}

تأمّلات في طابع بريدي: عن جيل القهر

رشيد بوطيب رشيد بوطيب 22 ديسمبر 2023
آراء تأمّلات في طابع بريدي: عن جيل القهر
يخلد هذا الطابع ذكرى شرارة الثورة التونسية
أضرم محمد البوعزيزي النار في جسده، في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010، في مدينة سيدي بوزيد التونسية، احتجاجًا على السلوك الاستبدادي للإدارة المحلية. وأثار تصرفه مظاهرات حاشدة، انتهت إلى تغيير النظام السياسي برمته. وبُعيد سقوط نظام بن علي، سيصدر مكتب البريد التونسي طابعًا بريديًا يحمل صورته تخليدًا لذكراه. وهو عائد من مؤتمر فلسفي في تونس، سيحضر لي معه، اللاهوتي الكاثوليكي والباحث الألماني المتخصص في الفلسفة الدينية وفي الفلسفة الشخصانية، ماركوس كنير، نسخة من الطابع البريدي، مؤكدًا لي بأن هذا الطابع يحمل كل آمال الشخصانية التي دافع عنها محمد عزيز لحبابي، هذه الفلسفة التي ستظل محاصرة في سياق يؤكد عبودية الإنسان وليس حريته، ثم انطلق يقرأ علي قصيدة للمفكر المغربي، تتحدث عن الحرية والتضحية لأجلها.
يتميز هذا الطابع البريدي، إذا طلبنا أن نعبر عن ذلك في لغة "القارئ في الحكاية" لأمبرتو إيكو، بتسييمية لامحدودة، في صوره ورموزه ولغته. أول مفردة قد نتوقف عندها طويلًا، هي "شهيد". ولا غرو أن المفردة تستعمل في معنى مغاير للمعنى المتعارف عليه تقليديًا. قد يستشهد البعض بما كتبه الإمام الشافعي، من أن الشهيد هو من يموت وهو يقاتل الكفار. والبوعزيزي في هذا المعنى ليس شهيدًا، وذلك حتى في المعنى المُسيّس للثورتين الجزائرية والإيرانية. البوعزيزي انتحر. وبالنسبة للسردية الدينية السائدة لا يمكن البتة اعتباره شهيدًا. وفي القرآن الكريم، كما في الحديث الشريف، الانتحار عمل محرم وجزاءه نار جهنم، وهو ما أوضحه المستشرق الألماني فرانز روزنتال في دراسة مشهورة [فرانز روزنتال، 1946].
لا يحدثنا وجه البوعزيزي في الطابع البريدي عن شبابه فحسب، بل يحدثنا أيضًا عن جيل القهر الذي ينتمي إليه، والذي ما برحنا نلتقيه، وبشكل يومي، في مُدننا المؤجّلة. إنه يتحدث عن تلك الطبقة الاجتماعية غير المرئية، أو عن أولئك الذين لم نعتد على رؤية وجوههم على الإطلاق. لم نتعود أن نرى صورًا لهؤلاء على الطوابع البريدية، فذلك المجال حكر على صور الملوك والرؤساء في "الطوابعية العربية". ولكن ما قد لا يدور بخلد واضعي هذا الطابع، هو أننا، ولأول مرة، سنلتقي فيها وجهًا حقيقيًا في طابع بريدي، وجهًا قد نرى فيه أنفسنا، حقيقتنا، لا مرئيتنا، وجهًا من لحم ودم، أو وجهًا هو تعبير عن "الألم المطلق" بلغة أدورنو. جيلٌ بأكمله غيّبه القهر، ليس فقط عن الطوابع البريدية، ولكن عن كل مجالات الحياة والقرار، يخاطبنا من خلال وجه البوعزيزي.

