}

300 عام على ميلاد كانط: "ثورة الفكر"

رشيد بوطيب رشيد بوطيب 22 مارس 2024
تغطيات 300 عام على ميلاد كانط: "ثورة الفكر"
قدّم كانط تصورًا جديدًا عن الأخلاق (Getty)
تحتفي المؤسسات الألمانية هذه السنة بمرور 300 عام على ميلاد إيمانويل كانط، الذي سيوافق 22 أبريل/ نيسان 2024، ولقد بدأ الإعداد لهذا الاحتفال منذ السنة الماضية، ويظهر ذلك من خلال الكتب التي صدرت مؤخرًا حول هذا الفيلسوف، والتي تتمحور في الأساس حول راهنيته وأهميته بالنسبة للأسئلة التي تطرح نفسها اليوم على البشرية. لكن ماذا يعني أن نحتفي اليوم بكانط؟ أن نعود إليه؟ أن نبحث في راهنيته؟ أن نقرأ أسئلتنا من خلال فلسفته؟ أن نقتفي استمراريته في الفلسفة المعاصرة؟ أن نقف على ما فعل بها وما فعلته وتفعل به؟
تؤكد التجربة الفلسفية الألمانية أن التفكير يعيش من خلال حوار مستمر ونقدي مع التقاليد، وهو يتطور ويبدع وهو يمضي بهذه التقاليد إلى آفاق أوسع، أو وهو يسلط الضوء على محدوديتها وضرورة تجاوزها. والمطلع على الفلسفة الألمانية المعاصرة وحضورها في الجامعات الألمانية، يدرك أنها في جزء كبير منها عمل دؤوب ومُضن على التقاليد، قد لا نجد له مثيلًا في السياقات الفلسفية الأخرى، ويتخذ ذلك العمل، أو تلك العلاقة، صورًا مختلفة، فهناك المؤرخون، وهناك الشُرّاح، وهؤلاء تظل أهميتهم مدرسية بحت، من دون أن يُقلّل ذلك في شيء من دورهم الكبير في المحافظة والتعريف بتلك التقاليد، وتسليط الضوء على وجوه جديدة لها لم تكن معروفة من قبل. ولكن العلاقة بالتقاليد تتجاوز ذلك إلى مستوى ثالث هو الذي يطلب من خلال الحوار معها التفكير في قضايا الراهن. هل نبالغ إذا قلنا بأن الفلسفة الألمانية، وذلك حتى في خطها الأكثر نقدية، هي حوار مع كانط والمثالية الألمانية؟
يؤكد ماركس فيلاشيك، في كتابه: "كانط: ثورة الفكر" (بيك، 2024)، وهو لا ريب من أهم الكتب التي صدرت بهذه المناسبة إلى جانب كتاب المتخصص الكبير في الدراسات الكانطية، أوتفريد هوفه: "إيمانويل كانط اليوم: الشخص والعمل"، يؤكد بأنه ما زال لكانط كثير مما يمكنه أن يقوله لنا اليوم، سواء تعلق الأمر بأفكاره حول الديمقراطية والسلام، أو الأخلاق والقانون، أو حول حدود المعرفة الانسانية، ولما لا حول الدين والتربية أيضًا. يتحدث المؤلف عن ثلاث ثورات غيرت حياة وتفكير كانط. تساوقت الثورة الأولى مع بلوغه سن الأربعين، وكان لها في رأيه تأثير كبير على فلسفته، فقد جعلت من كانط العالم، أو المشتغل بالعلوم الحقة، مفكرًا سياسيًا وأخلاقيًا، وشكلت "توجهًا جديدًا لفلسفته"، ارتبط بالتأثير الذي ستخلفه عليه قراءته لأعمال جان جاك روسو، والتي ستجعل كانط يربط فلسفته نهائيًا بالأخلاق، أو بما عبر عنه بـ "أولوية العقل العملي المحض"، أو أولوية العمل على النظر. إن المعرفة ليست غاية في ذاتها، بل يتوجب النظر إليها كوسيلة للارتقاء بالإنسان أخلاقيًا وسياسيًا. أو كما سيعبر عن ذلك فيلاشيك في فصل لاحق حول تأثير روسو بكانط: "يُوضّح روسو أن القيمة الخاصة للإنسان لا تقوم على "العلوم والفنون"، أي تلك المواضيع التي كان كانط يهتم بها في المقام الأول، ولكن على ميوله الأخلاقية وفضائله. إن فكرة أولوية الممارسة على النظرية هي التي تميز فلسفة كانط في مرحلة نضجه بشكل لا مثيل له. فمنذ "نقد العقل المحض"، وكانط يرى أن الهدف النهائي للفلسفة يكمن في مساهمتها في تحقيق "الغايات الضرورية والأساسية للإنسانية"، والتي تكمن، في نهاية المطاف، في "السعادة العامة"، والكمال الأخلاقي. وفي كتابات الثمانينيات والتسعينيات يتضح أنه ليس العقل النظري من يسمو بالإنسان فوق الحيوانات، بل قدرته على التشريع الذاتي الأخلاقي Selbstgesetzgebung، والتحديد الذاتي Selbstbestimmung" (الصفحات 125-126).



