}

قليل من العقل وسط هذه الهستيريا الجماعية

رشا عمران رشا عمران 7 نوفمبر 2023

شاركت خلال الأيام الماضية بعرضي المسرحي "التي سكنت البيت قبلي" ضمن أيام "مهرجان وسط البلد" في القاهرة الذي يقام سنويًا في نفس الموعد لمدة تقارب الشهر، ويستقطب الكثير من العروض المسرحية والموسيقية والرقص المعاصر والتجريبية من كل العالم. والعرض كان ضمن مشروع شاعرات الذي يبرمجه المخرج والمترجم الفرنسي هنري جول جوليان، ويهدف إلى تقديم أصوات شعرية عربية نسائية مع ترجمات بلغات أخرى (فرنسية وإنكليزية)، لكن عبر أداء يختلف عن قراءة الشعر العادية، ويأخذ شكل العرض أكثر منه شكل الأداء الشعري المعتاد. وينبغي القول إنه عرض مسرحي شعري يحمل كل شروط المسرح (من حيث عدد المتواجدين على الخشبة والفنيين العاملين في العرض كالصوت والاضاءة والديكور) على عكس باقي عروض مشروع شاعرات حيث تعتمد العروض أكثر على التمكين الصوتي للشاعرة لتقديم أداء بانفعالات صوتية ذات إيقاع مسرحي بشكل ما، وغالبًا ما تكون الشاعرة وحدها على المسرح وتبث الترجمة عبر شاشة عرض في الأعلى، أو ترافقها ممثلة أو مؤدية تقرأ معها نفس الننص بلغة أخرى. المشروع عمومًا هو مشروع من إنتاج أوروبي وقد قدمناه في جولات عدة في أوروبا العام الماضي والعام الحالي، وكان يفترض أنه سوف يقدم لسنتين قادمتين لولا الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة التي غيرت كل شيء.

ما حصل أن بعض الشاعرات المشاركات (منهن فلسطينيات) رفضن العرض في مهرجان وسط البلد في القاهرة وفي الجولات القادمة اللاحقة، بعد أن تبنّين بيانًا كتبته الشاعرة الفلسطينية كارول صنصور على صفحتها الشخصية على الفيسبوك تعتبر فيه أن الاتحاد الأوروبي (المساهم في تمويل مشروع شاعرات) يستخدم أصواتنا الشعرية لتبييض صورته بعد دعم جرائم الاحتلال في غزة. بدا الأمر لمن يقرأ البيان وكأن الاتحاد الأوروبي سارع لجمعنا، نحن الشاعرات العربيات، وأعطانا التمويل وقال لنا هيا لتساعدوني في تبييض سمعتي. طبعًا تدركون جميعًا أن الأمور لا تتم على هذا الشكل وأن مشاريع من هذا النوع تحتاج وقتًا طويلًا لتنجز ويتم إقرار تمويلها. أقصد أن هناك إجراءات كثيرة ومراسلات ونقاشات وتحويلات بنكية تأخذ على الأقل سنتين لتنجز، والمشروع كما قلت، ليس وليد اللحظة، بل قمنا به بعدة جولات سابقة خلال العامين الماضيين. لكن لا يمكن سوى تفهم واحترام خيار الشاعرات المنسحبات، خصوصا الفلسطينيات منهن، فالموقف صعب جدًا، ليس على المستوى المهني فقط، بل على المستوى النفسي في المقام الأول وعلى القدرة على تقديم عروض شعرية في زمن القتل والموت والجنون كالذي نعيش فيه. وهذا ما جعل المخرج والمنتج الفرنسي للعرض يترك لي حرية الخيار في تقديم عرضي أو الاعتذار عنه. بالنسبة لي، لم أكن قادرة على اتخاذ قرار منفرد في أمر كهذا، ذلك أن العرض الذي أقدمه يضم ممثلين وتقنيين ليس لهم مصدر دخل سوى العمل في عروض كهذه (عروض باقي الشاعرات هي عروض منفردة). وبعد التشاور معهم قررنا الاستمرار في العرض بعد أن اتفقنا مع إدارة المهرجان على التبرع بريع التذاكر لتكون ضمن لائحة المساعدات المتجهة لأهل غزة، وأن يهدي فريق العرض العربي والفرنسي العرض كله إلى نساء غزة المقاومات والصامدات في وجه محاولات التهجير والقتل الإسرائيلي المدعوم من المجتمع الدولي. وكان الأنسب، كما رأينا، أن تقوم الممثلة الفرنسية المشاركة في العرض بالتحدث للجمهور (العربي والأوروبي) عن غزة في موقف تضامني بالغ الجمال من فريق العمل الفرنسي في الوقت الذي تمنع فيه فرنسا كل مظاهر التضامن مع غزة وفلسطين.