الوجه، كما يفهمه المفكر الفرنسي إيمانويل ليفيناس، مقاومةٌ إيتيقية (Getty)

الوجه، كما يفهمه إيمانويل ليفيناس، مقاومةٌ إيتيقية. وإذا كان يُعبّر عن الضعف البشري، فهو في الوقت نفسه يحمل هوية متعالية: إنه أثر، أو نداء اللانهائي، الذي يدعونا إلى المسؤولية. إن الثقافة التي لا تعرف الوجه ـ وجه الآخر، وجه المحرومين من الوجه ـ ولا تقدس إلا وجه الحضور والديكتاتورية، تعاني، لا ريب، من الإفلاس الأخلاقي.
إن اللامرئي هو ما لا يمكن رؤيته، أو، بلغة النظرية النقدية، ما لا نريد رؤيته، ما لا نريد الاعتراف بوجوده. إن اللامرئية الاجتماعية نتيجةً مباشرة لموقف عنصري، أو متعجرف. ويمكن أن تُشير أيضًا إلى بنية العلاقات الاجتماعية التي ترفض الحرية، وهو المبدأ الذي يقوم عليه مجتمع الاعتراف، أو مجتمع الاختلاف. في دراسته للامرئية والاعتراف، يبدأ آكسيل هونيث من رواية رالف إليسون "الرجل اللامرئي"، ويكتب: "فيما يتعلق بسؤال كيف أصبح غير مرئي، يجيب الراوي بأن ذلك لا بد أن يكون بسبب "تكوين" "العين الداخلية". من أولئك الذين ينظرون من خلاله بلا هوادة" (هونيث، 2001).
وفقًا لهونيث، فإن اللامرئية "باثولوجيا اجتماعية"، و"شكل من أشكال عدم التقدير الأخلاقي". وكما هي الحال في تحليله للتشيؤ [هونيث 2005]، فإن عدم القدرة على رؤية الآخرين، أو رفضهم، هو "نسيان للاعتراف" Anerkennungsvergessenheit. لكن في سياق الديكتاتورية، يتوجب اعتبار اللامرئية باثولوجية سياسية أيضًا. فالأمر يتعلق بعنف مزدوج: اجتماعي وجسدي.  ولا ينبغي لشخص مثل البوعزيزي أن يكون له مكان في المجال العام، كما لا ينبغي أن يكون له صوت في أمور السياسة. ولعقود من الزمن، كانت الشوارع العامة في منطقة المغارب بمثابة منطقة حرب أهلية غير معلنة، حيث يكافح الخاسرون في عمليات التحديث يوميًا من أجل البقاء، وكثيرًا ما يدخلون في صراع مع رجال الشرطة.
يلخص هذا الطابع، الذي يخلد ذكرى الشرارة الأولى للثورة التونسية، التاريخ السياسي والاجتماعي لتونس ما قبل الثورة، لكنه يؤكد أيضًا أن أي ديمقراطية مستقبلية يجب أن تعيد وجه أولئك الذين سرقت الدكتاتورية وجوههم. لذلك، لم يبالغ دريدا وهو يربط هذه الديمقراطية المقبلة كما يسميها بسيادة ضعيفة او سيادة تقبل القسمة. فمنطق الأخواتية يمسح الوجه وهو يؤبد الوجه الواحد.




