}

في الكتابة للجمهور العام

رشيد بوطيب رشيد بوطيب 9 أغسطس 2023
آراء في الكتابة للجمهور العام
(تيسير بركات)

رُبّ سائل: وهل يقرأ جمهورنا الخاص حتى نكتب للجمهور العام؟ لكن إذا صرفنا النظر عن مثل هذا السؤال المُحبط، فإن مسألة الكتابة للجمهور العام وتحدياتها، أضحت تشغل الكثير من المتخصصين في السياق الأنغلوساكسوني خصوصًا. بل إني قد لا أبالغ إذا ما زعمت بأن الكتابة للجمهور العام فن، وأنه فنٌ صعبُ المنال، وهي  أبعد ما يكون عن الكتابة الأكاديمية المغرقة في البيروقراطية، وقد لا أبالغ إذا ما قلت بأنها تتمتع بعمق رغم تُهم السطحية التي توجه لها عادة، وخصوصًا من طرف أولئك الذين لا يحسنون الكتابة!

لقد كتب جاك دريدا في كتابه عن الصفح، بضرورة أن نطلب المغفرة حين نكتب، وأعتقد أنه يتوجب علينا أن نطلبها أيضًا حين لا نكتب، وخصوصًا حين لا نكتب للآخرين. وبالنظر للتحديات التي يواجهها عالمنا اليوم، نشعر، لا ريب، بضرورة الدفاع عن تصور ديمقراطي عن الكتابة، والذي قد يعني أن الكتابة، شأن اللغة، لا تتحقق بدون إشراك للآخرين. في اللقاء، فقط، تتحقق الكتابة، والدفاع عن تصور ديمقراطي عن الكتابة معناه التحرر مما تسميه Kristen Rogheh Ghodsee  بـ  Academse  أو الرطانة الأكاديمية، أي، في لغتها، تلك "الشفرة السرية التي يستعملها بعض الباحثين لكي يؤكدوا بأنهم أعضاء في فريق [الأكاديميين]".

لكن ماذا يعني كل هذا؟ ألا نكتب دومًا للآخرين؟ إن السكولائية النيوليبرالية التي تطبع العلوم الإنسانية المعاصرة ستبحث عن علميتها في انعزالها عن الشأن العام، وعن الحياة اليومية، وعن الجمهور والسياسة. فهي تنتج معرفة لا علاقة لها بالناس وقضاياهم. فما الذي يعني، وحتى نضرب مثلا بالفلسفة فقط، أن نرتبط، ولأجيال، بتقاليد فلسفية قديمة، لم يعد لها ما تقوله لعصرنا؟ أو ما الذي يعنيه أن نختزل التفكير في الإبستمولوجيا، أو في منطق مغترب عن العالم، أو في الحياة التأملية، في زمن يواجه فيه عالمنا تحديات كبيرة؟

أفهم الكتابة للجمهور العام باعتبارها فعلًا تنويريًا. إن التنوير، في التعريف الكانطي، يعني الرشد، التفكير الذاتي، التحرر من الوصاية إلخ... ولكن يتوجب علينا أن ندرك بأن التنوير، في المعنى الكانطي، ليس مرتبطًا بمراكمة المعارف. فكما يؤكد  المتخصص في الدراسات الكانطية، أوتفريد هوفه (2012)، فإن التنوير الكانطي من هوية أخلاقية وليس نظرية، وهو يمثل "ثورة في الموقف الداخلي للإنسان، من الحياة والعالم"، مُؤكدًا أن تصور كانط عن التنوير، يختلف عن نظيره الفرنسي، الذي يرتبط بمراكمة المعارف، كما يعبر عن ذلك مشروع الموسوعة (1751-1772)، إنه يتضمن "رفضًا لكل أرستقراطية عقلية لصالح ديمقراطية في الأشياء العقلية". وهو ما يؤكد أن كانط يدافع عن تصور ديمقراطي عن التنوير، والذي دعم سواسية الجميع في استعمال العقل، بغض النظر عن اختلاف الثقافة والعرق والدين. وإذا ما طلبنا الكتابة في روح تنويرية، فسنكون مدعوين لفهم فعل الكتابة باعتباره فعلًا أخلاقيًًا، فهذا الفعل لا ينحصر في مراكمة المعارف كما تريد ذلك السكولائية النيوليبرالية، بل يتوجب أن نفهمها كفعل تواصلي، كفعل ضيافة، كخروج من الذات وكنقد، ذلك أن التنوير في المفهوم الكانطي، يرتبط عميقًا بالأخلاق والنقد، ويمكننا تلخيصه في الجملة التالية: الأوتونوميا ضد الهيترونوميا.

