}

عن سينمائيّين فلسطينيّين يسيئون إلى شعبهم وقضيّتهم بأفلامهم

جورج كعدي جورج كعدي 1 مايو 2022
آراء عن سينمائيّين فلسطينيّين يسيئون إلى شعبهم وقضيّتهم بأفلامهم
من فيلم "المخدوعون" للمخرج توفيق صالح

ليس مبالغة القول إن عين مخرج عربيّ، غير فلسطينيّ، على القضيّة الفلسطينيّة هي في حالات معيّنة أفعل وأكثر جدارةً وشرفًا لهذه القضيّة الجليلة المقدّسة من عيون مخرجين فلسطينيين تدور حولهم وحول أفلامهم مئة علامة استفهام. فيوم أنجز المخرج المصريّ الكبير الراحل، توفيق صالح، فيلم "المخدوعون" (1972) عن رواية كبير الروائيين الفلسطينيين المبدعين، الشهيد غسان كنفاني، والتي حملت عنوان "رجال تحت الشمس"، كان أصدق من سينمائييّن فلسطينييّن يدّعون أنّهم يخدمون وطنهم وقضيّتهم بأعمالهم، فيما هم يفعلون العكس تمامًا! كذلك هي حال أي مخرج عربيّ يحمل همّ القضيّة الفلسطينية بصدق، قلبًا ووجدانًا، مثل اللبنانيّ الذي غادرنا قبل فترة قريبة، برهان علوية (فيلم "كفرقاسم"، 1974)، على سبيل المثال لا الحصر، أو حتّى مثل السينمائيّ العالميّ والمعلّم جان ـ لوك غودار، أحد ألمع روّاد "الموجة الجديدة" الفرنسيّة، الفريد والمثقّف والمجدّد والملتزم (له فيلم "هنا وهناك"، 1976، وثائقيّ على طريقة دزيغا فرتوف حول الفدائيين الفلسطينيين) على عكس رفيقه الصهيونيّ فرنسوا تروفّو... يشرّف كلٌّ من هؤلاء وأمثالهم سينما الحقيقة والالتزام والنضال، على نحو مناقض لـ"سينمائيين" فلسطينيين يتسابقون لنيل رضى الغرب، وحصد جوائز المهرجانات العالمية الكبرى (معظمها مُدار صهيونيًّا)، ساعين في خطابهم السينمائيّ ومواضيعهم إلى كسب ودّ المستعمر الذي كان في أساس إنشاء الكيان الصهيونيّ المحتلّ، والمتسبّب بمأساة الشعب الفلسطينيّ المستمرّة منذ أربعة وسبعين عامًا، وفي مقدّم هؤلاء المستعمرين الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وهولندا، وسواها العديد (مهرجانات كان وبرلين والبندقيّة، وهي الأكبر والأكثر "صدقيّة" و"فنيّة"، محكومة من جهاز إداريّ صهيونيّ).







هذا المدخل إلى صلب موضوعي يتّصل بواقعة سينمائيّة وسجال أليم أشعله فيلم "صالون هدى" (2022) للمخرج الفلسطينيّ هاني أبو أسعد (ابن الناصرة) الذي لم تقف إساءته لقضيّة وطنه وشعبه، في قراءتي، عند هذا الفيلم من تأليفه وإخراجه، بل تعدّته إلى فيلم آخر، من إنتاجه فقط هذه المرة تحت عنوان "أميرة" (2021)، للمخرج المصريّ محمد دياب (ما له هذا وللقضية الفلسطينية بعد فيلمه الناجح والمميّز "678"، الذي يعود إلى عام 2010، حول مسألة التحرّش الجنسي في القاهرة، ومن ثمّ "اشتباك" الذي عرض في تظاهرة "نظرة ما" ضمن مهرجان كان عام 2016، ولمَ يُقحم أنفه في قضية لا يعرفها جيدًا، ولا يحياها بالوجدان الإنسانيّ والسياسيّ الملتزم؟!). هذان الشريطان المسيئان، كل منهما في جانب معيّن، للقضية الفلسطينية، بل للإنسان الفلسطينيّ، هما موضوع وقفتي النقديّة هنا، لأخلص ـ في اختصار يفرضه ضيق المجال، على أن أعود لاحقًا إلى معالجة أوسع لموضوع السينما الفلسطينية ـ إلى مدّ أصبع الاتهام في اتجاه سينمائيين فلسطينيين حصدوا الشهرة والجوائز محليًّا وعربيًّا وعالميًّا، وقد أضحوا بالنسبة إليّ (وبالتأكيد إلى آخرين) محطّ تساؤل حول توجّهاتهم السينمائية، ومن يدعمها ويوجّهها ويشجعّها ويقف خلفها، في الغرب.
أعلن بدءًا أسفي على دعم هاني أبو أسعد على صفحات صحيفة "النهار" اللبنانية والتي كنت ناقدها السينمائي لخمس عشرة سنة متواصلة، متولّيًا أيضًا تغطية كبريات المهرجانات العالمية، قبل أن أصبح رئيسًا لصفحتها الثقافية طوال سبعة أعوام. فيوم خرج فيلمه المشهور "الجنّة الآن" وقعتُ ربما عن حسن نيّة وعن رغبة متسرّعة في دعم مخرج فلسطينيّ نال تقديرًا عالميًّا، وربّما لأن فيلمه كان بالفعل متينًا لناحية صنعته السينمائية (رغم شكّي آنذاك في خطابه المزدوج والمشكّك في جدليّة مفتعلة، بات مشكوكًا فيها بالنسبة إليّ اليوم، حول مسألة الاستشهاد الانتحاريّ)...إلاّ أنني أُعيد حساباتي الآن ويساورني أسفٌ على التقدير المبالغ فيه، إزاء سينمائي هاجر من الناصرة إلى هولندا. وأنا نادم على جلوسي إلى هاني أبو أسعد بحفاوة واحتفاء لإجراء حوار معه، بل ولـ"تمجيد" فيلمه المتين إنما المشكوك في أهدافه! كما أنّ شكّي بات يمتدّ اليوم إلى ابن آخر للناصرة، إيليا سليمان، الذي أفسحت له أيضًا صفحات كاملة في "النهار"، فضلًا عن حوار شامل بجزأين، وهو الذي يتقن تحت غلاف سخريته السوداء فنّ جلد الذات فلسطينيًا، أي التمادي في انتقاد أخلاقيّات الفلسطينيين الاجتماعية وتبادلهم الأذى والكراهية، كأنّ العلّة فيهم وليست في المغتصب المحتلّ، وهذا تمامًا ما يفرح الغرب ويهلّل له ويستطيبه. وأعتقد أن كليهما، هاني وإيليّا، يطمحان إلى الشهرة والجوائز العلمية، وإلى خَطْب ودّ الغرب ورضاه وأياديه المصفّقة. وربّما يطول شكّي لاحقًا، بعد التأكّد والتيقّن، آخرين ينبغي لي مزيد من التمعّن في خفايا خطابهم السينمائيّ وخلفيّاته. وفي الوقت ذاته أرجّحُ أن ينجو من الشك والانتقاد آخرون.. ولكن لكل حادث حديث.