نحن مهزومون بماضينا وحاضرنا ومستقبلنا وأحلامنا، مهزومون حتى في قدرتنا على التعبير عن غضبنا وعن يأسنا، وحدهما: الثقافة والفن هما ما تبقى لنا كي يصل صوتنا إلى العالم


هل فعلت الصواب؟ شغلني هذا السؤال كثيرًا بعد انتهاء الأيام المخصصة للعرض، وأعترف أنني أصبت بنوع من تأنيب الضمير جراء ذلك، رغم أنني من المؤمنات أن الفن هو مقاومة ضد الموت وضد اليأس الذي يرغب أعداؤنا أن نغرق فيه، وضد العدم أيضًا، إذ لا شيء يمكن أن يجعل عدونا منتصرًا أكثر من سقوطنا في عدمية مطلقة تجعلنا عاجزين عن الفعل والابتكار اللازمين للبقاء على قيد الحياة في وجه آلة الموت والقهر اليومية التي تريد تحويلنا إلى رمال. لكن في لقاءات لاحقة مع أصدقاء عرب يعملون في المجال الفني ومدعوين إلى مهرجان وسط البلد وبعد سماع الكثير من آرائهم حول ما يحدث وسبل الاستمرار في المقاومة وإنتاج الأعمال الفنية والمسرحية وبقاء أصواتنا موجودة في العالم وقادرة على الصمود في وجه محاولات التحييد والاقصاء التي بدأت بوادرها الغربية تظهر مع بدء العدوان على غزة، ثمة مجموعة من الملاحظات ينبغي الحديث عنها وطرحها بجدية تختص بالإنتاج الفني (المسرحي والسينمائي والموسيقي والراقص والفنون التجريبية المختلفة) وطرق وآليات تمويله وذهنية التعامل العربية معه؛ فبعد نتائج الربيع العربي الكارثية التي خلفت حروبًا طويلة وهجرات لا تتوقف، وترديًّا مهولًا في الأوضاع الاقتصادية وعودة الدول العميقة بمنظوماتها الأمنية الاستبدادية وآلياتها في قمع الأصوات الحرة والناقدة والمعترضة والجدية ودعمها لفنون تحت سيطرتها وتقدم وجهة نظرها، وجد الكثير من الفنانين والمبدعين العرب الشباب أنفسهم  في العراء، خارج منظومة المؤسسات الرسمية (بل يصنفون كأعداء لها) ولا يجدون من يمكنهم رعاية مواهبهم وابتكاراتهم والاهتمام بها، في الوقت الذي كان به يزداد نشاط مؤسسات المجتمع المدني، خصوصا تلك التي تعنى بالثقافة والفنون (اتجاهات وآفاق وصندوق التنمية المورد وفورد فاونديشن كأمثلة فقط)، وبدأت باستقطاب مشاريع فنية وثقافية لشباب عرب موهوبين، خصوصًا من الدول التي تعاني من الحروب أو الاستبداد، أو تدعم النشاط الثقافي المستقل في الدول العربية التي تعتبر الثقافة المستقلة سقط متاع أو تمنعها نوعا من التضييق الأمني. هذا الاستقطاب جعل من الحركة الفنية والثقافية العربية الشبابية ناشطة إلى حد كبير، وقدمت مواهب وأسماء لامعة ومؤثرة خلال العقد الماضي، استطاعت ليس فقط أن تنقل صوت الشباب العربي الحقيقي إلى الغرب متجاوزا كل العراقيل أمامه ومندمجا في الثقافة العالمية، بل أيضًا أظهرت جانبًا رئيسيًا حاول الاعلام طيلة عقد كامل تحييده، وهو أن العرب مبدعون في الفنون والثقافة، وأن شباب الربيع العربي ليسوا متطرفين كما يظهرهم الإعلام، وأن هذا العالم (العربي) متنوع إلى حد كبير، في ثقافاته وفي انتماءاته وفي أحلامه وفي مشاريعه، وأنه من العار التعامل مع العرب جميعًا بوصفهم كتلة واحدة متخلفة وهمجية ومتطرفة كما هي النظرة النمطية عنهم. حدث هذا من خلال التشبيك الذي تتكفل به المؤسسات الممولة لهذه المشاريع مع مثيلاتها في العالم الغربي، وتسهيلها لدخول المشاريع الفنية العربية في منافسات مع مشاريع دولية أخرى أو التشارك معها في مشاريع فنية وثقافية ما يدعم الفهم المشترك للثقافات المختلفة ويقرب من وجهات النظر المتناقضة، ويزيد من عملية التقارب بين الشعوب (أليس هذا في الأساس دور الفن والثقافة وهو ما ترفضه السياسة أو تعجز عنه المؤسسات الرسمية في بلادنا؟).