إن التفكير والكتابة المغتربين عن العالم، يساهمان في إعادة إنتاج الهيترونوميا أو السلطة. إن ما نحتاج إليه هو العمل، في لغة  Ashley J. Holmes (2022) على خلق "مواطن أكاديمي" Academic Citizen، وهو يعني بذلك استعمال ما يتم إنتاجه من أفكار داخل الجامعات "بشكل عملي ومواطني، على أمل المساهمة في تغيير اجتماعي إيجابي". ويرى أن مهمة المواطن الأكاديمي تكمن في خدمة المجتمع ونقد أشكال الظلم القائمة. ويبدو أن الأمر يتعلق في نهاية المطاف بعملية ترجمة، والتي تتضمن تحويلًا للغة والكتابة في آن. ولكنها ترجمة لا تبحث عن "لغة محضة"، وأعني تلك التي يمكن اختزالها في طوطمية للأصل. بل هي ترجمة واعية بلا محضية اللغة والعقل. إن كل تفكير يختزل "شجرة الحياة الخضراء" في "نظرية رمادية"، لا يفعل سوى تكوين العالم، إنه غير قادر على لقائه أو اقتسامه مع الآخرين. ولكن، وحتى لا يتحول التواصل، كما ينتقد أدورنو (1982)، إلى ذلك "الضجيج الذي يغطي صمت المنفيين"، يتوجب على الإنسانيات أن تعيد التفكير بدورها الاجتماعي، وتجعل من التواصل مع المجتمع أولوية لها.

لم يبالغ باول سيلان (1988) وهو يكتب بأن "القصيدة تريد أن تذهب عند الآخر. إنها تحتاج لهذا الآخر، إنها تحتاج لطرف آخر"


لكن ما الذي يعنيه أن نطور لغة تواصلية؟ إن الأمر لا يتعلق بسؤال عن جنس الكتابة، ولا بسؤال تقني، ولكنه سؤال أخلاقي أولًا. إن ذلك يعني، قبل كل شيء، تطوير القدرة على التعبير في لغة من لحم ودم.  يتحدث هابرماس في "الفكر ما بعد الميتافيزيقي" عن وعي من لحم ودم. ولكنه يظل وعيًا مونولوجيًا، فهو لا يقبل بتعددية الأصوات إلا في ظل سلطة العقل الواحد، وهو ما ينتقده "فكر الجنوب" في النظرية النقدية. إننا نلتقي تلك اللغة التي أتحدث عنها أكثر في الأدب، ليس فقط منذ دوستويفسكي وميخائيل باختين، ولكن أيضا في الشعر، وليس في اللغة المجردة للفلاسفة والأكاديميين. دعوني أقدم لكم مثالا من الشعر المعاصر، من قصيدة للألماني غونثر آيش، عنوانها: "نهاية صيف". يكتب، هو الذي ظل يسخر عن حق من أولئك الشعراء الذي ما زالوا يلقون قصائدهم على الجمهور:

"من يريد أن يعيش بدون عزاء الأشجار؟

كم هو خيّرٌ أنها تشاركنا الموت...".