يقدم كانط تصورًا جديدًا عن الأخلاق يختلف كثيرًا عما قدمه من سبقوه، سواء من الفلاسفة اليونان، أو فلاسفة التنوير، ذلك أن السعادة الفردية، او الجماعية، لا تمثل أساس العمل الأخلاقي، ولكن الإرادة الخيرة للفاعلين. بل إن التوجه نحو السعادة يعطل في رأيه الأوتونوميا، ويربط الإنسان بالتأثيرات الخارجية، التي تتمثل في الأساس في النزعات والأهواء الطبيعية. لكن فيلاشيك يؤكد في قراءته أمرًا أساسيًا، وهو أن هذا التصور الكانطي لا يعني أن كانط يقف ضد "الحدوس النفعية" بشكل مطلق. بل هو "يحاول إدماجها بفلسفته الأخلاقية والسياسية، من دون تنسيب لقيمة الأوتونوميا، والكرامة الإنسانية. إن السعي خلف السعادة الشخصية هو بحسب كانط مكونٌ جوهري للطبيعة البشرية. بل إن الأمر يتعلق بواجب أخلاقي، أن يهتم المرء بهنائه، ما دام ذلك يمثل شرطًا لقدرته على الفعل الأخلاقي. بل إنه من الأخلاق أن ندعم سعادة الآخرين" (ص 136) إن هذا يعني بأنه من الخطأ القبول بالرأي الشائع الذي يقول بأن كانط يرفض السعادة، أو لا يمنحها أي قيمة أخلاقية، بل إنها ستمثل في رأيه جزءًا لا يتجزأ مما يسميه "الخير الأسمى" Hoechstes Gut.
أما الثورة الثانية، في رأي فيلاشيك، فهي تلك التي ارتبطت بكتابه "نقد العقل المحض"، والتي عمدت إلى "قلب العلاقة بين الذات العارفة والموضوع ووضع الذات الانسانية في قلب العالم"، وما اصطُلح عليه في الأدبيات حول كانط: "الثورة الكوبرنيكية". يكتب فيلاشيك: "لا تنشأ صورتنا عن العالم فقط من خصائص الأشياء التي نتعرف عليها، ولكن أيضًا من الطريقة التي يجب أن تظهر بها هذه الأشياء للمراقب البشري بناءً على مكوناته العقلية". ووفقًا لكانط، يشمل ذلك المكان والزمان، اللذين ليسا من خصائص "الأشياء في ذاتها"، بل هما شكلان من أشكال المعرفة الإنسانية. لذلك، وفقًا لكانط، لا يمكننا التحدث عن المكان والزمان إلا "من وجهة نظر الإنسان". ولكن بما أن أنماط الظهور هذه هي نفسها بالنسبة لجميع الناس، وهي من تجعل كل معرفة بالعالم ممكنة، فهي، وفقًا لكانط، تمتلك صلاحية موضوعية بالنسبة للواقع الإنساني. إن موضوعية المعرفة الإنسانية والواقع المشترك بين جميع الناس لا يقومان فقط على خصائص الأشياء التي تمّت معرفتها، ولكن بالخصوص على البنى المعرفية للذوات العارفة. (...) إن معرفتنا، وفقًا لصيغة كانط الشهيرة، يجب ألا "تنتظم وفقا للموضوعات" فقط، ولكن يتوجب أيضًا أن "تنتظم الموضوعات وفقا لمعرفتنا"، لأنه بخلاف ذلك لن نتمكن من التعرف عليها كأشياء. إن هذا القلب للعلاقة بين الذات والموضوع، الفكر والموضوع، هو من يمثل "ثورة في طريقة التفكير" عند كانط، كما عبر عن ذلك في "نقد العقل المحض".  (الصفحات 26 -27).




