}

الثقافة إذ تُستخدم أداة للهيمنة وتدمير المجتمعات وقيمها وأخلاقها

جورج كعدي جورج كعدي 27 أغسطس 2022
آراء الثقافة إذ تُستخدم أداة للهيمنة وتدمير المجتمعات وقيمها وأخلاقها
(Getty)

دفعني إلى هذا المقال التعلّق الهوسيّ الذي يُظهره ابني، المقبل على الثانية عشرة من عمره، وسائر صَحْبه ورفاقه، بالألعاب الإلكترونية اللعينة (Playstation)، و"الهاتف الذكيّ"̸ Smart phone، بمختلف تطبيقاته، كـ"إنستغرام"، و"يوتيوب" (بتوافهه لا بمعارفه)، و"تيك توك"، وسواها، وإهماله مثل أبناء جيله أجمعين العادات المُثقّفة والمفيدة التي دأب عليها جيلنا، وفي مقدّمها مطالعة الكتب، قبل ظهور آفات اللهو وهدر الوقت وتفشّيها اليوم عالميًا. ورغم أنّه "شاطر"، وفق التعبير المعتمد، في تحصيله المدرسيّ، ويزاول كرة القدم، إلاّ أنّ باقي وقته مكرّس بالكامل لتلك الألعاب المدمّرة التي تلقّن أمرين لا ثالث لهما: العنف، وإضاعة الوقت على سيل من التفاهات المتدفّقة، مثل نهر يجرف معه الثقافة والحسّ السليم والفائدة المعرفيّة. لذا كان المقال الآتي في هذا المقام بمثابة صرخة احتجاج ضدّ ما آلت إليه أمورنا، يافعين وراشدين، في العصر الأميركيّ الذي يهدف إلى كيّ الوعي الفرديّ والجمعيّ وتسطيحه وإخضاعه لـ"ثقافة" الاستهلاك وحجب الثقافة الحقّة عنه خدمةً لمشروع هيمنة إمبرياليّ ماديّ له أهدافه السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة المدمّرة للبشريّة على نطاق عالميّ واسع جدًا.
أدركت الولايات المتحدة منذ زمن بعيد أنّ السيطرة على العقول تمرّ عبر إلغاء هويّات الشعوب الأخرى، وهذا ما ندعوه بـ"المثاقفة" وإبدال الهوية الخاصة بهويّة جماعية، هي بالطبع الهويّة الثقافيّة الأميركيّة. وليمسي العالم أميركيًّا ينبغي بدءًا إقناع الآخرين بتفوّق النموذج الأميركيّ على ما عداه. وبمساعدة من ممتلكي المصالح الاقتصادية الكبرى والثروات الضخمة، تمكّن الأميركيون من شنّ هجومهم الثقافيّ على الإرث الجماعيّ لدى الشعوب والمجتمعات بواسطة الأداة الثقافية. فالإرث الجماعيّ لأيّ شعب يتعلّق بلغته وتاريخه ونبوغه وكنوزه الفنية والأدبية والعلمية والثقافية، وتقاليده التي تشمل القيم الخاصة بأيّ مجموعة بشريّة، وتراثه ملبسًا وغذاءً (أي المطبخ الخاص)، وأسلوب عمل وأشكال ترفيه... وحين يتمّ تزوير إدراك شعب ما لإرثه من خلال إقصاء هذا الإرث شيئًا فشيئًا، وإبداله بإرث آخر غريب آتٍ من مصدر أيديولوجيّ رأسماليّ إمبرياليّ بعيد، فإنّ النتيجة تكون استلاب روح هذا الشعب، وتحويله إلى قطيع خاضع ومنساق للنمط الفكريّ والثقافيّ والقيميّ الجديد. وضمن الإطار العام للهجمة الليبرالية الأميركية على مستوى العالم، تهدف الولايات المتحدة إلى جعل التقاليد والتذوّق والرغبات ذات نمط واحد، أمّا الهدف النهائيّ فهو تقسيم البشرية كتلتين متواجهتين، الأولى وفيرة العدد قوامها الزبائن، أي المشترون والمستهلكون ودافعو الضرائب (بدءًا بالشعب الأميركي نفسه)، والثانية قوامها الصناعيون والتجار. بذلك تفقد الشعوب في كل مكان ردود الفعل الجماعيّة الراسخة في الذاكرة الخاصة، وتتحوّل إلى كتلة بشريّة مستهلِكة لا مبالية. ويحصل ذلك كلّه عبر تدمير النخب القادرة على قيادة الشعب سياسيًّا وثقافيًّا، ويكون هذا التدمير أكثر فاعليّة عبر أصحاب الرساميل الكبرى في أيّ مجتمع.





