}

في رحيل عبدالمالك مرتاض: الكتابة والقراءة وجهان لعملة واحدة

محمود عبد الغني محمود عبد الغني 8 نوفمبر 2023


توفي يوم 3 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 الناقد والدارس وعالم اللغة الجزائري عبد المالك مرتاض (مواليد 10 أكتوبر/ تشرين الأول 1935)، وتُعتبر هذه الوفاة بحقّ خسارة للجامعة والنقد والبحث في الجزائر والعالم العربي. فهو بحق يُعدّ خبرة نقدية ومعرفية قلّ نظيرها في النقد الأدبي العربي الحديث. لذلك على الجزائر أن تحزن على قلم وفكر لا يمكن تعويضهما بسهولة، وفي الآجال المنظورة. كما على المغرب أن يحزن أيضًا لأن الرجل تخرّج من جامعته عام 1963، وغادره مكرهًا للالتحاق بوظيفة المستشار التربوي للمدارس الابتدائية بمدينة وهران، ثم أستاذًا للأدب العربي في ثانوية ابن باديس إلى عام 1970. وبعد حصوله على الدكتوراه عُيّن أستاذًا للأدب العربي في جامعة وهران في نفس السنة.

ظلّ مرتاض معتدًّا بالنص التراثي العربي نثرًا وشعرًا، وفي هذا الاعتداد أنتج "القصة في الأدب العري القديم"، و"فنّ المقامات في الأدب العربي"، و"الميثولوجيا عند العرب"، و"جماليات الحيّز في مقامات السيوطي" (نال بها شهادة الدكتوراه)، و"السبع المعلقات"... كما وظف نظرية الأدب بكل مدارسها ومناهجها من نظرية النص وترك فيها أثرًا بالغ الأهمية هو "نظرية النص الأدبي" (ط.2، 2010)، إلى نظرية القراءة من خلال كتاب "نظرية القراءة، تأسيسات للنظرية العامة للقراءة الأدبية (2003)، ونظرية الرواية والتحليل السيميائي، وفي المنهج الأخير أنتج  كتاب "التحليل السيميائي للخطاب الشعري، تحليل سيميائي لقصيدة شناشيل ابنة الجلبي"، وفي الدراسة البلاغية خلّف "نظرية البلاغة" (2010).

لا تخلو دراسة نقدية معاصرة في الجزائر، أو رسالة بحث جامعية على امتداد البلاد، من تأثير وحضور أكثر من مرجع ودراسة لعبد المالك مرتاض، الذي يكاد يلخّص تجربة النقد الأدبي في الجزائر، ناهيك عن امتداد هذا التأثير في تجربة البحث والدراسة على امتداد بلدان المغرب، في التأليف النقدي أو الجامعي. إن سرعة تطوّر النقد الجزائري واتساعه يكاد يكون ملخّصًا في عبد المالك مرتاض. هذا النقد الذي بدأ  نقدًا تاريخيًا "لانسونيًا" (نسبة إلى الناقد والمؤرخ الفرنسي غوستاف لانسون) وتدرّج إلى البنيوية ثم السيميائية والألسنية. وقد ظل هذا النقد في هذا القطر العربي صعبًا وإشكاليًا لأنه أخذ موقع تناول ودراسة وتأويل نصّ أدبي هو في منزلة البناء الشامل، المتمثل في الواقع والتاريخ الجزائري الحديث من ثورة التحرير والثورة الاجتماعية الراهنة، حسب تعبير محمد ساري. فهذه الأحداث الجزائرية الخالدة لم يكن بإمكان النصّ الأدبي، شعرًا أو رواية أو مسرحًا، أن يجعلها غائبة عنه، كما لم يكن بإمكان الناقد أو الدارس لهذا الأدب أن يتجاهل حضور الصريح أو الضمني داخله وضمن نسيج بنيته.