أما الثورة الثالثة، والتي ستؤثر عميقًا في كانط، وخصوصًا في فكره السياسي، الذي تحول إلى معين لا ينضب بالنسبة للفكر السياسي المعاصر، فهي تلك التي تمظهرت في الثورة الفرنسية، وإعلان الجمهورية. ولم يبالغ فيلاشيك وهو يكتب بأنها تمثل الحدث السياسي الأبرز الذي سيؤثر بكانط ويشغله. فحتى وإن كان كانط يرى أن الثورة السياسية تخرق القانون القائم، وحتى وإن كان يميل في تفكيره إلى موقف إصلاحي أكثر منه إلى موقف ثوري، فإنه لن يخفي بهجته بالثورة الفرنسية على النظام القديم، عادًا إياها تقدمًا في اتجاه عالم أكثر عدلًا. ويتضح بشكل كبير تأثر كانط بالثورة الفرنسية في كتبه المتأخرة: "نحو السلام الأبدي" (1795)، و"ميتافيزيقا الأخلاق" (1797)، و"صراع الكليات" (1798). وعلى الرغم من أن كانط سيدين إعدام الثوار للملك، والنظام الإرهابي الذي ستقيمه الثورة، ولكنه ظل يرى في الثورة الفرنسية دليلًا على إمكانية الأمل بمستقبل أفضل للبشرية، وبإمكانية قيام نظام قانوني ديمقراطي يحدّد العلاقات داخل الدولة الواحدة، ويؤسس للسلام بين مختلف الدول.
يؤكد فيلاشيك أن السلام ليس فقط الهدف الأساس للسياسة لدى كانط، بل يرى فيه الغاية الأساسية لفلسفته، وهي فكرة سيدافع عنها لأول مرة هانس سانر في كتاب أصبح كلاسيكيًا، يحمل عنوان: "طريق كانط من الحرب إلى السلام" (1967). ذلك أنه في قراءة هانس سانر، مهمة العقل لدى كانط، تتمثل في تحقيق السلام. يفهم كانط العقل، الذي يحدده النقد والنقد الذاتي، بالمعنى الميتافيزيقي والسياسي، "كسلطة وضامن للسلام"، كما يكتب في "نقد العقل المحض". وما يميز سياسة العقل عند كانط أنها تشمل إرادة الجميع وتمهد الطريق للسلام من خلال تجربة النزاع. يلخص كانط مسار فلسفة العقل في التاريخ في ثلاثة مصطلحات مركزية: الدوغمائية، والشك، وأخيرًا النقد، أو النقدانية. يُقصد بالدوغمائية الثقة المفرطة للعقل في نفسه، وتعني الاعتقاد بأن العقل الفلسفي، كما هي الحال في الرياضيات، قادر على التعرف على الأشياء بشكل قبليّ. بالنسبة لكانط، يمتد خط الدوغمائيين من أفلاطون وأرسطو إلى لايبنتز وكريستيان فولف. والجانب الثاني هو جانب الشك، الذي يقوم، حسب كانط، على "الفشل الكامل لجميع المحاولات في الميتافيزيقا". أما اللحظة الثالثة، وهي اللحظة الكانطية، فهي لحظة نقد العقل الخالص، أو لحظة النقد الذاتي للعقل، والتي ستضع حدًا للنزاع الدائم في الميتافيزيقا، وتمهد الطريق للسلام داخل الميتافيزيقا. ولهذا السبب أيضًا تشكل اللحظة الثالثة نوعًا من المحكمة في لغة كانط. وكما يصفه في نقد العقل المحض: "يمكن للمرء أن ينظر إلى نقد العقل المحض باعتباره المحكمة الحقيقية لجميع النزاعات حوله، والتي بدونها، يكون العقل، كما كان، في حالة الطبيعة، ولا يمكنه تأكيد، أو تأمين مطالبه بأي طريقة أخرى غير الحرب. ومن ناحية أخرى، يوفر لنا النقد السلام في وضع قانوني لا يمكننا فيه إدارة نزاعاتنا إلا من خلال التقاضي". وهي محكمة أو محاكمة يجب أن تضمن في نهاية المطاف السلام الأبدي. إن حلّ هذا الخلاف، الذي يتطلب النقد والنقد الذاتي، هو سمة مركزية للفلسفة الكانطية بأكملها، وليس فقط ميتافيزيقاه. يكتب هانز سانر في كتابه الكلاسيكي: "الفلسفة تبدأ في النزاع. لكنها تريد السلام (...). تقترب منه في طريق لا نهاية له.. (...) كانط هو فيلسوف هذا الطريق، (...) فيلسوف السلام. إن فلسفته بأكملها تعد نفسها رحلة نحو سلام العقل".



