}

في مسارات الرواية اللبنانية: هل نشفى من ظلال الحرب؟

رباب دبس رباب دبس 12 أكتوبر 2023
آراء في مسارات الرواية اللبنانية: هل نشفى من ظلال الحرب؟
(GettyImages)

 

لم ترقَ الرواية اللبنانية، وحتى النصف الأول من القرن العشرين، وفق باحثين، إلى مرتبة الرواية، إذ صنفها هؤلاء ضمن أدب القصص، لما زخرت به من الفولكلور والشخصيات التاريخية والتراث، وتقاليد الريف وعاداته.

كان للنهضة الثقافية التي شهدها لبنان منذ أواخر خمسينيات وحتى ستينيات القرن العشرين المنصرم (دور نشر، مجلات ودوريات، إنتعاش حركة الترجمة) تأثير في مسار الأدب القصصي على مختلف الصعد، كبروز إتجاهات جديدة يمكن عدّها فلسفية إلى جانب التيار الواقعي، وقد حمل كل منها أثرًا مما سبقه ما جعلها في تفاعلها تفضي إلى بروز "الرواية" بالمعنى الذي يعتبر فيه جورج لوكاش أنها "تكشف النقاب عن مغزى الحياة الاجتماعية لمجتمع من المجتمعات". نجد ذلك في الرواية اللبنانية التي حملت منذ ذلك الحين تحولات المجتمع في الحقبة المذكورة، إذ احتشدت فيها الثنائيات، ومن بينها مثلًا ثنائية القرية ـ المدينة بتضادهما. أصبحنا نقرأ في الرواية الواحدة نفسها، التغني ببساطة الحياة الإجتماعية في القرية، ومن ثم الثورة على كل ما فيها من ظلم الاقطاع وتقاليد الحياة الاجتماعية، في حين نجد إلى جانب ذلك توصيفًا لحياة المدينة وغوصًا في فضائها الإجتماعي الشديد التناقض، الشاسع المغري الجميل، ومن ثم القاسي والمخيف الذي يدفع الإنسان إلى الضياع والتيه.

هذا التحول والتبدل، أفقد الرواية، وفقًا لما ذكره الروائي رشيد الضعيف "الاطمئنان الإبستيمولوجي" الذي كانت تستند إليه. أخذت الرواية عندها تغرف من واقع جديد بدا مرتجًا وعاصفًا ومحملًا بالأسئلة الوجودية، حول معنى الحياة والموت والإله والوجود، كما هي الحال في رواية أنا أحيا (1959) لليلى بعلبكي، وروايتي يوسف حبشي الأشقر أربعة أفراس حمر (1964) ولا تنبت جذور في السماء (1971)، ورواية توفيق يوسف عواد طواحين بيروت (1972) التي تنبأ فيها بالحرب الأهلية اللبنانية.

الحرب، ولادة الرواية اللبنانية

لا يبدو أن الحرب الأهلية اللبنانية (1975- 1990) قد أنتجت "أدب حرب" أو "أدب معارك" وفق الناقد جورج دورليان، إذ يعتبر أن الحرب تموضعت في الروايات، سواء التي صدرت منها إبان الحرب أو بعدها، في نوعين: أحدهما تدور حبكته في فضاء الحرب ووسطها، وآخر تبقى حبكته في أطراف الحرب من دون إلغاء تأثيراتها.

هذا التموضع للحرب في الرواية شكل انعطافة ثانية لها، وبروز رواية لبنانية جديدة، مع موجة من الروائيين الجدد الذين اتخذوا، من كل ما يرمز إلى الحرب وقسوتها وعنفها، موضوعًا لرواياتهم، نذكر في هذا الإطار رواية الياس الديري الفارس القتيل يترجل (1979)، التي يحكي فيها عذابات اللبنانيين في الحرب، كما هي أيضًا رواية حنان الشيخ حكاية زهرة (1980)، التي تظهر فيها شخصية القناص متخذًا من أحد سطوح البنايات في بيروت مقرًا له لاصطياد الأبرياء والعزّل.  فيما نجد حضورًا مباشرًا للحرب وآلتها، بتواريخها ومسميّاتها الحقيقية في رواية عوض شعبان درب الجنوب (1988). بدورها تغرف رواية حارث المياه (1998) لهدى بركات من مناخ الحرب الذي نجده في الحيل التي يلجأ إليها الناس للنجاة بأقل خسائر ممكنة، فتظهر الإنسانية مقابل القسوة، والسلام مقابل العنف.


يغوص ربيع جابر في روايته بيريتوس: مدينة تحت الأرض (2005)، في تاريخ بيروت الأركيولوجي والإجتماعي والثقافي، بأسلوب غرائبي مثقل بوحشية الحرب وما سببته من دمار قلب المدينة بيروت وكل ما فيها ومن يعيش عليها إلى باطنها.

 كما يقسم إسكندر نجار في روايته بيروت (2010)، تاريخ المدينة إلى ثلاث حقبات، يروي فيها حكاية ثلاثة أجيال، إبتداء من الحكم العثماني إلى الإنتداب الفرنسي ومن ثم الإستقلال مستحضرًا الأحداث والتحوّلات السياسية والعسكرية والثقافية والإجتماعية والطوبوغرافية التي حلت بالعاصمة جراء الحرب الأخيرة، ومن ثم إعادة الإعمار التي أدت الى تغيير معالمها بالكامل.