 هاني أبو أسعد 




بالعودة إلى "صالون هدى"، فإن أبو أسعد يطرح فيه "جدلية" جديدة حول "الولاء والخيانة"، مثلما فعل في "الجنّة الآن" يوم طرح "جدليّة" العمليات الاستشهاديّة الانتحاريّة وجوازها من عدم جوازها، على النحو الذي يخدم المجتمع الصهيونيّ والغرب، ولا يخدم البتّة وطنه فلسطين وشعبها ومقاومتها البطلة المستمرّة في بطولاتها حتى اليوم. لم يفعل أبو أسعد آنذاك سوى طرح الشكوك حول الاستشهاد والاستخفاف به (نتذكر جيدًا المشهد الساخر لتسجيل الاستشهاديّ رسالته الوداعية لذويه أمام الكاميرا وكيف حوّلها إلى هزل وضحك)، ويا للأسف، وقع معظمنا، نقادًا وجمهورًا سينفيليًّا، في خديعة أبو أسعد، إذ أبهرنا بصنعة سينمائيّة متينة ولافتة جدًا صرفتنا عن السمّ المدسوس في العسل. وها هو يعيد الكرّة اليوم، تحت غلاف "التشويق"، فيجعل من نساء فلسطين ورجالها أناسًا يستسهلون الخيانة طوعًا، وبخاصة عبر شخصية هدى (منال معوض)، التي تجنّد نساءً فلسطينيّات في صالونها لتزيين الشعر كي يعملن لحساب "الموساد"... إغواءٌ وتخديرٌ وتعريةٌ جسديّة مصوّرة معدّة للابتزاز والتهديد بالفضح... ولن أغوص أكثر في "الحبكة" البوليسية التافهة التي تمخّضت عنها مخيّلة أبو أسعد الميّالة بقوّة إلى المنطق الإسرائيلي، بل تكفي الإشارة إلى مشاهد في فيلمه ترينا رجال المقاومة الفلسطينية يقومون بأفعال وحشيّة، كالتعذيب والحرق بلا رحمة، مظهرًا في المقابل تمتّع الاستخبارات الإسرائيلية بالتمدّن والنوايا الحسنة!
لا يكتفي أبو أسعد بهذا القدر من التنكيل بنساء فلسطين ورجالها عبر جعلهم عملاء "تحت وطأة الحاجة" و"صراع البقاء"، بل يمضي إلى تبنّي مشروع آخر لصديقه المصري محمد دياب، الانتهازيّ في دوره، كي يعالج في فيلمه "أميرة" جدليّة أخرى (هاني أبو أسعد ملك إنتاج الجدليّات!) تتعلّق بقضيّة نقل "النطفة" من سجين إلى زوجته كي يتمّ الحمل الاصطناعيّ... الفيلم أثار غضبًا واستهجانًا واسعين، في فلسطين وخارجها، إذ يسخّف قضيّة إنسانيّة واقعيّة ومؤلمة تستحقّ أن تعالجها السينما برهافة وصدق وشعور إنسانيّ، لا في أسلوب بوليسيّ (مرّة أخرى؟!) بلا معنى، ولا إنسانيّ، يخدم أيضًا التوجّهات الغربية وتوجيهاتها ثيماتٍ ومعالجات!




في رأيي، ثمة إساءة مزدوجة ارتكبها أبو أسعد مُخرجًا في "صالون هدى"، ومُنتجًا في "أميرة"، لكي تكون إساءته مكتملة، وليرضي أسياده المنتجين فيغدقوا عليه العطاءات والمزيد من الأفلام "العظيمة" التي ينجزها ولا تخدم سوى المشروع الصهيوني في فلسطين وأوروبا وأميركا والعالم كله.
وأعتقد أن ما يفعله أبو أسعد معيب. فهو في رأيي يبني على باطل، وعلى إساءة لوطنه وشعبه، ومَن يبنِ على باطل فباطلٌ ما يبنيه. فما هكذا تُظهّر وتُحمى وتُخدم وتُنشر قضيّة فلسطين ومأساتها في السينما.

*ناقد وأستاذ جامعيّ من لبنان.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.