في سياق يزداد فيه القلق من التغيرات في البيئة والمناخ، تقول لغة الشاعر أكثر مما تقوله اللغات الرسمية، السياسية منها والأكاديمية. إنها لغة تكلم كل شيء فينا وهي لغة تُحولنا إيتيقيًا. إنها تُخرس كل أدلّتنا، وتقول ما هو أكثر من الأدلّة، إنها، في لغة ليفيناس قول dire، وليس مقولًا dit. وإذا كان المقول ينحصر في عالم المفاهيم والمواضيع والأفكار، فإن القول سابق على الدلالة أو المنطق النحوي. إنه لقاء بالآخر، أو هو الوجود من أجل الآخر. فهو لغة سابقة على الكلمات، أو ما يسميه ليفيناس: دلالة الدلالة.

لم يبالغ باول سيلان (1988) وهو يكتب بأن "القصيدة تريد أن تذهب عند الآخر. إنها تحتاج لهذا الآخر، إنها تحتاج لطرف آخر"، إنها الأمر في الشعر لا يتعلق بمونولوغ للدازاين، ولا يتعلق بموت أنوي على الطريقة الهايدغرية، لا يكشف عن نفسه إلا في اللاعلاقة أو الأصالة، أي ذلك الموت الذي لا يحتاج للآخرين، المستعصي على القسمة، كما نفهمه من "الكينونة والزمان"، وبلغة أخرى، إنه موت بدون عزاء الأشجار. إن القصيدة تقول بأن الأشجار تموت أيضًا، ولكن فوق ذلك، تقول بأن الأشجار تحمل عزاءً للإنسان. لكن بالنسبة لهايدغر، فوحده الدازاين من يموت، وليس الحيوان، وطبعًا ليس الأشجار. ففي عالم الأصالة، العزاء والأشجار أو عزاءُ الأشجار ليسوا أكثر من "ثرثرة". وليس مُدهشًا أن يرى هايدغر في "مقدمة إلى الميتافيزيقا" بأن التفكير ليس "جُزءًا من الحياة اليومية"، وهو "لا يخدم حاجات مُلحّة أو سائدة"، ونحن بتنا نعرف اليوم، وكما تشرح حنّه آرندت ذلك في مقالها: "هايدغر في الثمانين من عمره"، أي نتائج سياسية تترتب عن مثل هذا التفكير في التفكير. لقد أوضحت بأن أغلب الفلاسفة، وتضرب مثلًا في مقالها بأفلاطون وهايدغر، ينصرفون في تفكيرهم عن الحياة العامة، ولكن "إذا حدث واهتموا بأحوال البشر، فإنهم غالبا ما يلتحقون بصف المستبدين".

لكن ما علاقة هذا المثال بموضوعنا؟ أليس ضياعنا في دروب فلسفة الكينونة مثالًا على انغلاق الأكاديميين أمام الجمهور؟ ما أريد أن أقوله، أنه بالإمكان التوجه إلى الناس في لغة واضحة، متحررة من الرطانة، دون التضحية بعمق التفكير. أليس هذا ما حاوله لوثر في ترجمته للكتاب المقدس؟ ألم يخلق لوثر، وهو يترجم إلى لغة الناس، ليس فقط علاقة جديدة بالكتاب الديني، ولكن لغة جديدة، كما سيفهم غوته وهردر ونيتشه؟ ولكن، يمكننا أيضا الكتابة والتفكير اليوم مثل هايدغر، دون حاجة إلى الآخرين، أو دون التفات إلى مخاوفهم وهم يتحدثون عن موت الطبيعة، والذي هو موتهم أيضًا.

إن الكتابة تعني أيضًا القدرة على التعبير عن مشاعر الكاتب ومشاعر الآخرين، ولا يمكن اختزالها إلى مفاهيم مجردة. وهي، في توجهها إلى الجمهور، متعددة الأصوات والأساليب، تمنح للآخرين صوتًا قد لا يجدونه في اللغة الأكاديمية الفقيرة. وهي فقيرة لأنها نخبوية، ولأنها لم تتعلم أن تتكلم بصوت الآخرين. 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.