا العالم الإسلامي توزّعت ديار الحرب/ الكفر، التي تنتظر أن يفتحها المسلمون كي تعمّها الحقيقة الإيمانية الإسلامية. وقد تشكّلت استنادًا إلى هذا التقسيم رؤى استغرابية تتعارض فيها الذات العربية الإسلامية مع الذات الأخرى الكافرة. تمثل الذات العربية الإسلامية القيمة الحضارية الرفيعة والإيمانية الصحيحة، فيما الذات في بلاد الحرب تمثّل الخمول والتخلف والكفر وحتى التوحّش. وقد ظهرت هذه القسمة الضيزى في سياسات ذلك العصر وثقافته، ولربما أكثر ما يكشفها لنا أدب الرحلات والمؤلفات الجغرافية، لأنها احتوت الآخر المخالف والخاضع لنظرة استغرابية تحطّ من مكانته الإنسانية والجغرافية. وقبل أن ندخل غمار تلك الرحلات والتأليفات الجغرافية، لا بد أن نذكر نصًا للجاحظ يكاد أن يكون أصلًا لفكرة العناية الإلهية التي خصّت بها السماء الشعوب الأوروبية، كمسوغ لها لسيادتها، كما شرح أولندر. ولأن الصراع في زمن الجاحظ بين العرب والروم كان في أحد جوانبه يتجلّى بمن هو الأحقّ بورثة المعارف والآداب الإغريقية وتمثلها، فقد كان الجاحظ يهدف إلى إخراج الروم من تلك الورثة الفكرية، فهو يقول(5): "ولو علمت العوام أن النصارى والروم، ليست لها حكمة... إلا حكمة الكفّ من الخرط والنجر والتصوير، لأخرجتهم من حدود الأدباء، ولمحتهم من ديوان الفلاسفة، لأن كتاب المنطق والكون والفساد، وكتاب العلوي، لأرسطاطاليس، وليس برومي ولا نصراني...". ويتابع الجاحظ بأن إقليدس وجالينوس وغيرهما من علماء الإغريق ليسوا بروم أو نصارى، إنما ينتمون إلى أمة بادت، وقد ورثها الروم والنصارى، لتقارب الديار. ومن ثم يقول، لقد فاخر هؤلاء بما ورثوه. نستطيع أن نستخلص من نصّ الجاحظ آليات الصراع الحضاري، فكل ينسب لنفسه القيم الحضارية، ويخلي الآخر منها.

نظرية الكيوف الطبيعية(6)

من المكن تلخيص نظرية أرسطو في الكيوف الطبيعية بارتباط الطبع البشري بالمناخ، حيث أعطت هذه النظرية ميزة للأقوام التي تسكن المناطق المعتدلة المناخ، من حيث المعرفة والرقي والحضارة. تعود طروحات نظرية الكيوف الطبيعية إلى بطليموس الذي قسّم العالم إلى أقاليم؛ عد الأوسط فيها، هو الأفضل، أمّا جالينوس وأبقراط فقد مهّدا لربط الطبائع بالأعراق البشرية. ولقد تم التعالق بين هذه الطروحات إلى تقديم نظرية معرفية، يتم وفق مقتضاها تقسيم البشر بين الجيد والسيء. ولقد استخدمها أرسطو حيث اعتبر اليونان وسط الدنيا، وهي المنطقة التي تصلح لقيام الحضارة، وما عداها، هم أقوام من البرابرة.