لنبدأ بالتلفزيون، وهو من أخطر أدوات الهيمنة الأميركيّة وأوسعها انتشارًا وتأثيرًا، وقد كان موضوع بحث وتأمّل لمفكّرين كبار أمثال كارل بوبر̸ Karl Popper، وبيار بورديو̸ Pierre Bourdieu، وغي دوبور̸ Guy Debord، وريجيس دوبريه/ Regis debray، ودومينيك وولتون/ Dominique Wolton، وجون كوندري/ John Condry، وآخرين كثر. فها الأميركيّ جون كوندري يصف التلفزيون بـ"سارق الوقت، والخادم غير الأمين"، ويرى أنّ ثمّة قلقًا من الطريقة التي ينشأ عليها الأطفال الأميركيون الذين يمضون في معدّل وسطيّ نحو أربعين ساعة أسبوعيًا في مشاهدة التلفزيون، أو في إدمان الألعاب الإلكترونية (آفة الـplaystation تتلف أدمغة الأطفال عبر العالم كلّه!)، عادًا أن الأطفال حين يتسمّرون أمام شاشة التلفزيون فإنّ دوافعهم تختلف عن دوافع الراشدين الذين يشاهدونه عامّة للترفيه عن أنفسهم بـ"سذاجة واعية"، في حين أنّ الأطفال يشاهدونه لفهم العالم أفضل، بيد أنّهم يواجهون صعوبة شديدة في التمييز بين الحقيقة والخيال، بسبب فهمهم المحدود للعالم. هم أكثر هشاشةً إذًا من الراشدين. كما أنّ العائلة والمحيط الاجتماعي والمدرسة تمارس عليهم تأثيرات مختلفة. وبين تلفزيون وألعاب فيديو، و"Cable"، و"Streaming" (Netflix النموذج الأوّل والأشدّ طغيانًا) يغدو واقع حديثي السنّ أنهم يقرأون أقلّ، ويلعبون مع أقرانهم أقلّ، وغالبًا ما تصيبهم البدانة من جرّاء الاستهلاك المبالغ فيه للشاشة الصغيرة. أضف أنّ الإعلانات عن المنتجات الغذائيّة، خاصة الـFastfood، أو الـJunkfood، الوجبات السريعة والضارّة، المغرية للأطفال، تشجّع على استهلاك الغذاء الدسم المشبع بالدهون والمتسبّب في البدانة. وعندما يفرط الأطفال في مشاهدة التلفزيون خلال ساعات طويلة فإنّهم يفقدون منافع أنشطة أخرى أكثر أهميّة لنموّهم السليم. وإذ يألفون مشاهد العنف، مثلًا، يخلصون إلى أنّ "الأقوى هو صاحب الحقّ"، وهي الفكرة المروَّج لها أميركيًّا بامتياز الشعار العنجهيّ الأقبح! God bless America). وأظهرت أبحاث متعدّدة أنّ الأطفال الذين يفرطون في الجلوس أمام التلفزيون، أو ألعاب الفيديو، أكثر عدوانيّةً من الذين لا يطيلون الجلوس أمام الشاشة. والمشاهد العنيفة لا تؤثّر في سلوكهم فحسب، بل في اعتقاداتهم وقيمهم أيضًا. كما أنّهم يخشون أكثر عنف العالم الواقعيّ، أو يفقدون الإحساس بهذا العنف، وصدمتهم حياله أدنى حدّةً.
لا هدف للتلفزيون في المفهوم الأميركيّ سوى أن يبيع. إنّه جوهريًّا أداة اقتصاديّة معدّة لغزو العقول، داخل الولايات المتحدة وخارجها. ومن أخطر المفاهيم التي يشيعها التلفزيون الأميركيّ هو مفهوم أنّ "مفتاح السعادة" هو امتلاك الثروة عبر إظهار الأثرياء الذين يقطنون منازل (فيللات) فخمة وسيّارات لمّاعة باهظة الثمن. والأكثر عبثيّة عدم إظهار الناس أثناء عملهم وكيفيّة حصولهم على تلك الممتلكات الفاخرة، فلا صلة بين الثروة والعمل، ويؤثر الأطفال الحلول الأسهل، ويستلهمون "السعادة" ممّا يريهم التلفزيون، فتقديم الناس وهم يعملون هو بالنسبة إلى معدّي البرامج وقت مهدور يصيب البرنامج بالملل، وكلّ لحظة تلفزيونية ينبغي أن تحمل إثارة، وكلّ حدث يجب أن يشدّ الانتباه.