إن الفرد غير المكتمل، والذي نلتقيه في جيل البوعزيزي والأجيال التي سبقته، هو تعبير عن "الدولة غير المكتملة"، كما يصف علي مزغني الدولة العربية الإسلامية المعاصرة [علي مزغني، 2011]. ولا ينبغي أن يُفهم هذا على أنه مجرد مفهوم، أو تعبير عن أزمة سياسية، إنه أكثر من ذلك، كما أنه ينطوي على أبعاد اجتماعية وثقافية وفردية تتجلى أيضًا في تلك العلاقة الباثولوجية بماض متخيل؛ "إن الماضي"، كما يشير مزغني، "ليس بماض حقًا، لأنه لا ينتمي إلى التاريخ". إن مفهوم "الدولة غير المكتملة" يقودنا أيضًا إلى ما أسميه المجتمع غير المكتمل أو المؤجّل، لأنه يفشل في تحرير نفسه من الجماعة، ومن ثقافة يمكن فهمها على أنها غير مكتملة، لأنها تتحقق في "التقليدانية"، التي يميزها عبد الكبير الخطيبي عن "التقاليد"، وهو التمييز الذي سنقف عليه، عقودًا بعد الخطيبي، في الأنثروبولجيا المعاصرة [توماس هيلاند إريكسن، 2021].
تتعارض التقليدانية مع الكوني، لكنها في الوقت نفسه تسيء فهم التقاليد، ولا تتوقف أبدًا عن اختزال التقاليد الموروثة إلى حقائق أيديولوجية والتلاعب بها. تعيش المجتمعات العربية في "هيتيرونوميا مزدوجة" كما يُعبّر عن ذلك مزغني، بين الحداثة والتقليد، وإن كنت أعتقد بأن هذه المجتمعات لا تعيش التقليد إلا باعتباره تقليدانية كما تعيش الحداثة خارجيًا فقط. فهي تعيش الحداثة من خارج مُنجزها الحضاري: تحديث بلا حداثة، كما درج كثير من النقاد على التعبير عن ذلك.
إن "الدولة غير المكتملة"، بتعبير مزغني، هي تلك التي لا تمتلك "السيادة القانونية الكاملة: أن نقول القانون وتضمن تطبيقه". وبدلًا من ذلك، فإننا نواجه دولة تقوم على هوى فرد، أو طائفة، أو جماعة، أو قبيلة، أو حتى جهاز مخابرات، دولةً هويتها السياسية مغتربة عن الحاضر.
يربط مزغني استبداد الدولة العربية بعلاقة المجتمعات العربية بتراثها الثقافي. وتظل هذه المجتمعات حبيسة هوية غير تاريخية ترتكز على التراث، وعلى فكرة سحرية في الغالب عن ذلك التراث. وبما أنه يسمح فقط بـ "الانتماء وليس مكانًا للتعلم"، فإن هذا "التراث لا ينتمي إلينا، لأننا في نهاية المطاف نحن من ينتمي إليه"، أو في لغة الخطيبي: "إن التقليدانية، كما قلنا، ليست تقليدًا؛ إنها نسيانه.... فالتقليدانية تتغذى على كراهية الحياة. ومن قرن إلى قرن، تتحول إلى الوحشي والشيطاني" [الخطيبي، 1983].
وهذا الخوف من التاريخ، كما يسميه مزغني، أو "الحداثة المترددة" [محمد الشرفي، 1998] ينطوي على موقف دفاعي تجاه الحداثة، وخاصة تجاه إنجازاتها القانونية والسياسية. ويهيمن هذا التوجه على التنشئة الاجتماعية السياسية في العالم العربي، بحيث يُنظر إلى الدولة كقوة خارجية غير منتخبة، ويجب الخوف منها. بلغة لا تخلو تمامًا من السخرية، يصف المؤرخ المغربي عبد الله العروي تقديس التقاليد بأنه "تقليل من قيمة الأحداث التاريخية"، و"تحويل للمؤرخ إلى عالم لاهوت" [العروي، 2014].
لكن ما يبدو أن مزغني في بعض الأحيان لا يفهمه ـ ومن خلفه العروي وكُلّ اليعاقبة العرب ـ هو أن المشكلة لا تكمن في التقاليد. فالتقاليد لا تموت في الحداثة. قد يمسّها التغيير، وقد تعصف بها التحولات الجديدة، مثل العولمة، أو تضطرها لتقديم تنازلات، كأن يستمر الدين في صيغة فردية، وليس في صيغة جمعية. إن التقاليد ليست ثابتة كما يعتقد اليعاقبة العرب. والمشكلة تكمن في الاستيلاء الأيديولوجي، المسيّس على التقاليد: أو في التقليدانية. خطأ مزغني، والبورقيبية عمومًا، يكمن في تفسير متحيّز للأزمة العربية، يرى أن الإسلام هو سبب الأزمة، في حين أن ذلك يكمن، وفي جزء منه فقط، في العلاقة التي نبنيها مع الإسلام في سياق التخلف.

