}

المقاومة في فلسطين تواصل ابتكار وسائلها

سعد القرش 2 نوفمبر 2023



ظهر السبت 21 أكتوبر، قررت الانعزال عن العالم، مؤقتًا؛ لحماية أعصابي. أسبوعان من التوتر والنزيف النفسي وفقدان الأمل. يأسٌ مستقطع من هول اللحظة؛ فلا أفقد يقيني بانتهاء الظاهرة الصهيونية قريبًا. أرنولد توينبي قدّر عمرها بمئة سنة، وربما تزيد قليلًا ويدركها جيل تؤلمه مأساة غزة، ومن جملة الاستبداد العام، استبد بهذا الجيل عجز وهوان، وهو يتابع استشهاد الآلاف من الأطفال والعجائز، منهم مئات في قصف العدو للمستشفى الأهلي المعمداني، مساء 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2023. لم نهنأ بالإصابات القاتلة لمدن العدو. ظهر ذلك السبت، فضّلتُ مشاهدة مباراة ليفربول وإيفرتون في الدوري الإنكليزي، على متابعة "قمة السلام" في القاهرة. في ملعب ليفربول لاعب عربي واحد وجد عزاء في المدرجات، برفع الجماهير أعلامًا فلسطينية ولافتات لإنقاذ غزة. اللاعب نفسه، محمد صلاح، شارك في مباراة مصر والجزائر، في إمارة خليجية قبل خمسة أيام، ولم يرفع مشجع واحد علمًا فلسطينيًا. ولفلسطين مكان في قلوب لاعبي الفريقين والمشجعين المصريين والجزائريين. لو وقعت مأساة أقل، في أقصى شمالي الكرة الأرضية، ريكيافيك مثلًا، لسمحوا لمواطن أيسلندي أو لأصدقائه برفع العلم تعاطفًا مع الضحايا. فرحت بفوز ليفربول، وانصرفت عن قمة عربية تستجدي رعاة إسرائيل بكلام سبق مضغه، والنتيجة صفر.
فكّرت مثلًا في كهارب القاعة وملحقاتها من بوفيهات واستراحات، وتأثيرها على قطع الكهرباء عن بيتي يوميًا. وفي وقود الطائرات والسيارات وغير ذلك، وصولًا إلى التكلفة الإجمالية للقمة. لو تحولت إلى مساعدات طبية وغذائية لأهالي غزة، الأرض المنكوبة على مرأى من عالم تظاهر أحراره اعتراضا على الحصار والإبادة. لكني تذكرت انتظار العشرات من الشاحنات للعبور إلى فلسطين، هناك مواطنون محرومون من المياه والوقود والعلاج ومن الرحمة، إذ وصفهم وزير الحرب الصهيوني يوآف غالانت بأنهم "حيوانات بشرية". لا جديد إلا السماح بعبور عشرين شاحنة. حكام 22 دولة استطاعوا تمرير 20 شاحنة. أي قسمة؟ لو بلغ العدد 22 لادّعى كلٌ أنه قاد شاحنة.
أكره الحرب. بلغت سنًّا لا تمكنني من حمل سلاح ثقيل. وأستطيع المشاركة باستعادة اللياقة، وإنعاش خبرتي بشيء من التدريب. كنت مجندًا في آخر نقطة سمحت فيها معاهدة "السلام" المذلة بوجود قوات، وممنوع تجاوزها إلى أرض مصرية أخرى. كسَحت ثورة 25 كانون الثاني/ يناير 2011 ألغام المعاهدة. وبقوة الثورة في الميدان وصلنا إلى حدود فلسطين. إنجازٌ ما كان ليتحقق بمفاوضات ومناشدات أصابتنا بالسأم، وأشهرها قمة "بيروت 2002"، وقد رفعت راية التطبيع في مقابل دولة فلسطينية على حدود 1967. توسلٌ أطمع فينا العدو؛ فتمنّع. وغابت وجوه حكام، موتًا وخلعًا وقتلًا، وجاء ورثة للعروش والتسوّل، وإنجازهم في "قمة السلام" إدخال عشرين شاحنة من المساعدات إلى غزة.
أكره الحرب. وأتذكر مقولة ونستون تشرشل: "كان لديكم خيار بين الحرب والمهانة: اخترتم المهانة، وسوف تدرككم الحرب". ولا يليق بالمقاومين أن يقدموا تنازلات لعدو لا يخفي نياته، ولا يخجل من إجرامه. والمقاومة في فلسطين المحتلة ستواصل ابتكار وسائلها، غير عابئة بقمم الكلام، أو التأييد الاستباقي للعدو من قوى استعمارية سابقة. أما وصف المقاومة بالإرهاب فأضحوكة، سخفٌ لا يردده إلا هتلر متهما المقاومة الفرنسية بإرهاب الاحتلال النازي. ولم يشهد التاريخ أن وهب استعمار عسكري "دولة" لمواطنيها. ليست الدول بالتمني. والكيان العسكري الاستعماري الذي يحتل فلسطين قضية أخلاقية. الموقف منها كاف لتصنيف صاحبه. وإفراط العدو في استخدام القوة دليل على اقتراب النهاية.


