}

عن أحلام القومية العربية الهائمة فوق سراب الأوْهام

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 4 يونيو 2022

لا شعرةً لِمعاوية بين الأحلام والأوهام، ولا خاتم لِسليمان في برِّ السراب. "عند الفجر تحطّمت الطائرات"، وعند الظهر ضاع ما تبقّى من عِتاب، وكلُّ الوعودِ التي بثّها أحمد سعيد (1925 ـ 2018) عبرَ أثيرِ إذاعةِ "صوْت العرب" للسَّمكِ في بحرِ الوليمةِ (تَجَوَّع يا سمك) باللهجة المصريّة، باءت بالخيبةِ والخراب (المفارقةُ اللافتةُ أن الإعلاميّ المصريّ أحمد سعيد رحل في الخامس من يونيو/ حزيران 2018، بعد مرور 51 عامًا على نكسة حزيران، وعلى بثّه، لروحه الرحمة، البيانات العسكرية المتوعّدة).



يقول أستاذ العلاقات الدولية الاقتصادية في كلية لندن، فواز جرجس، إن "هزيمة العرب في حرب يونيو/ حزيران من العام 1967، التي تلتها وفاة الزعيم القوميّ العربيّ المصريّ، جمال عبد الناصر، في العام 1970، شكّلت الضربة القاضية التي أنهت القومية العربية".
أمّا المؤرّخ والصحافيّ الفرنسيّ، دومينيك فيدال (1964)، الذي ألّف العديد من الكتب عن الصراع العربي ـ الإسرائيلي، فيرى أن وهم اعتماد الفلسطينيين، لِوقتٍ طويل، على إخوتهم العرب من أجل تحرير وطنهم، "طُعِنَ في الظهر والأماني، إثر الهزيمة الساحقة التي لحقت بالجيوش العربية في الخامس من يونيو/ حزيران 1967".
في مطلع القرن العشرين، طرح المفكِّرُ اللبنانيُّ شكيب أرسلان (1869 ـ 1946) سؤالًا وجوديًّا ساحقًا ماحقًا: لِماذا تأخّرنا وتقدّم غيرُنا؟




بحسب المفكّر الفلسطينيّ، غازي التوبة، الذي هُجِّر إثر نكبة عام 1948، من صفّورية الفلسطينية نحو سورية (القومية)، فإن "الفكر القومي العربي انطلق أساسًا، باعتماد منهجيةِ المقايسة والمشابهة بين أمّتنا والأمّة الألمانية، وأسقط الوضع الألماني على وضع أمّتنا، في حين كان عليه الانطلاق من التحليل العضوي الداخلي لأحوال أمّتنا، والتوصّل، بالتالي، إلى العوامل التي بنتها في أزمان المجد". (في مفارقة أخرى، وُلِد غازي في 15 مايو/ أيار 1939، أي اليوم نفسه الذي حلّت علينا فيه النكبة بعد مولده بتسعة أعوام، وأُعلنت دولة إسرائيل).
التّوبة يمايز، ونحن، في كل هذا، نحاول الإجابة عن سؤال أرسلان، بين العروبة والقومية العربية، ويرى أن القومية العربية "أيديولوجيا حديثة منقولة عن الغرب"، وأمّا العروبة فهي: "إرث ثقافي ينبني على أمرين: الجنس العربي، واللغة العربية".
التوبة يرى أن الذين تبعوا عبد الناصر لم يتّبعوا مضامينَ عروبيةٍ عميقةَ الرُّسوخ، بل اتّبعوا شعارات، وهو ما يفسّر، بحسبه، قبولهم بالارتدادة الفرعونية غير العروبية ولا الإحيائية التي تبنّاها، بعده، محمد أنور السادات.