تلقف الجغرافيون العرب القدامى هذه النظرية، وشرعوا على أساسها في إطلاق أحكام القيمة على الشعوب، فقد اعتبر المسعودي(7) أن الأرض تنقسم إلى أربعة أقسام، حيث اعتبر الشرق ذا طبيعة ذكورية، مقابل الغرب الذي اعتبره ذا طبيعة أنثوية، فأهل الشرق يتصفون بطول أزمنة الملك والأعمار، وعزّة الأنفس، ومعرفة بالعلوم والسياسة والتاريخ، أمّا أهل الغرب فهم ذو طبيعة مؤنّثة، تكثر لديهم الآراء والملل. وأهل الشمال بالنسبة للمسعودي؛ أغبياء بسبب البرد، فتضخمت أجسادهم وتوعّرت أخلاقهم وتبلّدت أذهانهم، وثقلت ألسنتهم، وأبيضت ألوانهم. وكلما توغل المسعودي في وصف أهل الشمال الأقصى انحدرت صفاتهم، حتى وصفهم بالبهائمية. فيما أهل الجنوب قرب خطّ الاستواء، هم على العكس من أهل الشمال من حيث اللون، لأن الشمس تعامدهم طوال العام، فأحرقت واسودّت أجسادهم، واحمرّت عيونهم وتوحّشت أخلاقهم. ولم يختلف عنه ابن خلدون(8) في مقدمته بإسناد الطبائع البشرية إلى الأقاليم، فاعتبر الإقليم الأوسط هو الأفضل، وما يحاذيه من شمال وجنوب، هما أقل مرتبة. وبالنسبة لابن خلدون الأخلاق يمنحها الإقليم والطبيعة.

تكاد نظرة المسعودي وابن خلدون جامعة لآراء الجغرافيين العرب، فمن ابن خرداذبة إلى قدامة بن جعفر، والهمداني، والإصطخري، وأبو الفداء، وغيرهم من الجغرافيين، لا تخرج تلك التقسيمات عن اعتبار ديار الإسلام هي مركز الحضارة، وفي رأس سلّمها، وما عداها ينحدر باتجاه الكفر، وصولًا إلى البهائمية.

استهدفت دعوة لايبنتز أن يتم استبعاد الأصل السامي بيولوجيّا ولسانيّا عن الشعوب الجرمانية والأوروبية  



كلّ الطرق تؤدّي إلى روما، بل إلى بغداد

اتضحت بشكل جليّ المركزية الكبيرة للعالم الإسلامي في العصر العباسي، وليس من الغرابة بمكان أن ينادي هارون الرشيد السحابة بأن تمطر حيث تشاء، فإن خراجها له. وعندما انطلقت البعثات الدبلوماسية والرحلات باتجاه الأقاليم الأخرى شرقًا وشمالًا وجنوبًا، حملوا معهم تلك السطوة المركزية للديار الإسلامية، ومن خلالها تم وصف البلدان والشعوب والديانات، وأقاموا أحكامهم الوصفية استنادًا إلى أنهم على جادة الصواب، أمّا الآخر، فهو في الضلال.

وعندما نطلع على وصف ابن فضلان، الذي كان في عداد بعثة دبلوماسية، بناءً على طلب ملك الصقالبة يلطوار من الخليفة المقتدر، كي يرسل إليهم من يعلِّمهم أصول الدين الإسلامي، نجد ابن فضلان مصدومًا من التنافر الحضاري، فيقول: "وهم أقذر خلق الله، لا يستنجون من غائط، ولا بول، ولا يغتسلون من جنابة، بل هم كالحمير الضالة". ولا يفوت ابن فضلان الإشارة إلى عدم الحشمة بين الذكور والإناث، فلم ينجح أبدًا في منعهم من السباحة عراة. وذات الملاحظة تتكرّر عند ابن بطوطة تجاه شعوب الشرق الأدنى. وفي رحلة ابن جبير يمر بجزيرة صقلية بعد أن استردها النورمانديون من المسلمين، فيقول: "وهذه المدينة، مقصد جواري البحار، كثيرة الأرفاق، برخاء الأسعار، مظلمة الآفاق بالكفر، لا يقر فيها لمسلم قرار.. مملوءة نتنًا ورجسًا".