بالنسبة إلى كارل بوبر، فإنّ التلفزيون يهدم على نحو منهجيّ الأطر التقليدية لـ"الخبرة الفطريّة"، ولا يتردّد عبر برامجه ومسلسلاته في إشاعة مذاق فظّ للقتل والعنف وبثّ اللاأخلاقيّة والتفاهة. نشهد، في تعبيره، بربريّة حديثة، وعرضًا فاحشًا مليئًا بالدم والكراهية يُضعف "مقاوِمات العنف"، ويلتهم شيئًا فشيئًا في عقول الأفراد الدفاعات المناعيّة التي كانت الديمقراطيّة قد ثبّتتها طوال قرنين منصرمين. وعند سرقة وقت الفراغ من الأطفال، فإنّ التلفزيون يصبح الأداة الرئيسة والوحيدة لتنشئتهم، مدمّرًا لديهم كل حسّ نقديّ، ومعوّقًا تكوين العقول ذات الفضول واليقظة. ويخلص بوبر إلى أنّ التنافس بين المحطّات التلفزيونية سيجعل البرامج أشدّ أذى وأكثر بعدًا عن التعلم. ومن هنا ليست مصادفة أن ينصبّ نقد بوبر الشديد على عالم الميديا، وبشكل أساسيّ على البرامج الموجّهة إلى الأطفال.


... والسينما سلاحٌ آخر

ملصق فيلم "مغني الجاز" (1927) 


باكرًا وعى الأميركيّون أيضًا الدور الأساسيّ الذي تستطيع السينما أن تؤدّيه للتأثير في العقول، وتقديم صورة إيجابيّة عن النموذج الأميركيّ، من خلال الوفرة الإنتاجية، والتبسيط المانويّ (الخير في صراعه المستمرّ مع الشرّ). فحين وُلدت السينما الناطقة عام 1927، مع فيلم "مغنّي الجاز" ̸ The Jazz Singer، تمكّن الأميركيون من جذب المواهب الأوروبية الواعدة في السينما والمسرح. ثمانون في المئة من الأفلام الهوليوودية التي اشتهرت في الفترة ما بين الحربين العالميتين، لم يكن لها أن تحقّق ما حقّقته لولا إبداع شابلن، وهيتشكوك، البريطانيين، وجوزف فون سترنبرغ، الألماني، فضلًا عن عشرات الممثلين النجوم، كالسويديّة إنغريد برغمان، والألمانية مارلين ديتريش، والأوستراليّ إرول فْلِنّ، والسويديّة غريتا غاربو، والبريطاني كاري غرانت.... بينما كان النجم الإيطاليّ مارشيللو ماستروياني الوحيد الذي حظي بشرف مقاومة هذا الجذب الأميركيّ.