وبعد أن يتأكد للمغفلين استحالة المصالحة بين السكين والرقبة، كما قال غسان كنفاني، يمكن تأمّل ما بعد إسرائيل. كأي حادث سير مضاد للتاريخ، ظاهرة تزول بعد استنفاد الغرض من إنشائها، حين تزيد على رعاتها تكلفة بقائها على العائد منها. بريطانيا استثمرت الكيان الصهيوني الوظيفي، وورثته أميركا، وستنفض يدها عن إسرائيل فتتفكك، ونستريح من غمامة لغوية ثقيلة الظل والحمولة بحرف الخاء الكريه. مسؤولو 22 دولة، لا يضجرون، ولا تنفجر لأحدهم مرارة، من الرهان على خيار وحيد اسمه حل الدولتين. من يتمسك بخيار وحيد فلا يملك أي خيار. صفعهم ب. نتنياهو عام 2020 بقوله: "السلام مقابل السلام". خيارهم مهانة تكلم عنها تشرشل. لو تخيلنا تحقق حل الدولتين لصارت المعادلة: دولة نووية، ودويلة غايتها علَم ونشيد وطني، وعجلة القيادة في يد العدو، "عداوة طبيعية بين الأرواح. وقد قيل من استأمن عدوه على نفسه كان كمن أدخل يده في فم الأفعى"، كما قال الفأر في الحكاية: "من أخذ عهدا من عدوه لا يبتغي لنفسه نجاة... من سلم نفسه لعدوه كان مستوجبًا لنفسه الهلاك". فماذا عن التربية العنصرية في إسرائيل؟ وهل يوجد مدنيون في إسرائيل؟ في كتابه "مهمتي في تل أبيب" ينسف سعد مرتضى، أول سفير مصري في تل أبيب، المسافة بين المدني والعسكري، فكلهم جنود جيش قتالي، "كل فرد في إسرائيل تقريبًا يجيد استخدام السلاح"، وكل "مدني" يستدعى سنويًا للجيش شهرًا أو شهرين، "حتى تحافظ إسرائيل على المستوى القتالي العالي لقواتها. ويحتفظ كل جندي ـ حتى الاحتياطي ـ بسلاحه وبملابس الميدان حتى يكون مستعدا لتلبية نداء الجيش".
في المدرسة، بحضور مراقبين من اليمين الإسرائيلي، تسأل "المعلمة" تلاميذها الصغار: ماذا سيحدث للمسجد الأقصى؟ يجيبون: "سيختفي". وبماذا يشعرون إذا قابلوا طفلًا عربيًا؟ الإجابة: "بالغضب، نريد قتله". وماذا بعد عشر سنين؟ الإجابة: "حرب كبيرة تفني العرب، ويبقى بعضهم عبيدًا لنا". أنا أستشهد بكتاب "تربية العنصرية في المناهج الإسرائيلية" للباحثة المصرية صفا عبد العال، وقد حللت نماذج من 16 كتابًا في مناهج الدراسات الاجتماعية (التاريخ والجغرافيا) المقررة، من الصف الثالث إلى السادس الابتدائي.

في المدرسة، تسأل "المعلمة" تلاميذها الصغار: ماذا سيحدث للمسجد الأقصى؟ يجيبون: "سيختفي". وبماذا يشعرون إذا قابلوا طفلًا عربيًا؟ الإجابة: "بالغضب، نريد قتله"


