}

في بعض الشأن الثقافي السوري

رشا عمران رشا عمران 27 سبتمبر 2022
آراء في بعض الشأن الثقافي السوري
يوسف عبدلكي / سورية

 

لطالما تميّز الوسط الفني السوري (العاملون في مجال السينما والدراما والمسرح، كتاب سيناريو ومخرجين وممثلين) بأنهم جزء من الوسط الثقافي، منضمين إلى الكتاب والصحافيين والفنانين التشكيليين (مصورون ونحاتون وفوتوغرافيون). هذا الوسط لطالما كان متشابهًا ويشكّل أفراده نخبة المجتمع السوري وقوته الناعمة التي أدرك النظام السوري جيدًا تأُثيرها، فقرّب منها كثيرين إليه، وترك لآخرين حرية إقامة فعاليات ثقافية وفنية لا علاقة للدولة بها، كان الشرط الرئيس في كل ذلك هو الابتعاد عن كل ما يقترب مباشرة من الفعل السياسي، كالمنتديات الفكرية والسياسية (فتحت لمدة بسيطة ثم أغلقت وسجن بعض مؤسسيها) أو الإعلام الخارج عن ثوابت سياسية وأمنية واجتماعية موضوعة مسبقًا وتطبق على الجميع، أو حتى الاقتراب في الفنون من كل ما يمس ولو من بعيد الشأن السياسي. وهو ما جعل من الراغبين في الاختراق قليلًا يبدعون في الالتفاف حول الرقابة الفعلية وتلك التي أصبحت موجودة داخل كل سوري بفعل عقود الخوف والمنع.

شكّل ذلك، على ما أظن، نموذجًا فريدًا في علاقة الثقافة السورية بالنظام والسلطة، علاقة فيها الكثير من البراغماتية من جهة المثقفين، وفيها ثقة مبالغ بها من قبل النظام بأن هؤلاء هم داعموه في الشدائد. ذلك أن سيطرة النظام على كل المنابر الخاصة بالثقافة والفنون كانت مطلقة، لا شريك له بها، حتى من كانت منها خاصة فأصحابها هم من دائرة النظام أنفسهم، بما يشبه عملية غسل الأموال التي تم ويتم نهبها أو توزيعها على دائرة النظام المغلقة. كان على المثقفين السوريين، في حال كهذه، البحث عن طرق للاستفادة من المنابر والاحتفاظ بلقب: المثقف العضوي والمناهض أو المدني باعتبار لقب (معارض) لم يكن لا مستحبًا ولا مسموحًا به أساسًا (يستثنى من هذه المعادلة مثقفون انتموا لأحزاب سياسية ممنوعة وقضوا سنوات طويلة في السجون أو في المنافي). هكذا كان من الطبيعي أن يتحدث فلان من المثقفين عن تاريخ نضالي ما ويتباهى بمعارضته للنظام صباحًا في المقهى، بينما في الليل يقضي سهرته مع أفراد من الدائرة الشديدة القرب من النظام، أو مع أحد أشهر ضباط الأمن المسؤول عن قطاع المثقفين. حدث هذا كثيرًا ويعرفه العديد من السوريين في الوسط الثقافي، سيما في زمن الوريث الذي روجت بروباغاندا الإعلام الغربي عنه صورة اتضح أنها لا تشبهه، فهو في الصورة الرئيس الشاب المنفتح الذي تزوج سيدة شابة من طائفة أخرى وتحمل جنسية بريطانية، شابان عصريان يركبان سيارة عصرية يقودها الرئيس الشاب وهي إلى جانبه وينزلان إلى شوارع دمشق وباقي المدن ويلتقيان المواطنين العاديين، استعارت البروباغاندا الصورة الغربية وطبقتها على الوريث السوري، هذه الصورة كان يلزمها إضافات مهمة لتكتمل، القوة الناعمة السورية المتمثلة بالثقافة والفن كانت هي الإضافات التي تم الاشتغال عليها بحرص، أصدقاء الوريث وزوجته وعائلته من المثقفين والفنانين كانوا من قلب هذا الوسط، ممن يجلسون في المقاهي والبارات التي اعتدنا السهر بها، كانوا أصدقاءنا أو أصدقاء أصدقائنا. بينما لم يكن للأسد الأب أصدقاء من الوسط الثقافي، كان محيطه مصمتًا وجافًا، جديًا وصارمًا، ومثله كانت الثقافة السورية التي لم تهتم في زمنه لا بالدراما ولا بالسينما ولا بمختلف أنواع الفنون والترفيه. صورة الأب كانت تشبه حقيقته، لم تلزمه أي بروباغاندا كما حصل مع وريثه لاحقًا.