إنّ ظاهرة وولت ديزني/ Disney مثالٌ واضح على العقليّة الهوليوودية، فوولت كان متعاطفًا مع النازية، ومتعاونًا مع لجنة مكارثي التي كانت تطارد الشيوعيين في الولايات المتحدة. عرف ديزني، مدفوعًا بروح الاستثمار، وبموهبة رجال الأعمال، كيف يفيد من اختراع فرنسيّ لم تمنحه فرنسا أهميّةً كافية. استغلّ ديزني توافر الإمكانات المادية الضخمة التي نعمت بها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الأولى، فأنشأ استوديو سينمائيًا ضخمًا أتقن العاملون فيه تحريك الرسوم التي تحرّك بدورها عواطف المشاهدين من كلّ الأعمار، مع إضفاء روح الدعابة والبساطة والمباشرة. ولكن لدى تحليل ديزني ومواضيعها نجد أنّها ذات تأثير مخرّب. صنع ديزني من تحف عالميّة لأمثال بيرّو̸ Perroult والأخوين غريم/ Grimm صورًا مبسّطة وطفليّة، جذّابة تصويرًا، مع حوارات هي تارة ملائكية وطورًا مخيفة لإبراز العالم المانويّ وصراع الخير والشرّ. وكان السياسيّ الفرنسيّ جان ـ بيار شوفنمان/ Chevènement محقًا عندما رأى أنّ الثقافة الأميركيّة، وسينما ديزني، إنّما تقومان بعمل خطير لدى إنتاجهما حكايات وأساطير أوروبيّة، عادًا "أنّها تحتفظ بالقصة ظاهريًّا، إلاّ أنها تحوّل معناها العميق خدمةً لنظام قيمها (أي القيم الأميركية المعروفة، كالفرديّة والاستهلاك)، بعيدًا تمامًا عن النموذج البنيويّ القائم في المجتمعات الأوروبيّة".
تنطوي الإنتاجات الهوليووديّة الضخمة على جانب لا يستهان به من مشروع "المثاقفة"، فهي تتلاعب بالتاريخ الأوروبيّ، وتعيد تركيبه وفق النظرة الأميركية. صوّرت هوليوود التاريخ الروماني في فيلم بديع، إنّما غير شريف على الصعيد الفكريّ. إنّه فيلم "كوفاديس/ Quo Vadis" (1951)، الذي يثبت هذا النهج التحريفيّ للتاريخ. عرض في صالات العالم كلّه، وقدّم مثالًا ساطعًا عمّا تستطيع الولايات المتحدة أن تفعله بثقافات الأمم الأخرى، عبر السينما.
تسيطر السينما الأميركية سيطرةً شبه تامّة على العالم، إلاّ في الفترة الأخيرة، مع تصدّي روسيا والصين لهذا الواقع المفروض بشكل خاص على أوروبا جمعاء. ويكفي أن نذكر تاريخًا مأساويًّا يعود إلى عام 1947، يوم أُرغم رئيس الحكومة الفرنسيّة ليون بلوم/ Léon blum على منح السينما الأميركية وضعًا مميّزًا في الصالات الفرنسيّة لقاء مساعدة مالية أميركية خاصة. ومنذ ذلك الحين دخل نموذجان حلبة الصراع والمنافسة، إذ هنالك ناحية النموذج الصناعيّ الأميركي الذي لا يحترم كثيرًا الإبداع والمبدعين، ومن ناحية ثانية النموذج الفرنسي المرتكز على مفهوم ثقافيّ وإبداعيّ. وما برح نفسه مستمرًّا حتى اليوم منذ اتفاقية GATT التي خسرها الأوروبيون أمام الأميركيين. ففي فرنسا تتمتع الأفلام الأميركيّة بحرّية كاملة توزيعًا، إنْ على شاشة السينما، أو على شاشة التلفزيون. والوضع في فرنسا هو نفسه في سائر أنحاء أوروبا، حيث تعاني "السينمات الوطنية" من هيمنة السينما الأميركيّة بنسبة سبعين إلى ثمانين في المئة من مجمل العروض. وفي هذا السياق، يقول المخرج السويسريّ ألان تانر̸ Tanner: "إنّ هوليوود نجحت، ليس لأنّ أفلامها أفضل، بل لأنّ الأمر متعلّق بآلة حرب مذهلة تُغْرق العالم بصور عدوانيّة تحمل أكثر فأكثر أيديولوجيا فاشيّة". علمًا بأنّ الأمر يبدو عاديًّا في سويسرا، حيث تعرض الصالات تسعة أفلام أميركية من أصل عشرة أفلام، أمّا الفيلم العاشر فمن غير الضروريّ أن يكون أوروبيًا!




