}

زيارة طارئة إلى زمن الانتخابات

منذر مصري 12 نوفمبر 2023
آراء زيارة طارئة إلى زمن الانتخابات
(منذر مصري)
أرجو ألّا يتوقع أحد أن يكون موضوعي نسبة نجاح مرشح الرئاسة الوحيد والأوحد، التي غالبًا، لولا بعض الاعتبارات، لنطحت سقف 100%، ثم أقوم بعقد مقارنات بينها وبين نسب نجاح مرشحي الرئاسة، أو أي منصب عام، في بقية بلدان العالم على أنواعها، التي قد لا تزيد عن 50.33% أو 40% بحال تعدد المرشحين. إلّا أني عشت وشهدت كيف سمح بتعدد مرشحي الرئاسة في آخر انتخابين رئاسيين في بلدي بالذات، وكيف استقبل بعض السوريين، الذين لم يفهموا اللعبة، أقصد غير المعتادين على اللعبة الديمقراطية! هؤلاء المرشحين بعبارة: "ما منحبك" بدلًا عن: "منحبك"، التي استخدمت خلال الحملة الانتخابية الأولى كلوغو وطني. أو: "مكملين بلاك"، وهي معكوس: "مكملين معاك"، التي استطاعت أن تنتزع الضحكة مني، مع أن ذلك لم يكن لائقًا، بسبب معرفتي، ولو المحدودة، بالتاريخ النضالي للمرشح المنافس المقصود بالعبارة. وأخيرًا تلك اليافطة التي كانت معلقة، حسبما أذكر، فوق سور مدرسة الحرس القومي، وأقول صادقًا، أعدّها خطوة هامة للأمام، بل هامة جدًا جدًا جدًا، بما تعكسه من تغير إيجابي في النظرة السالفة لبقية المرشحين، الذين أصلًا لا يتم انتقاؤهم من قبل الجهات المعنية إلّا بعد دراسة شاملة لا تترك أخًا أو خالًا أو ابن عمة أو زوج أخت، من دون التدقيق بمدى ولائهم وانتمائهم، منذ ولادتهم حتى تلك اللحظة الفاصلة في تاريخ للوطن، وكانت: "نحترم الجميع، ولكن ولاءنا فقط للسيد الرئيس"، التي ذكرتني بإعجاب المفكر الراحل إلياس مرقص بعنوان كتاب الداعية الإسلامي المستنير مصطفى محمود: "حوار مع صديقي الملحد"، لكونه يتضمن، حسب تفسيره، أولًا: القبول بوجود الملحدين، ثانيًا: القبول بالحوار معهم، وثالثًا: القبول بصداقتهم! وإضافة لكل ما ذكرت، فإن التأكيد: "ولكن ولاءنا فقط لسيادة الرئيس"، تدل على أن الأخوة قد حسموا رأيهم، وحسموا نتيجة التصويت سلفًا.
في الحقيقة، ليست لدي ذكريات شخصية عن أي انتخابات رئاسية، أو برلمانية لمجلس الشعب، أو حتى لمجلسي المحافظة والمدينة، عاصرتها خلال حياتي، التي طالت حتى بت واحدًا من الذين يشكلون نسبة لا تزيد عن 5% من عدد الأحياء القابعين معي في الحفرة السعيدة، وذلك لسبب بسيط جدًا، لأني لم أشارك في أي منها، لا بالتصويت، ولا بالترشيح، رغم المغريات! الأمر الذي أنا نفسي أستغربه وأشكك فيه، ولا ريب أن ذاكرتي الماكرة عملت ما باستطاعتها على التخلص من هذا النوع من الذكريات التي يثقل عليها حملها. لأني خدمت بالجيش ما يقارب الأربع سنوات، وإن متقطعة، كما عملت في إحدى مؤسسات الدولة مدة 33 سنة، حتى بلغت سن التقاعد النظامية، ما تقتضي مني الأمانة أن أصرح بأن أحدًا، خلال كل هذا الزمن، وعبورًا بكل الاستدعاءات والتحقيقات والمحاكمات ـ محكمة واحدة في الواقع ـ التي تعرضت لها، لم يسألني، كائنًا من كان، ما إذا قمت بالتصويت أم لا؟ ولا بماذا صوّت بنعم أم لا؟ ربما حصل هذا مع غيري، لا أعرف، ولا أستغرب. ولكن لا دليل أفضل على ما ذهبت إليه من البطاقة الانتخابية التي تم توزيعها، نهاية سنة 1997، على كل من ينطبق عليه شرط السن القانوني، وكيف أنها أهملت لاحقًا من دون أي تدقيق، أو محاسبة، وأعيد العمل ببطاقة الهوية! أكتب هذا، وفي ذهني أصدقاء ومعارف ذهبوا لصناديق الاقتراع، وصوتوا بنعم، وبصموا بأصابعهم ولم يغسلوها لأيام، لتصديقهم بأن الذين لا يصوتون سيمنعون من السفر خارج البلد، وكذلك التنقل بين المحافظات، لأن البطاقة ستطلب منهم عند قطع التذاكر! أو بأنهم سيحرمون من رواتبهم التقاعدية، أو ستتوقف معاملاتهم في أي جهة تابعة للدولة! وغير ذلك من شائعات، يروجونها هم بدورهم، إما لتغطية الخوف الذي يشلهم، أو لمصالح شخصية تتطلب منهم أن يكونوا وصوليين وانتهازيين، إلى الحد الذي يبدون فيه مثيرين للشفقة ومضحكين في الوقت ذاته. كأن يقول لك أحدهم: "صديقي أنا مريض بالقلب. ولا أستحمل صفعة واحدة"، أو "لن يؤخر صوتي ولن يقدم، فلماذا أنام بين القبور وأرى كوابيس"، أو يصيح في وجهك: "لا تعمل عليّ بطلًا، ليس لديك أربع بنات"! أضحك وأفهم، وأجد لهم العذر. فمن أنا لأحكم عليهم؟
ولكنْ هنالك قصص أقرب إلى النوادر التشيخوفية، سأروي بعضها باختصار وتصرّف، ولكم أن تفهموها كما يعجبكم:




1 ـ قريب لي بالمصاهرة، ضابط في الشرطة، ترفّع بعد عقوبة مسلكية جائرة إلى رتبة أعلى، وتسلم منصبًا له بعض الأهمية، تقدم كوكبة من مسؤولي الصف الأول، يؤدون واجبهم الوطني في التصويت بنعم لسيادة الرئيس، فيقوم أمام الجميع بحركة استعراضية يأمل منها أن تزيل أي شك بمدى ولائه وإخلاصه، ويضع علامة إكس كبيرة فوق كلمة (لا)! انصعق الجميع بادئ الأمر، لكنهم سرعان ما أدركوا أن قريبي يقصد العكس، وإنه بظنه قد قام بشطب كلمة (لا) وأبقى كلمة نعم! الأمر الذي سارع إلى تصحيحهِ على الورقة الثانية التي قدموها له بحماسة أشد بكثير.
2 ـ في الاستفتاء الرئاسي، الذي ترافق به نهاية قرن مع نهاية عهد، وبداية قرن مع بداية عهد، عام 2000، تم تداول قصة، لا دليل لدي على مدى دقتها، ولا حتى على حدوثها، أن روائيًا معروفًا استيقظ ذلك اليوم، غسل وجهه، ارتدى ثيابه، شد زناره، ثم انحنى وربط سيور حذائه، ومضى بكل عزم وتصميم إلى أقرب مركز اقتراع يمكنه الوصول إليه سيرًا على الأقدام، وأمام الجميع أخذ ورقة التصويت ورسم علامة إكس فوق كلمة (لا)، الأمر الذي يبدو أنه يخطئ فيه كثيرون، عندها قام الموظف المشرف على صندوق الاقتراع بتنبيهه لهذا الخطأ غير المقصود بظنه. ما أحال صديقنا إلى بركان غضب، انفجر من دون إنذار بوجه الموظف: "ومن أنت لتعلمني أنا الفلان الفلاني كيف أصوّت؟" غير مبال بإثارة انتباه جميع الموجودين ومعرفتهم لاسمه وشكله! وبعد فترة ليست طويلة، زاره في بيته عنصران أو ثلاثة من الأمن، ليحققوا معه عن هذه الواقعة العجائبية. قدَّم لهم الروائي القهوة، وانتظرهم حتى يفرغوا كل ما في جعبتهم من الأسئلة، ليجيب عليها بسؤال واحد: "أعلن رسميًّا أنه مقابل 8.5 مليون مواطن سوري صوّتوا بـ(نعم)، هنالك 22 ألف مواطن سوري صوّت بـ(لا). فهل تزورونهم جميعهم، وتسألونهم واحدًا واحدًا هذا السؤال؟". أجابوه بما يفيد أنهم يكنون له من الاحترام والتقدير، ما يدفعهم لأن يسمعوا منه شخصيًا التفسير الصحيح للحادث. ومرة أخرى، عاد صديقنا، وكأنه يحيا في عالم آخر، وسألهم: "ولكن لماذا تضعون كلمة (لا) على ورقة التصويت؟ احذفوها يا جماعة، وأريحوا الناس من هذا الالتباس وسوء التفاهم!". عندئذ فهم الضيوف ما يريدون فهمه بكل وضوح، فقاموا وغادروا المكان كما دخلوا إليه بكل احترام!
