}

عليّ أن أعيش لحظتي

رشا عمران رشا عمران 12 سبتمبر 2022
آراء عليّ أن أعيش لحظتي
(عصام درويش)

سألتني صديقة عزيزة، في معرض حديث شجيّ بيننا عن عائلتها، وعن اشتياقها إلى بيتهم في مدينة حلب، عن شيء ما يخصّ عائلتي وأرغب في أن أقتنيه يومًا ما ليكون بمثابة حرز لي. في الحقيقة، لم أعرف إجابة على سؤالها، ليس لأن لا شيء في بيت عائلتي يعجبني كما قد يخيل إليكم، ولكن لأنني أشعر كما لو أنني أتممت حالة القطع النهائية مع كل ما يربطني بسورية، أو بماضي حياتي فيها.
مبدئيًا، أنا لست كائنًا نوستالجيًا، حين أقول هذا الكلام أمام أصدقاء شعراء يستغربون، ويسألونني: كيف تكتبين الشعر، إذًا؟! بالنسبة إلى كثيرين، شعراء وغيرهم، فالشعر ملازم للنوستالجيا، وربما بدأت هذه الفكرة مع هوميروس، مع رحلة أوديسيوس في العودة إلى إيثاكا، بعدما يقارب عشرين عامًا من الحرب، ثم التوهان في طريق عودته، هذا التوهان ليس سوى مكابدات الحنين إلى الموطن، إلى مسقط الرأس، حيث سترتاح الذاكرة المثقلة والمنهكة أخيرًا. من هذا الإسقاط ربما بدأ ارتباط الشعر بالحنين، وأصبحت مكابدات الذاكرة مادة للشعر على مدى العصور. لكنني لست كائنًا نوستالجيًا. هل يعني هذا أن أتوقف عن كتابة الشعر؟ يتحدث النقاد عن نوستالجيا مضادة، هي نوستالجيا المستقبل، أو حنين الوصول إلى حلم ما، المكابدات في الطريق لتحقيق الحلم المراد هي النوستالجيا المقصودة، إذ أن الوصول يعني نهاية الحلم، يكتب الشعراء أيضًا عن هذه النوستالجيا المستقبلية. أنا أيضًا لست كائنًا مستقبليًا، أنا ابنة اللحظة التي أعيش فيها، ابنة اليوم، قلت لصديقتي هذا، بعيدًا عن الشعر، وعن أسئلته، ذلك أن للشعر وأسئلته مقامًا آخر.
أن أكون ابنة اللحظة التي أعيشها يعني أنني لا أملك تلك الرفاهية التي تتيح لصاحبها أن يضع خططًا للغد وما بعده، فأنا أشعر حاليًا أنني داخل الزمن وخارجه، وداخل المكان وخارجه، والسنوات العشر الماضية محت الحدود الفاصلة بين فيزياء الزمن وكيمياء المكان، ففي القاهرة، حيث أعيش منذ أكثر من عشر سنوات، يغيب تمامًا مفهوم المنفى الذي يحدد أبعاد الزمن ومساحة المكان. في القاهرة، أتواصل مع تفاصيل الحياة كلها باللغة التي ولدت عليها، اللغة لطالما كانت وطنًا، ما يعني أنني أحمل وطني معي حيث أقيم، وطني بزمانه ومكانه، وأفرده حيث أنا لأعيش فيه ويعيش الآخرون معي.