كشفت إحدى الدراسات عن الآليّة التي يقوم عليها معظم الإنتاج السينمائيّ الأميركيّ، فالمبدأ الأساسيّ هو استعادة نظريّة أرسطو حول تهذيب النفس بالإيقاع الجامح الذي يولّد مشاعر مزيلة للقلق وقادرة على معالجة التوتّرات الميتافيزيقيّة التي تتجاوز الجمهور الذي هو أميركيّ أصلًا (لكنّه ليس أميركيًّا حصرًا)، فقدرة هذا الجمهور على التمسّك بثقافته تراجعت شيئًا فشيئًا، وبات يفقد وعيه لهويتّه، مرتميًا عند عتبات بدائية وغريزيّة لواقعه النفسيّ. هذا التأثير ينال من العالم كلّه في ما يخصّ فقدان وعي الهويّة الخاصة، وهذا مُرام الولايات المتحدة وغايتها بتدمير الخصائص والفرادات الثقافية لمجتمعات العالم.


... المأكل والمَلْبَس أيضًا

 الجينز أصبح سلعة عالمية (Getty) 


لكلّ بلد في العالم مطبخه الخاص وأطباقه الفريدة، تبعًا للتقاليد القديمة والعريقة، والذائقة المحلية، والإنتاج الزراعيّ والحيوانيّ الذي ينعم به. لكنّ الإمبرياليّة الأميركيّة التي تهدف إلى السيطرة في كلّ مجال خطّطت ونفّذت منذ العقود الأولى من القرن الفائت لصنع أطباق وأصناف غذاء معدّة للاستهلاك المحليّ والتصدير العالميّ، مبتكرةً الآفة الكبرى التي باتت ذات انتشار عالميّ، وهي ما يُعرف بـ"الوجبة السريعة"، أو Fast Food، والتسمية الإضافيّة هي Junk Food، أي الطعام الخالي من أيّ قيمة غذائية (ترجمته العربيّة "قمامة الطعام"!). إذًا، ابتكرت الولايات المتحدة أطباقًا بلا طعم ولا تمييز اختُزلت بأطعمة ذات شكل واحد مثل الـHot dog، والـ Humberger المشهورين. بات "السندويش" عبارة عن قطعة من اللحم بين طبقتي خبز تمرّغ بالصلصات المتنوّعة ("الكاتشاب" هو السيّد بينها، كذلك "المايونيز"، ويدلّل باسم "مايو"!)، أي "سندويش" مشبع بالمواد الدسمة، ومن هنا ظاهرة البدانة الكبرى التي تعمّ الولايات المتحدة الأميركيّة من أقصاها إلى أقصاها، حتى أنّ صديقًا لي كان حديثًا في رحلة هناك لفتني إلى ازدياد نسبة البدانة على نحو يفوق الوصف، بل رأى أنّ أكثر ما يهدّد وجود الولايات المتحدة إنّما هي بدانة الأفراد الأميركيين، رجالًا ونساءً وأطفالًا، والتي تتسبّب بأفظع الأمراض، وفي مقدّمها مرض السكّري، ونسبته هي الأعلى في العالم هناك.