3 ـ القصة الثالثة، أن محاميًا ما، عنّ على باله أن يغدو عضوًا في مجلس الشعب، فتقدم إلى الانتخابات كمرشح مستقل. وفي أول يوم للتصويت، قام هو وعائلته ومارسوا حقهم الانتخابي في أحد مراكز الاقتراع في جامعة تشرين، كما وصلت لي القصة. ولكن عندما أعلنت نتائج التصويت تبين أنه لا يوجد في ذلك المركز أي صوت على الإطلاق لصالحه! الأمر الذي أثار استغراب المحامي الذي عمله القانون والأدلة! ما دفعه لقول: "أصدق أن زوجتي وأولادي الثلاثة لم يصوتوا لي، ولكن هل أنا لم أصوت لنفسي؟". أقترح هذه العبارة كي تكتب بماء الذهب في التاريخ الحديث لديمقراطيات العالم الثالث!
4 ـ "أكلام عن الانتخابات، ولا ذكر لشعار (بالروح بالدم)؟ حسنًا إسمع قصتي"، قال صديقي: "ساقونا جميعًا، طلاب السنة الجامعية الأولى، وأعمارنا بالكاد تجاوزت 18 سنة! لنصوت بنعم لسيادة الرئيس. ما يعلم الجميع أنه أمر لا مفر منه، لكني جزعت لمشهد نخز رفاقي لإبهامهم بالدبوس والبصم بدمهم على ورقة الاستفتاء! وكنت متأكدًا أنني إذا فعلت مثلهم، سأقع على الأرض، مغشيًّا علي. ولا أدري كيف جاءني الالهام أن أغمس إبهامي بحبر السطمبة، متغاضيًا عن الدبوس الذي ناولني إياه أحد الرفاق، ثم أضغط بقوة على الورقة، وأصيح: "أنا بالروح".
5 ـ وبسبب أن تاريخ القصة التالية لا يعود إلى أكثر من ثلاث سنوات، فإنه يمكن اعتبارها حديثة العهد، بالمقارنة مع القصص الأربع السابقة، التي تعود تواريخها، إلى أقل بقليل، أو أكثر بكثير، من ربع قرن. فقبيل موعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة، في مايو/ أيار 2021، بأسبوع أو أسبوعين، جاءني اتصال غير مسبوق من معارض وطني عتيق ذي تجربة نضالية طويلة يخبرني برغبته في لقائي. واختصارًا لتفاصيل لا ضرورة لذكرها، بغض النظر عن أهميتها، راح الرفيق يشرح لي، والشمس الحمراء تقوم باستعراضها الأخير وتهبط شيئًا فشيئًا في البحر، برنامج حزبه السياسي، وعلاقته مع المعارضة الوطنية الداخلية، ليصل إلى النقطة الرئيسية، وهي أنهم لا يتوقعون أن يقوم الرئيس بالترشح لهذه الدورة! ذهلت من سذاجة هذا الاستنتاج، ولم أستطع إخفاء ابتسامتي، التي ربما بدت له كسخرية! كما لم أستطع إلّا أن أصارحه بما كان يبدو لي أشد وضوحًا من الصورة الكبيرة المضاءة على واجهة المقهى: "لقد قدمت لي، أيها الصديق، الدليل على أن المعارضة السورية لا تعرف من تعارض، ولا ماذا تعارض! وحتى إنها تفتقد أقلّ قدرة على التعلم! فالانتخابات الرئاسية ستعلن وستجري وستتم في مواعيدها المحددة، وستكون النتائج، من دون أدنى شك، كما يتوقعها العالم أجمع".
قلت قصة حديثة العهد، ولكن، رغم أنه باكر جدًا التطرق إلى الانتخابات المقبلة، هل يمكن أيضًا اعتبارها تنبؤية؟

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.