تقول الكاتبة إن المناهج الدراسية في المرحلة الابتدائية والإعدادية البالغة تسع سنوات، بحلقتيها الأولى والثانية، لا تنص على حدود لإسرائيل، فلا تقتصر "الخريطة الطبيعية لإسرائيل المنشودة" على مساحة فلسطين التاريخية، وإنما تشمل "أرض الآباء والأجداد ومملكة إسرائيل منذ أيام داود وسليمان"، وتمتد "من فلسطين إلى سورية وإلى لبنان وإلى مصر وإلى الأردن وإلى العراق". في هذه الفترة يتم بناء العقول وتطويعها، قبل إعداد الأجساد للقتل في الميدان. ويبدأ تغذية الصغار بأسباب الكراهية والعداء، وتترسخ صورة ذهنية عن العرب، وهم: "قطاع الطرق، البدو المتخلفون، عابرو السبيل، الأفاعي، اللصوص السفاحون المتآمرون، الخونة والمختلسون، الإرهابيون الطامحون للأخذ بالثأر، الزائرون، الكلاب، المتوحشون، المتعطشون للدماء اليهودية".
لو صعدت الصين غدًا ستكون إسرائيل جاهزة وظيفيًا لحماية مصالحها، ويظل من المستحيل التعايش مع هذا العدو إلا بعد الاطمئنان إلى نظافة يده من السلاح، وفمه من الأنياب، ويأس رعاته من تمويله. وحين يتم نزع السموم النازية السارية في دماء الصهاينة، فسوف يصيرون آدميين. وبالوصول إلى هذه الخطوة تتفكك الأيديولوجية الصهيونية، كمفهوم عنصري استئصالي لا يستهدف فلسطين وحدها. سننظر إليها كتاريخ دام، آخر معاقل الكولونيالية. آنذاك تنهض دولة فلسطين العربية، وتستوعب المرابطين فيها، والعائدين من الشتات، ويهودا يختارون البقاء أسوة بأمثالهم البيض في جنوب أفريقيا بعد زوال الحقبة العنصرية. سيكون اسمها فلسطين. وإلى أن يتحقق ذلك، فالمقاومة هي الحسم.
المقاومة لا موائد التفاوض، إلا المدعومة بقوة ميدانية، هي الكفيلة بتقصير عمر كيان سيدرسه الباحثون بأنه إرهاب دولة، وأن إسرائيل كانت جريمة ضد الإنسانية، ضد حركة التاريخ، وأن عمرها طال قليلًا بفضل دعم دول لم تُرد تنفيذ مهام قذرة يترفع القاتل الأنيق عن تلويث يديه بها. ومن العبث، الآن، أن يتخذ القاعدون في الظل سمت الحكماء؛ فيتكلمون باسم الفلسطينيين. وأريد إنهاء المقال بالشاعر حنا أبو حنا وقصيدته "كيف يُغْسَلُ عن شارع ثاكلٍ قَمَرُ الأرجوان؟". وقد أسعدني نشرها في مجلة "الهلال"، في تشرين الأول/أكتوبر 2015، ضمن ملف "الشعر في فلسطين المحتلة عام 1948":
هذه الأرضُ
أقرأها نبتةً
مثلما راحتي!
في الفؤاد خريطة فتنتها
أمسحُ الخلَّ عن مقلتَيها
وأضفر غُرَّتَها
حسْرَةً... حسرةً في تراب الخشوع
غيمتي طوَّفَت
في سماء البساتين والوعرِ
من سنديان الجبالِ
إلى النخلِ في الغَوْرِ
من شاطئ البحر... للنهرِ
من شفة الجرحِ حتى جذور الدّموع
نوّصَ العمرُ
لم تخْبُ نار الهوى
كم حرثتُ... بذرتُ... زرعتُ الشّموع!
من سقاني هيامكِ يا أمُّ بوصلةً في الضّلوع؟!
هذه الذاكرة
يمّحي رملُها تحت موج السنين
غير أنَّ الرّصاص الذي تتوالى مواسمُه
يتكدّسُ في رحم الياسمين
السّلام عليكم يا أيها الشُّهداء
الذين حُصِدتُم في كفر قاسم!
السلام عليكم يا أيها الشّهداء الذين ارتوى
سهل سخنين من دمكم
وتعانق مع مهرجان الشهادة في كفرَ كَنّا
السّلام على أمّ فحْمِ التي اقتحموا
حُرماتِ المدارس فيها
وربّوا عصافيرَها بالرّصاص
السّلام على باقة الشّهداء النّديّة
وهي تُزَفُّ إلى غَرْغراتِ التراب!
السّلام على الراحلين إلى موطن السُّنبلة
والسّلام على آخرين تناديهم القافلة!
الأكاليل تذبل فوق القبور
مثلما ذبلت زهرة الشهداء
والقميص الذي بقّعته الدماء
عَاَمٌ للنّسور!!

(مصر)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.