ما هو الحنين؟ يجعلنا الحنين أحيانًا نخلط بين أشياء كثيرة، كأن نخلط بين اشتياقنا إلى مسقط رؤوسنا، وبين اشتياقنا لطفولتنا وذكرياتنا فيها، ولكن أليس مسقط الرأس/ الوطن هو مجموعة التفاصيل التي شكلت حياتنا في مرحلة ما واستقرت في ذاكرتنا لنصنفها لاحقًا بأنها ذكريات؟ الوطن ليس المكان، الوطن هو سيرتنا عن المكان وتفاصيلنا في السيرة، الوطن هو مشاعرنا حين نستعيد السيرة.
أقرأ لأصدقاء عن حنينهم الجارف لرائحة بيوتهم القديمة، لكل منهم ذاكرة احتفظت بتفاصيل بيت احتفظ هو أيضًا بتفاصيل العائلة التي عاشت فيه، الأجداد والآباء والأبناء والأحفاد. بيت واحد في حارة واحدة في مدينة واحدة، بكل التفاصيل الصغيرة التي تترسخ في الذاكرة. أفهم تمامًا أسباب صديقتي الحلبية في رغبتها بالاحتفاظ بأشياء قديمة تخص عائلتها.
قضيت حياتي أتنقل بين بيوت مستأجرة، قلت لصديقتي. ما من بيت واحد بقيت فيه لأكثر من خمس سنوات. في طفولتي، عشنا في فنادق، وفي بيوت لأصدقاء عائلتي، وفي بيوت مستأجرة مفروشة. انتقلنا بين أحياء كثيرة. ذاكرتي أتخمت بأصدقاء الطفولة، حتى فقدت تفاصيلهم، أتذكرهم كخيالات تعبر بسرعة، مثلما مروا في حياتي بسرعة، ما من سنة كاملة قضيناها في مكان واحد، سنتنا كانت مقسومة بين دمشق وطرطوس وحمص والملاجة. وفي كل مكان من هذه الأمكنة ثمة تفاصيل تستوطن الذاكرة، ما جعل منها ذاكرة متقطعة كمشاهد في فيلم سريع الإيقاع. بينما للحنين ذاكرة ممتدة بمشاهد طويلة حتى الملل لم يتح لي أن أختبرها يومًا. ولعل هذا ما يفسر تمسكي وعدم رغبتي في الانتقال من مصر إلى بلد أوروبي يمنح المتبقي من سنوات حياتي بعض الأمان. فمنذ عشر سنوات في مصر أسكن في بيت واحد لم أبدله. بدأت ذاكرتي، لأول مرة، تخزن مشاهد طويلة، البيت والعمارة والحي والشوارع والناس في يومياتهم، اللهجة أيضًا. في حياتي السورية، حفظت ذاكرتي لهجات مختلفة تكلمت بها: لهجة جبال الساحل، ولهجة مدينة طرطوس، ولهجة دمشق، ثم اللهجة البيضاء التي يعتمدها سكان العاصمة من غير الدمشقيين. في مصر، هنالك لهجتي فقط، مع اختلاطات من اللهجة المصرية. اللغة وطن كما أسلفنا، والوطن هو مشاعرنا التي نعبر عنها باللغة التي نستخدمها لوقت ممتد.




حين غادرت دمشق، على أمل العودة القريبة، تركت بيتي كما هو، لم أحمل معي منه شيئًا سوى بعض الحاجات الشخصية. بيتي كان مستأجرًا، وحين طالت مدة غيابي اختفى البيت بكل ما فيه. لم يصلني منه سوى لوحات أصلية أهداها لي أصدقاء فنانون. كل ما عدا ذلك اختفى، أوراقنا الشخصية، صورنا القديمة والحديثة، مكتبتي الضخمة، أرشيف كبير من الأسطوانات القديمة، وطبعًا فرش البيت بأكمله، حتى أجهزة كمبيوتر قديمة عليها كثير مما كتبته في حياتي، كله اختفى من ضمن ما اختفى في سورية، وهو من أقل الخسائر بالقياس إلى خسائر السوريين.. كان علي أن أردد هذا دائمًا كي لا أشعر بالأسف، كي أستطيع الاستمرار في العيش من دون حسرة. كان علي أيضًا أن أبدأ بتأسيس ذاكرة جديدة، حيث أنا. ولكي لا أسقط في فخ الحنين، كان علي أن أتعارك مع فكرة المظلومية، إذ لا شيء يغذي النوستالجيا أكثر من مظلومية نعتاد عليها في يومياتنا، وتعيق حياتنا عن الاستمرار بأقل المكابدات الممكنة.
أعرف جيدًا أن الاندماج في الحياة الجديدة بعد الخذلانات التي أصابتنا كسوريين أمر بالغ الصعوبة، والعقل البشري حين يخلق دفاعاته للاستمرار يلجأ إلى البدائل، عادة ما يكون الماضي هو البديل، نستحضره كي ننسى فشلنا في التأقلم مع الحاضر، هكذا نبدأ في استعراض ما خزنته ذاكرتنا في السابق ونفرده كل يوم أمامنا، على هيئة خواطر تعج بالحنين، أو على هيئة عرض متواصل لصور من تلك الفترة، أو على هيئة مقارنات في تفاصيل المكان ومكوناته لصالح المكان القديم، أو على هيئة الحرص على اقتناء شيء من ماضي الحياة، أو على هيئة العيش مع مجموعة بشرية لا نضطر معها إلى تغيير ما اعتدنا عليه، بدءًا بالطعام، وانتهاء باللغة. هكذا نعتني بالنوستالجيا ونربيها كما لو أنها واحدة من أبنائنا، لكننا في أثناء ذلك ننسى أن حياتنا تمضي، وأنها تمضي من دون أن نعيش في اللحظة الحاضرة. أنا ابنة يومي، قلت لصديقتي، ليختفي الماضي بكل تفاصيله طالما أن هذا الماضي هو ما جعلني موجودة في هذه اللحظة. إذًا، لأعش هذا اللحظة من دون الالتفات إليه.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.