ألّف مرتاض في جميع الأجناس الأدبية، ولم يكتف فقط بالنقد الأدبي أو الموسوعي المعرفي، فخياله خصبٌ في القصة والرواية والمسرحية وحتى في دراسة الأدب الشعبي المحلّي، وفي المزاوجة بين وجهي القراءة والكتابة، حتى أننا يمكن وصفه بأغزر كتاب الجزائر إنتاجًا. وفي ذلك نجده يصرّح بالقول في كتابه "نظرية النقد، الجزائر، 2000": "... فكأن الكتابة والقراءة وجهان اثنان لعملة واحدة، ذلك بأن الكتابة، في بعض حقيقتها، ليست إلا قراءة أيضًا، فكأن القراءة مفتاح المعرفة الأول، فأن تكتب فإنما أنت تعبّر عما تقرأ في ضميرك، وتترجم عما في جنانك". وما تنويعه للمناهج في قراءته للنص الأدبي إلا اعتباره النص حقلًا للقراءة، النص لا يمكن أن يفلت من غربال القراءة مهما حاول الهروب والإفلات من هذا الغربال. لكن على الناقد/ القارئ أن يكون له مسعى من خلال قراءته، وأن يمتلك أدوات يصطفيها من بين أخرى، وأن تمثّل تأويله على نحو ما، إنها هي التي تحدّد معالم التأويل. هذا ما يؤكده في كتابه "التحليل السيميائي للخطاب الشعري" (2005). وهو بذلك يجعل النقد الأدبي في درجة وسطى بين الفلسفة والعلم والفنّ. يجمع بين هذه الحقول دون أن يكون منها. ولم يكتف مرتاض بهذا التدقيق فقط، بل أضاف أن القراءة متعدّدة بتعدّد الأهواء والثقافات والأزمنة والأمكنة والسياقات أيضًا.

 كانت لشيخ النقاد الجزائريين قناعة راسخة، وموجزها أنه لا ينبغي سجن النظرية الأدبية والمناهج الحديثة في قراءة النص الحديث فقط، بل هي مثمرة وخصبة حين تطبّق وتُختَبَر إجرائيتها على النصوص الكلاسيكية، لماذا؟ لأن النص الكلاسيكي هو بيت القواعد. وفي هذا الإطار طبّق المنهج السيميائي على القصائد المعلّقات، أو المعلّقات السبع. فجاءت قراءته للقديم على ضوء المعطيات الحديثة. وكان يرى أن سلطة التأويلية حاضرة بكل قوة ولا يمكن الإفلات من أسرها، فقراءة المعلقات السبع ضمن الإجراء الأنثروبولوجي، أم ضمن الإجراء السيميائي، فإن الدارس في الطورين الاثنين معًا يُدرج نفسه في مُضطَرَب التأويلية التي لا يستطيع المروق من حيزها الممتدّ. وهنا يضيف مرتاض أن مناهج أخرى لا بدّ أن تسير جنب السيميائية وهي تخوض غمار تأويل النص الجاهلي، وهي المنهج التاريخي والاجتماعي، فكل نص له علاقة بالمجتمع والتاريخ الذي ينتمي إليهما. النصّ بنية شاملة المظاهر، متراكبة العلاقات. لكن، يستطرد مرتاض، على الدارس ألا يكون اجتماعيًا يتعصّب للمجتمع، وتاريخيًا يتعصّب للتاريخ، ويعتبرهما كل شيء في النص، بل عليه أيضًا أن ينقّب في الأعماق عن مظاهر الفن، وآثار المعرفة، ووجوه الجمال، وإسقاطات الأدب. هكذا يظهر مرتاض تميزه عن السيميائيين العرب اليوم، الذين أغلبيتهم من أسوأ النقاد في الأدب العربي اليوم، بعزلهم للنص عن كل انعكاس للتاريخ والمجتمع. وعودة مرتاض إلى الشعر الجاهلي هي عودة للأصول، أصول الأدب العربي، مثلما يرجع مثلًا الأوروبيون للأوديسا وغيرها من الملاحم، لأنها هي أصول الآداب الأوروبية.

وحين انتقل إلى دراسة الرواية بناء على السرديات، طرح أيضًا أسئلة بديهية، مثلما فعل من قبل مع المناهج. فتجربته في تدريس الرواية، وإشرافه على الرسائل الجامعية في موضوع الرواية، بل وإن ممارسته لكتابة الرواية دفعته إلى تأليف كتاب "في نظرية الرواية، بحث في تقنيات السرد"، وفيه وضع أبوابًا لتشريح زمانها، ومكانها، وفضائها، وشخصياتها، ومشكلاتها، وكيفية بناء عناصرها، ولغتها، وكيف تُكتب.

إن العالم الادبي لعبد المالك مرتاض متنوع ومتشعّب، لكونه ألّف في جلّ الأجناس الأدبية، ودرّس العديد من النظريات والمناهج، ووضع فيها كتبًا مرجعية أيضًا، لذلك نقول وبكل اطمئنان مغلف بالحزن: غاب الرجل وبقي الأثر.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.