هذه الأحكام الجائرة من الرحّالة لم تغيرها وقائع الحال، فقد زهد يلطوار ببعثة المقتدر، بعدما تبيّن له أن أفراد البعثة قد خانوا الأمانة، لذلك عاب عليهم خيانة الخليفة الذي يخاف ذكر اسمه وهو بعيد عنه، فكيف تجرأوا على ذلك. كذلك لم تتبدّل أحكام ابن جبير على الرغم من الأحوال الجيدة لجزيرة صقلية تحت حكم النورمانديين. ومع ذلك نستطيع أن نقول إنهم كانوا موضوعيين إلى حدٍّ ما، فها هو الطرطوشي الذي اخترق وسط أوروبا، والذي وصف أهلها، بأنهم أهل غدر ودناءة، لا يغتسلون في السنة غير مرة، ويلبسون ثيابهم الداخلية حتى تتهرأ ولا يغسلونها؛ وهم في ذلك يعتقدون بأن بقاء الأوساخ على أجسادهم أصحّ لها. وقد أخبر عن لغة البرتونيين بأن الأسماع تمجها ولهم مناظر قبيحة ومع ذلك وصفهم الطرطوشي بالشجاعة.

تتكرّر تلك الأوصاف عند الجغرافيين والرحّالة العرب، لكنها كانت تتغيّر حقًّا، عندما تصدمهم بلاد كالهند بحكمتها، فكانوا ينقلون مشاهداتهم بكل موضوعية. يقول المسعودي بأن أساس الملك هو العدل. وقد وجد تطبيقا لهذه القاعدة في الهند والصين. وذهب اليعقوبي إلى أن أهل الهند فاقوا الأمم الأخرى بالعدل والحكمة. وقد دهش ابن بطوطة من التنظيم الإداري والسياسي والعدلي في الصين، ومثله فعل أبو دلف مسعر في رحلته إلى الصين.

لم يعد الدين هو المؤسّس للأحكام التقييمية والوصفية، عندما يكون واقع الحال متجاوزًا لما عرفه الرحّالة والجغرافيون العرب من حضارة تتجاوز المركزية الإسلامية. فقد قبلوا العدالة الأرضية في الهند والصين وأغدقوا عليها الأوصاف الجيدة. إن تبصرًا في ذلك يذكرنا بمقولة الطهطاوي السابقة الذكر. وبناء عليه لا نستطيع أن نحكم على الاستغراب في تراثنا، بأنه يتشابه مع الاستشراق الأوروبي في حاضرنا، فالمعطيات كانت مختلفة. لكن مع الاستشراق الأوروبي حيث تغيّرت المعطيات، وهدمت الكثير من الخرافات كنظرية بطليموس في الأقاليم ومن بعدها نظرية الأعراق، كان لا بد للاستشراق الأوروبي أن يكون أكثر قبولًا للآخر، لكن ذلك لم يحدث.  

لقد تحاور الشرق والغرب في تراثنا على قدر المستطاع في تلك الأزمنة. وإذا كنا نبتغي علمًا للاستغراب يقف في مواجهة الاستشراق، فليكن المقطع الذي ختم به إدوارد سعيد كتابه عن القس هوغو أف سان فيكتور بوصلة؛ تجعل استغرابنا رائده الإنسان أولًا وأخيرًا.

المصادر:

1- لغات الفردوس، موريس أولندر، صدر عن هيئة البحرين للثقافة والآثار- المنامة 2016.
2- الثقافة والإمبريالية، إدوارد سعيد، صدر عن دار الآداب، الطبعة الرابعة – بيروت 2014.
3- في نقد الحاجة إلى الإصلاح، محمد عابد الجابري، صدر عن دراسات الوحدة العربية- بيروت 2005.
4- معجم البلدان، ياقوت الحموي، دار صادر- بيروت.
5- البيان والتبيين، الجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، الناشر مكتبة الخانجي.
6- السياسة، أرسطو، صادر عن الهيئة المصرية للكتاب.
7- التنبيه والإشراف، المسعودي، الناشر مكتبة الشرق الإسلامي- القاهرة 1938.
8- مقدمة ابن خلدون، الناشر دار يعرب- 2004.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.