لكن الأمر هو أن تمويل هذه المؤسسات يأتي من دافعي الضرائب الغربيين في أميركا والاتحاد الأوروبي، دون أي يكون لأية جهة أو دولة أو مؤسسة عربية أو رأس مال عربي مشاركة في تمويل واحدة منها. هذا يجعل من العاملين والمستفيدين من المؤسسات إياها (وهم في أغلبهم مهجرون ومنفيون ومعارضون للأنظمة العربية) أمام معضلة كبيرة، خصوصًا في الأزمات والأحداث الكبرى مثل حرب دولة الاحتلال الأخيرة على غزة والهستيريا الدولية الرسمية والإعلامية في دعمها؛ ذلك أن أي موقف أو بيان من هذه المؤسسات يدين المجتمع الدولي لانحيازه الغريب لإسرائيل أو يتحدث بحرية عن الجرائم الإسرائيلية وعن القتل والتهجير ممكن أن يؤدي إلى وقف تمويلها، ما يحرم كتلة شبابية عربية كبيرة (منها طبعًا فلسطينية) من الفرص الوحيدة أمامها لتقديم مشاريعها الفنية ووجهة نظرها للعالم. وقد لا يحدث هذا طبعًا. الاحتمالات كلها واردة، لكن بالنظر إلى الموقف الأوروبي والأميركي فإن ذلك قد يعد مخاطرة تطيح بآمال كثر من المنتظرين أي فرصة لتمويل مشروعاتهم الثقافية. هذا ثمن بخس مقابل ما يقدمه الفلسطينيون، ومقابل الغضب والعجز الذي نشعر به جميعنا، لا نقاش في هذا أبدًا. لكن هذا يضعنا أمام سؤال كبير: من نحن؟ هذه الكتلة البشرية الهائلة المتنوعة كيف أصبحت عاجزة إلى هذا الحد عن أي دور كبير في دعم أجيالها؟ كيف أصبحنا مجرد مستهلكين لكل ما ينتجه الغرب؟ وكيف أصبحنا ننتظر أمواله لنقدّم ما نستطيع أن نعبّر به عن أنفسنا؟ وكيف أصبحنا نتوجه إليه في فنوننا؟ نحن نحتاج منحه ونحتاج تمويلاته ونحتاج مهرجاناته ونحتاج جوائزه ونحتاج مبادراته نحونا ونحتاج اعترافه بنا ونحتاج ترجماته لما نكتب ومسارحه لما ننتج وجمهوره لكي نعرف. نحن نحتاج من هذا الغرب كل ما يجعلنا نعبّر عن أنفسنا. مهما ادّعينا عكس ذلك ومهما حاولنا التطهر والتشرف بعزوفنا عن المشاركة في ما يقدمه لنا؛ لأننا جميعًا نعرف أن هذا العزوف وهذه المقاطعة آنية وابنة الراهن، وأنها ستتغير مع انتهاء الحرب، وسنعود لسابق عهدنا في العلاقة مع هذا الغرب الذي لم يخف يومًا دعمه للعدو الإسرائيلي ولطالما كان يضع المقاومة في لائحة الإرهاب! لكن، لنعترف، أننا براغماتيون في علاقتنا الثقافية معه. وأمثلة البراغماتية والراهنية عديدة منها فنانون وكتاب رفضوا المشاركة في مهرجانات ثقافية بحجة تمويلها، بعضهم كان قد حصل قبل مدة قليلة جدًا على جوائز ممولة مباشرة من أميركا، فهل أخفت أميركا يومًا وجهها الحقيقي في دعمها لإسرائيل أو في رغبتها تدمير بلاد العرب لوجستيًا وثقافيًا وسياسيًا واقتصاديًا ومجتمعيًا؟ هناك مثقفون عرب يشتمون ليل نهار مؤسسات المجتمع المدني التي تدعم الثقافة والفن بذريعة تمويلها ومع ذلك نفاجأ أنهم أعضاء في لجان تحكيم هذه المؤسسات لاختيار مشاريع فائزة؟ هذه براغماتية أم فصام أم ماذا؟ وللحق فإن الأمثلة عن هذه الازدواجية لدى المبدعين العرب في العلاقة مع مؤسسات المجتمع المدني الممولة للفنون كثيرة وهي تعكس بؤسنا الشديد وحالة الإذلال الذي أوصلتنا إليه أنظمتنا، واضطرابنا النفسي في العلاقة مع أنفسنا ومع الآخر، وفي فهم هويتنا الحقيقية، وفي علاقتنا مع الأيديولوجيات المختلفة التي ننتمي لها، ربما يتلخص كل ذلك في مفردة واحدة فقط هي: الهزيمة، نحن مهزومون بشكل يرثى له، بماضينا وحاضرنا ومستقبلنا وراهننا وأحلامنا، مهزومون حتى في قدرتنا على التعبير عن غضبنا وعن يأسنا، وحدهما: الثقافة والفن هما ما تبقى لنا كي يصل صوتنا إلى العالم، بهما وحدهما يمكننا أن نبقى نقول ما نرغب بقوله دون أن توجه لنا تهم الإرهاب. أليس غريبًا أن نحجم عن المشاركة في فرص تتيح لنا قول ما نريد في وجه من يساند عدونا؟ أليس غريبًا أيضًا أن نلغي مهرجانات سينمائية ومسرحية في بلادنا يمكن من خلالها أن نستضيف فنانين ومثقفين غربيين ينقلون وجهة نظرنا لبلادهم؟ نحن فعلًا نحتاج أصواتًا عاقلة في وسط هذه الهستيريا الجماعية التي يعيش فيها العالم حاليًا.

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.