استنكر معظم المثقفين الحل الأمني الذي تم اعتماده منذ بداية الحراك في درعا، وأرسلوا رسائل مباشرة وغير مباشرة للقصر الرئاسي حول ما يجب فعله (الصورة: درعا 2011)



في عام 2011، حين بدأت بوادر الربيع العربي تظهر في سورية، حصل ما يشبه الصدمة بين شريحة المثقفين وشريحة النظام، إذ بداية وقف معظم المثقفين من أصدقاء النظام مع الحراك الشعبي، واستنكروا الحل الأمني الذي تم اعتماده منذ بداية الحراك في درعا، وأرسلوا رسائل مباشرة وغير مباشرة للقصر الرئاسي حول ما يجب فعله، وحين بدأ حصار درعا الشهير شارك أغلبهم في التوقيع على ما سمي وقتها (بيان الحليب) الذي كان بمثابة صفعة مفاجئة تلقاها النظام من أصدقائه، وكما هو معروف لم ينتظر النظام كثيرًا ليجبر المقرّبين منه على الاعتذار عن البيان والتوقيع على بيانات مضادة، منهم من بقي في سورية وتراجع كليًا عن موقفه المؤيد للحراك، ومنهم من غادر سورية مباشرة، وهم من استمروا في إعلان موقف حاسم وواضح مع الثورة ضد النظام رغم كل الانحرافات التي حدثت للثورة، ومنهم من غادرها لاحقًا محافظًا على موقف ملتبس من الاثنين.

شكلت الثورة في البداية بوصلة حقيقية لموقف المثقفين من قضايا شعبهم ومن علاقتهم مع النظام، وحتى من علاقاتهم بعضهم ببعض، حيث اختفت الخلافات التي كانت تملأ الوسط الثقافي السوري بشقيه الأدبي والفني وكذلك السياسي، وجمع هدف التغيير المختلفين، حتى من كانوا من أقرب المقربين إلى النظام، وكان هذا بحد ذاته فعلًا ثوريًا وتغييريًا، وكان يمكن أن يكون هذا التغيير في العلاقات بين نخب الثقافة والفن والسياسة ركيزة أساسية في عملية التغيير الشاملة، لولا أن الهزيمة التي ألحقت بالحراك والثورة باكرًا وانتصار الثورة المضادة (العسكرية الجهادية) وتأييد بعض المثقفين لها واعتبارها إكمالًا للحراك المدني السلمي، أعادت إظهار الخلافات في الوسط إلى العلن. لم يستطع المثقفون السوريون المؤيدون للثورة بكل فئاتهم تجاوز ما استعادوه من خلافات ما قبل الثورة مضافًا إليه ما يفرضه شعور الهزيمة من إحباطات تغذي النرجسية والأنانية والفردانية، ضد العمل الجماعي والمؤسساتي المطلوب في حالات مثل الحالة السورية. ومع انتشار السوريين في بلاد الاغتراب وشح المنابر المتاحة للعمل، واكتشاف منافذ الفساد في المؤسسة الثقافية الأوروبية، وظهور جيل ثقافي وفني جديد، لم يكن معروفًا ما قبل الثورة، ظهرت علاقات وتحالفات جديدة مبنية على المصلحة المشتركة، واستبدل النظام بمنظمات أو جمعيات أوروبية تعطي التمويلات والمنح لا لمن يستحقها، وإنما لمن يتوافق مع أجندة هذه الجمعية أو تلك المؤسسة في الكتابة أو العمل الإبداعي.

"إن الإجابة الوحيدة على الهزيمة هي الانتصار" كما قال تشرشل ذات يوم، لكن في حالتنا السورية يبدو الانتصار أشبه بالسراب، أقصد الانتصار الجمعي واستعادة سورية من براثن الخراب والبدء بعملية بنائها، هذا السراب/ الهزيمة لن ينتج سوى المزيد من الأنانية، وللرد على الهزيمة فإن الانتصار الفردي هو فقط ما بات متاحًا، الانتصار الفردي في حالة مثل الحالة السورية يعني أن تنتصر على من هم يسيرون في نسقك ذاته ويوثقون ذات سردية الحلم والثورة والمقاومة والاستمرار التي توثقها أنت، ومثلك مشتتون في كل العالم يبحثون عن منابر متاحة. وكأنه قدر الحراك الثوري السوري بمن فيه هذا الشتات الكبير في كل شيء بدءًا من المسار وانتهاء بمصير العلاقات الشخصية بين النخب الثقافية، مجموعات وأفرادًا.

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.