بعدما كانت لأميركا أطباقها التقليديّة ومطاعمها العريقة التي تقدّم تلك الأطباق، أُدرجت كلّها تحت "يافطة" واحدة بسيطة اسمها "ماكدونالد"، وأضحى أطفالنا يدلّلونها بـ"ماكدو"، ويتلهّفون لوجباتها التافهة، إنّما المغرية، صبحًا وظهرًا ومساءً... وويلٌ للأهل إن لم يلبّوا طلب أبنائهم، فهناك البكاء وصرير الأسنان، فحجّة الولد الأولى والأفعل مع ذويه: لِمَ يأكل جميع أصحابي "ماكدو" وأنا لا؟ ويضعف الأهل وينصاعون فيحقّق الأبناء "النصر العظيم"!
نحن، إذًا، حيال "طبق أمميّ" يقدّم معه "مشروب أمميّ" لا يقلّ عنه ضررًا هو "الكوكاكولا" وفصائله المتنوّعة. وانتشرت مطاعم الـ Fast Foodمثل النار في الهشيم، وبلغت أقصى أقاصي الأرض وجِهاتها الأربع.

(Getty)


أمّا في الملبس فلدينا المثال الأسطع المتمثّل في الانتشار العالميّ لتلك "الخرقة" المسمّاة Jeans، والتي نشأت كلباس لرعاة البقر يحتمل قسوة مهنتهم وحياتهم لا أكثر ولا أقلّ، وسرعان ما أحلّه الأميركيّون مكان الزيّ التقليديّ، ويا للأسف، في الولايات المتحدة والعالم بأسره، وارتداه الرجال والنساء والشبّان واليافعون، حتّى بات زيًّا "عالميًّا" موحدًا له أشكاله وتصاميمه و"ماركاته" المشهورة والمفضّلة (مثلًا Levis)، فألغى الأزياء التقليدية، وبعضها عالي الأناقة والمزايا، على امتداد الكرة الأرضيّة، ولدى كلّ الشعوب، وفي سائر المجتمعات على اختلافها، وبخاصة في أوروبا مصنع الموضة والأناقة والتنوّع. مع انتشار "الجينز"، لم يبق هنالك تمييز لا في الجنس ولا في الشكل، فهذا اللباس الموحّد المستورد من الولايات المتحدة، أو من أي مكان، تحوّل "سروالًا عالميًا" من الأكثر تفاهة في عالم الموضة والذوق السليم. فلو دخلنا اليوم إلى أي قاعة في أي مدرسة حول العالم ونظرنا إلى الفتيان والفتيات الجالسين في مقاعدهم لألفيناهم مرتدين هذا "اللباس الموحّد"، كأنّه مفروض على أجيال بأكملها لا تريد الخروج على "الذوق الجماعيّ"!
يقول الكاتب الفرنسي المعروف فيليب سولرز̸ Philippe Sollersفي كتابه "حرب الذوق ̸ La guerre du gout" الصادر عام 1994 إنّ الليبراليّة أفسدت الحسّ الجماليّ في اللباس والغذاء والهويّة الخاصة، ووضعت الذوق العام تحت رحمة السوق ومتطلّباتها، لخلق بنية كونيّة استبداديّة وسوقيّة في آن واحد. بيد أنّ هذا الانتصار للمتزمّت يقود دومًا إلى الفاشيّة.
إنّه غيض من فيض في ما يتّصل بأدوات الهيمنة الأميركيّة الليبراليّة، أو النيوليبراليّة المتوحّشة، فالمجال اليوم لا يتّسع لأكثر من ذلك، وقد تكون لنا عودة إلى أدوات هيمنة أخرى يطول البحث في شأنها ولا يتوقّف.

*ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.