عنبرُ الأوهام


يا لهذه التّفاحة التي طردت آدم من الجنّة، يا لهذا الخواء الذي زيّنت قناديله حوّاء. كل المعطيات ما بعد القرن الثالث عشر الميلادي، كانت تشي أن أمّةَ العرب مقبلةٌ على زمن رديء. بهوتُ الشِّعر كان يشي بذلك. ذبولُ حواضر العلم والبحث والمعرفة. تشرذمُ القوّة. تبدّلُ الحكام من مختلفِ الأقوام. تسابُقُ الحملات الحربيّةِ التخريبيّةِ النهبيّةِ الهمجيّةِ القادمةِ من جوعِ أوروبا، وظلماتِ القزوين، وحقدِ رعاعِها جميعِها على أنوارِنا. تعاظمُ النكوص. أفولُ دمشق وبغداد.
في كل هذا وذاك، ظلّت فلسطينُ نبضَ اليقين، حافظت بيت المقدس على كل تتويجٍ مقدّس. وفي حين انفض حجّاج كل أسراب العجاج عن سامراء والفسطاط والكِنانة والأغوار والحيرة وبطون الجزيرة، وآفاق العراق، وأنواء المغرب العربي الأفريقيّ، وصولًا إلى الأندلس وحواضر المرابطين، بقيت حاراتُ القدس محجًّا، وموئلَ طيور مهاجرة، ومطلبَ علم، وسهمَ مُبتغى، ومآلاتِ سفر.
هذا تاريخٌ وهذه حقائق. وهي حقائق تحتاج إلى إعادة قراءة معمّقة ومراجعة موضوعية، فالأمة لم يكن هزيمُ الرَّعدِ الذي أطاحَ بها، على عُلاقةٍ بأعراقِها ولا نوع الدم المتدفّق في عروقها، بل كان، وبشكلٍ لم يعُد، بعد كل ما رأينا، يقبلُ الشكَّ والتّباين، مرتبطًا بخرافاتِ دينٍ قديمٍ مزّقَ التحريفُ والتجديفُ كلَّ مراجعه ووثوقياته. دِينٌ يدّعي أتباعُه، أو من انتسبوا إليه في لواحق الأمكنة والأزمنة، حقوقًا لا تقبل القسمة على اثنين، في أرضٍ لا يمكن إلا أن تقسّم على الجميع. وعليه، فالأمر ليس صراعَ قوميةٍ في مواجهةِ قومية، ولا حربَ شعارات، ولا انسلاخَ معرفيّات. إنه صراع وجود جذريّ السطوع نهائيّ التجلّي، تسبّب صلاح الدين حين هَزَمَ، بوعيهِ الاستثنائيّ، كل أحبارَ هذا الصراع، بالدافعيةِ الأكبرِ لِمعاودة الأطماعِ ومحاولةِ الكَرّ. ويتحمّل، بالتالي، الذنبَ الأفدحَ لكلِّ ما أورثهُ لنا من عداوةِ أعدائنا الذين انكشفوا أمامَه، وانفرطَ عقدُ سرديّتهم مقابلَ سرديّته.

لقطة من فيلم "الناصر صلاح الدين"


إن أيَّ فكرٍ خارج صندوق فكر صلاح الدين هو محض شعار يهتف به عبد الناصر، أو صدام حسين، أو غيرهما، من دون أي تحصّن بمعطياتٍ حقيقية على الأرض: صلاح الدين وحّد الجيوش، طهّر النفوس، سهر الليالي، أعد العدّة، قطع الفيافي، جاب الآفاق، قرأ أدق التفاصيل، استمع لأصغر الجند، احترم أوهى الحجج، لم ينم، ولم ينسَ أن العروبة ليست مسقط رأس، وإلا فإنه من أصل كردي، وكان شجَّ رأسَ آخرين غير أعداء فلسطين، والإسلام ليس حكرًا حجازيًا موتور السلالة، وإلا لكان ترك السابلة.




وحين أصبح الأمر قاب قوسين أو أدنى، سامح كأسَ نبيذٍ تسلّل إلى رأس جنديٍّ يركض ركضه ويحمل وعيه. وحينَ الوَغى ما تجبّر أو طغى. علّم الغربَ الحقودَ درسًا، وقال لنا لن تنتصروا، ولن تتجاوزوا هزيمة حزيران إلا بهذه القواعد وتلكم الأثمان.
ولعلَّ أصدق شهادات حول شخصية صلاح الدين هي تلك الآتية من مؤرخين وكتّاب أوروبيين. فها هو الفيلسوف والمؤرخ الأميركي، ويل ديورانت (1885 ـ 1981)، يصف في كتابه "قصة الحضارة" الناصر بأرقى الصفات:
"كان صلاح الدين يُعامل خدمه أرق معاملة، ويستمع بنفسه إلى مطالب الشعب جميعها، وكانت قيمة المال عنده لا تزيد على قيمة التراب، ولم يترك في خزانته الخاصة بعد موته إلا دينارًا واحدًا؛ وقد ترك لابنه قبل موته بزمن قليل وصيةً لا تسمو فوقها أيةُ فلسفة مسيحية".
وحول الشخصية التاريخية الفذة، كتب أيضًا المستشرقون البريطانيون: ستانلي لين بول (1854 ـ 1931)، وتوماس آرنولد (1864 ـ 1930)، وهاملتون جِب (1895 ـ 1971)، والمستشرق الألماني كارل بروكلمان (1868 ـ 1956)، والمؤرخ الإنكليزي إدوارد جيبون (1737 ـ 1794)، والمؤرخ الفرنسي رينيه غروسيه (1885 ـ 1952)، والمؤرخة الألمانية زيغريد هونكه (1913 ـ 1999)، والأكاديمية البريطانية كارول (أو كارولين) هيلينبراند (1943) المتخصصة في التاريخ الإسلامي. في كتابها "تطور أسطورة صلاح الدين في الغرب"، شرعت (كارول) تقول: "لم يحدث أن تعلّقت مخيلة الأوروبيين بشخصٍ مسلمٍ قدرَ تعلّقها بصلاح الدين. إنَّ تفوقه على معاصريه من مسلمين ونصارى، أقرَّ به أعداؤه الصليبيون إبان حياته. وإن صورته (حتى في ظل التعصب الأعمى للعصور الوسطى) قد بقيت نقية، لا، بل أُضفِي عليها عناصر رومانسية، في وقت كان فيه موقف أوروبا من الإسلام مزيجًا مؤسفًا من الجهل والعداء". أما المؤرخ البيزنطي نيكتاس خونياتس الذي شاهد بأمّ عينيه سقوط القسطنطينية في يد الصليبيين عام 1204م، وما فعلوه بهذه المدينة العريقة من سلبٍ ونهبٍ وهتكِ أعراض نسائها، حتى راهبات الأديرة لم يسلمنَ من هذا الفعل الفظيع. وحين شاهد، في المقابل، كيف دخلت جيوش صلاح الدين القدس، وكيف كان تعاملها وَبَصمات قائدها، فقد صرخ قائلًا: "صلاح الدين أرحم منّا وأكثر رقيًّا وتسامحًا وإنسانية".