لا زالت تأثيرات الحرب ومناخاتها وأجواءها حاضرة في أعمال الروائيين اللبنانيين الراهنة، وخاصة جيل الكبار منهم الذي عايش الحرب، مثل رواية عباس بيضون حائط خامس (2022)، حيث تمثل الحرب جدارًا خامسًا يفرق الجماعات ويقصيها بعضها عن بعض. تكسر الرواية نمطية العلاقات الإجتماعية وصورها، التي لطالما انطبعت في الذاكرة. كانت الحرب كفيلة بتغيير كل مألوف وعادي إلى قلق وغير مستقروزائل... شخصيات رواية محمد أبي سمرا نساء بلا أثر (2017)، لم تسلم بدورها من تبعات الحرب الأهلية، التي نجد رمزيتها في ذكريات فنانة تشكيلية عن تجربة انخراطها في الأحزاب اليسارية التي تعكس فيها تبعات الحرب الكارثية في حقبات زمنية مختلفة من حياتها، وحياة من حولها.



رواية الشباب: روايات المدينة وأمكنتها وناسها

كثر من الروائيين اللبنانيين من جيل الشباب لم يعش الحرب الأهلية، إلا أننا نتساءل فيم تسللت هذه الحرب إلى رواياتهم؟ فالمتأمل في النتاج الروائي الشبابي اليوم، يتضح له أن الذاكرة الجمعية للبنانيين، التي افتتنت بما أخذته الحرب إلى غير رجعة، تسربت إلى جيل الروائيين الشباب الذين وجدوا في الماضي المديني، وخصوصًا البيروتي منه، مادة جاذبة ودسمة للبحث والتقصي والإستعادة والتأريخ من منظور جديد.

في نظرة بانورامية على روايات الشباب اليوم، تظهر أمامنا خارطة مدينية بيروتية، لمناطق وأحياء وشوارع وجماعات، لكل منها حكايتها، منذ ما قبل الحرب إلى ما بعدها. نذكر في هذا الإطار الإصدارين الروائيين لإبن بيروت زياد كاج، راس بيروت، صندوق في بحر، نار على تلة (2015) وبناية. تي. في. تاكسي، الصنوبرة راس بيروت، سيرة مكان (2023)، اللتين يرصد فيهما عالم راس بيروت ونسيجه الطوائفي الفريد، والعلاقات الاجتماعية البسيطة التي كانت سائدة بين مختلف السكان، ومن ثم أفول هذا العالم الذي كانت الحرب الأهلية اللبنانية سببًا في زواله.

تدور رواية علي السقا في حي السريان (2016)، في فضاء بيروت وأمكنتها، حيث يسلط الراوي الضوء على التباينات الطبقية والإجتماعية الحادة التي ولدتها الحرب، أبراج سكنية عالية يسكنها رؤساء الميليشيات، أصحاب الثروات التي تكدست على عجل، إلى جانب أحياء يعيش فيها نسيج سكاني متنوع من أبناء الطبقات الفقيرة بوئام، والراوي من خلال مقارنته الآنفة إنما يشير إلى ذاكرة بيروت وروحها الجميلة التي خربتها الحرب.


أيضًا بيروت من تحت (2021) لفوزي ذبيان، هي قصة شارع الحمرا، المكان المديني الأشهر في بيروت، الذي كان شاهدًا على ولادة الحياة الثقافية في ستينيات القرن العشرين، ومن ثم انحلال هذه الحياة، من خلال بروز جماعات الوصوليين والمشعوذين والمادحين المنتحلين صفة الثقافة والشعر، في وصف أقرب إلى الكوميديا السوداء.

في السياق نفسه تعتبر رواية ذبيان أورويل في الضاحية الجنوبية (2017) من ضمن الأعمال التي تحكي قصة المكان الذي نما على عجل على خاصرة بيروت - الضاحية الجنوبية - بعد انتهاء الحرب الأهلية، يغوص ذبيان في هذه الرواية إلى قاع مجتمع الضاحية، ويسلط الضوء على نمط عيش الفئات الشبابية وهمومها وطموحها وانتماءاتها السياسية ومنها تلك التي تخضع لسلطة الحزب الواحد.

كما يردنا فادي الطفيلي في اقتفاء أثر، مرويات في المدينة والأمكنة والأحياء (2014)، وهي الرواية اليتيمة له، إلى منطقة زقاق البلاط ـ في عام 1981، حيث يقتفي المكان الذي قتل فيه المبشر البروتستانتي أستاذ اللغة الإنكليزية في مدرسة العميان، ويستحضر الطفيلي من خلال الحادثة المذكورة التاريخ الاجتماعي الثقافي والتنوع الطوائفي الذي تميزت به المنطقة منذ مطلع القرن العشرين، ثم التشتت والتغير الديمغرافي الذي حل بها، مع ما يجاورها من مناطق نتيجة سيطرة الأحزاب الدينية.

رواية غانيات بيروت للينا كريدية (2021) هي أيضًا قصة المكان المديني ـ بيروت، التي تدور فيه قصص عدد من النساء اللاتي يعملن في الملاهي الليلية لكسب عيشهن. تعكس الرواية الصورة النمطية التي تكرست عن بيروت في الذاكرة، مدينة تزخر بالحرية والانفتاح والجمال، نقطة التقاء بين الشرق والغرب، هي رواية يحضر فيها بشكل أو بآخر تاريخ بيروت الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الزاهر الذي يبشر بزواله.

إنها حكايات أمكنة وجماعات من ذلك الزمن شكلت علامة فارقة في تاريخ وعيش مدينة بيروت، وكانت الحرب سببًا في خرابها ولا زالت قصصها تستعاد في روايات الشباب.

في الختام، إذا كانت وظيفة الرواية هي التعبير عن زمن ما، كما يرى لوكاش، فإن ما يشهده المجتمع اليوم من تحولات شديدة ومن بينها التطورالتكنولوجي والذكاء الإصطناعي، وما يمر من ظروف وسياسات، يبشّر بانعطاف جديد للرواية قد يشكل رواية مستقبلية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.