اللامرئية بحسب المفكر الألماني أكسيل هونيث "باثولوجيا اجتماعية" (Getty)

يرى مزغني أن الشريعة كلٌ فوق التاريخ، في حين أنها كانت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالواقع المعيش للمسلمين ومشاكلهم اليومية. لقد مثلت الشريعة، إلى حد كبير، التفكير الواقعي للمسلمين. إن الشريعة وحيٌ مستمر، وليس كما يعتقد مزغني: "وحدة، هي ككل، محصنة ضد الزمن". فالتاريخ لا يسمح باستثناءات، ولا شيء يفلت من قبضته.



يُنتج سياق التخلف دينه الخاص، أو يحدد أشكال العلاقة بهذا الدين الخاصة به. ولذلك، فإن الخطاطة الثنائية: تقليد ـ حداثة يتوجب تعويضها بخطاطة ثلاثية الأبعاد: تقليدانية ـ تقاليد ـ حداثة، من أجل فهم أفضل للحاضر السياسي والاجتماعي للعالم العربي. تمثل التقليدانية هنا اختزالًا أيديولوجيًا للتقاليد والحداثة معًا، من قبل السلفيين والحداثيين. إنها تمثل وعيًا مغتربًا عن واقعه وأسئلته المُلحّة وعن قيم الكونية، وفي النهاية عن التقاليد ذاتها، عن تاريخيتها وتعدديتها.
يتخذ هذا الوعي شكلًا مرضيًا في المعسكرين المتعارضين ظاهريًا. لقد تخلى البورقيبيون في شمال أفريقيا، بـ"دولتهم الانفصالية"، عن مصير شعوب المنطقة، ولم يترددوا أبدًا في إعلان احتقارهم للشعب ولامبالاتهم بمصيره الاجتماعي، وليس البوعزيزي إلا رمزًا لجيل بأكمله جرت التضحية به، بل إن النخبة المُنتشية بأميتها النيوليبرالية، أو ما يسميه أدورنو بالتكوين الناقص Halbbildung، ترى بأن تحقيق مصالحها لا بد أن يتعارض بالضرورة مع مصالح المجتمع. ولهذا يتوجب أن ندرك بأن الهدف من سيادة القانون ليس تحرير القانون من اللاهوت كما قد يعتقد مزغني، ولكنه يعني تحريره من الاستبداد. ذلك أن اللاهوت مثل القانون ضحية لهذا الاستبداد. إنه استبداد بورقيبة الذي انتهى بتونس في براثن دولة بن علي البوليسية، وهو الاستبداد عينه الذي أفرغ الأحزاب الوطنية من مضمونها في مجموع المنطقة العربية، وذلك على الرغم من كل دعاوى الحداثة والتقدمية.
إن نقد التقليدانية يعني، أولًا، أنه لا يمكن العودة بالتقاليد إلى وحدة متخيلة. لا يمكن فهم الماضي إلا في صيغة الجمع، كينابيع تُلهم الحاضر، كما يعبر عن ذلك المفكر الفرنسي فرانسوا جوليان، وليس كانتماء ضيق، أو هوية مغلقة. ويعني، ثانيًا، أنه لا يمكننا أن نمتلك ذلك الماضي، أو تلك التقاليد، وحتى لا يمتلكنا أو تمتلكنا، إلا من خلال المقاربة العلمية للحداثة، فكل مقاربة أيديولوجية، وعلى الرغم من كل النوايا الحسنة، وأنا أفكر هنا بالضبط في محمد عابد الجابري، ومشروع بعث الرشدية، يفرغ ذلك الماضي من مضمونه التاريخي، ويعيد من خلال إنتاجه إنتاج السلطوية التي يروم محاربتها.
لا تملك التقاليد صلاحية فوق تاريخية، ولا تختزل في ماض، أو في الأموات. إنها تعيش وتموت معنا. ومزغني يخطئ وهو يربط الدين بالمجتمع التقليدي. إنها مقاربة وضعية نعرفها من القرن التاسع عشر، تكتفي بنصف ماركس، ستكذبها تطورات لاحقة.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.