المنتحرون الأفذاذ

في قفلةٍ موجعة، انتحر (عربي) بطل رواية "أنت منذ اليوم" للأديب الأردني تيسير سبول (1939 ـ 1973). احتاج سبول لستةِ أعوام بعد هزيمة حزيران 1967، وخمسة أعوام بعد صدور روايته، ليصل إلى باب مسدود. أيقن أن حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 لم تكن دربًا للخلاص من الأحزان الصحراوية، ولا جسرًا نحو فلسطين. ومن لا يعرف المعنى عليه أن يراجع مخرجات هدنة (الكيلو 101). فانتحر سبول متقمصًا مصير (عربي) بطل روايتهِ العروبيّةِ المثقلةِ بالأوجاع، وأنّات المكلومين على ضياع فلسطين.
وأما الشاعر اللبناني خليل حاوي، فانتحر بعد اجتياح القوات الإسرائيلية للعاصمة اللبنانية بيروت، فمن غيره يعرف أنّه اجتياحٌ ضد فلسطين، وضد كل فدائيٍّ قد يتسلل نحو شعابها، محاولاً إنهاءَ استعمارها.
قبل انتحار سبول وحاوي، انتحر الروائي الياباني، يوكيو ميشيما، في عام 1970. كان في الخامسة والأربعين من عمره (ميشيما من مواليد عام 1925)، عندما ركض نحو الـ(الهارا كيري)، وقال كلمته في الحياة والموت والأبدية، ومأساويات الواقع المعاش، ومنها مأساة فلسطين.


الإرث الثقيل

جمال عبد الناصر



على كل حال، لم يبدأ صراع الأمة وفلسطين مع الغرب في عام 1967، الوثائق تقول غير ذلك، وأول مستعمرة إمبريالية منهجية عدوانية رفعت عمدانها في فلسطين مطالع القرن التاسع عشر، عندما أقام زمرة من طائفةٍ هيكليةٍ (تؤمن بوجود هيكل لسليمان في القدس الفلسطينية) ألمانية مسيحية نواحي عكا والجليل والناصرة. كان ذلك في حدود 1823، وتخيلوا، يا رعاكم الله، كم كان ذلك من دون تخطيط صهيوني (تأسست الحركة الصهيونية عام 1897)، ولا دعم يهودي (كان اليهود حتى ذلك الوقت مضطربي الأهداف، ممسوسي النوازع، غير واضحي الاستعمار والمضيّ في ركب الكولونيالية الغربية). فهل بغير عروبة ناضجة التجلّي يمكننا أن نهزم كل هؤلاء؟ جاء يهودٌ من رومانيا واشتروا من إخوة متنازعين على إرثِ أبيهم ولا يملكون قوت يومهم أرضًا في نواحي مرج ابن عامر، وبنوا في عام 1857 مستعمرة. ردموا، حين تمكّنوا، بحيرة الحولة، لأنها تذكّرهم بدروب نصر صلاح الدين. طمروا كل خطوط سكة حديد الحجاز لارتباطها بالعثمانيين، المرتبطين، حُكْمًا، بالعروبة والدين وفلسطين.
هو إرثٌ ثقيل، حفظوه قبلنا، وشرعوا بالردِّ عليه قبل نضوج وعينا. توارثوا الأحقاد وتواليْنا التسامح. بريطانيا (العظمى) وعدتهم وجهّزتهم وحمتهم وسلّمتهم بلادنا تسليم اليد، وكنّا أسوأ متفرّجين.
في كل هذا وذاك، نحتاج العروبة، ولا تنفعنا الحركةُ القوميةُ الآفلةُ الواهنةُ المرتكزةُ على شعارات متهافتة. نحتاج أن نَعُدّ العُدّة، ونجعل من شهيدة بحجم شيرين أبو عاقلة عنوانًا للكرامة والمعنى والإنسانية والحق المبين.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.