بمعنى آخر، رحلة إلى سلام يقوم على مبدأ العقل النقدي على المستويين النظري والعملي. يكتب أيضًا: "يرفض كانط كل أنواع السلام التي لا يرجع أصلها إلى العقل نفسه، والتي لا يمكن أن يكون هدفها نشر العقل في جميع أنحاء العالم". ولهذا السبب، أيضًا، يدافع كانط عن حكم القانون داخل الدولة الواحدة، وكذلك خارجها، بين الدول المختلفة. إن السلام هو الخير الأسمى. وإن العقل النقدي وحده القادر على تحقيق السلام نظريًا وعمليًا. ويؤكد هانز مايكل بومغارتن القراءة التي يقدمها سانر للعقل الكانطي ويكتب: "إن فلسفة كانط ككل هي محاولة للتوسط وتحقيق السلام، انطلاقًا من تجربة الصراع، ومعركة الفلسفات، وكذلك الأفراد والدول". ولم يبالغ أوتفريد هوفه، لما رأى أن السلام أضحى فقط مع كانط مفهومًا أساسيًا في الفلسفة. يمثل القديس أوغسطين استثناءً في فلسفة ما قبل الحداثة، لكن سلامه يظل محفوظًا للمابعد. أما بالنسبة لكانط، فيتوجب على السلام: "أن يتحقق في توافق مع فكرة الحق ومفهومها الأخلاقي". لكن هذه القراءة لا تعني، برأي فيلاشيك، بأن كانط كان يرفض الحرب بشكل قطعي. أجل ما برح كانط ينظر إلى الحرب باعتبارها "الشر الأكبر الذي يمكن أن يواجهه النوع البشري"، ومع ذلك فهو يتحدث أيضًا عن جوانب إيجابية للحرب، ومنها دفع الإنسانية إلى تطوير قدراتها التقنية والإدارية، بل هي قد ترتقي الى مستوى السامي، أو الجليل، بالمعنى الإستيتقي للكلمة، وقد تكون ضرورة مُلحّة في سياق لا يحكمه السلام العالمي من أجل الدفاع عن النفس، أو ردّ العدوان، كما أن الحروب تدفع الدول في النهاية الى التفكير جديًا في سلام دائم، أو ترغمها على ذلك. ولكن على الرغم من ذلك، هل يمكننا أن نوافق فيلاشيك وهو يتحدث عن موقف كانط الرافض للحرب ليس بالنظر إلى الآلام التي تخلفها، ولكن لأنها تمثل خرقًا للقانون؟ وفي تعبير آخر: إن الحرب التي تحترم القانون هي حرب شرعية بغض النظر عن الآلام التي تخلفها، بل قد ينظر إليها باعتبارها طريقًا نحو التقدم بالبشرية. ولهذا لا عجب أن يبرر فيلاشيك ما يسمى "الحرب الاستباقية" انطلاقًا من كانط، إذا تعلق الأمر بتجنب ظلم أكبر، من دون أن يتساءل عما يمكن أن يكونه هذا الظلم الأكبر، ومن يمتلك صلاحية تحديد ماهيته؟ ولكن هل يمكننا إنكار تأكيد كانط أن الدول الديمقراطية وحدها هي التي تمتلك شعوبها قرار الحرب والسلام، ووحدها القادرة على تحقيق ذلك السلام؟ ربما ما لم ينتبه إليه كانط، وأحفاده اليوم، هو أن تلك الديمقراطية الرأسمالية، والتي ستستقل عن مصير الشعوب، هي من ستسعى جاهدة إلى تعطيل انتشار الديمقراطية في العالم، ومن تم إلى تبرير حروبها "الديمقراطية"، والتي من دون مبالغة يمكن اعتبارها الأكثر دموية في تاريخ الإنسانية. كما أن ما لم ينتبه إليه فيلاشيك، والذي يعمل غير بعيد عن أرشيف مدرسة فرانكفورت، بأن فكرة التقدم نفسها، كما أوضحت أبحاث بنيامين، وهوركهايمر، وأدورنو، مخضبة بدماء الضحايا، الذين لم يلتفت إليهم عقل الحداثة إلا في ما ندر.




ينفتح فيلاشيك في مؤلفه على موقف كانط من الثقافات والشعوب الأخرى، وهي قضية شغلت وما تزال الدراسات الكانطية حتى اليوم. وهي تتمحور بدءًا حول ما عبّر عنه كانط في كتاب شهير: "الجغرافيا الفيزيائية" بحق الأعراق غير الأوروبية من أحكام مسبقة، تعتمد بشكل غير نقدي على تقارير الرحالة الأوروبيين الذين رافقوا المغامرة الاستعمارية. لكن فيلاشيك، والذي لا يصمت على هذه الأحكام العنصرية التي أصدرها كانط في ذلك الكتاب، يرى بأن الرؤى التي يعبر عنها كانط في مؤلفه حول الإنسانية جمعاء، تجعل منه من أوائل المفكرين في العولمة والكوسموبوليتية. فكروية الأرض تجعل من المستحيل برأيه أن تستقل كل جماعة بنفسها عن الآخرين. إن البشر مضطرون، وبسبب من ضيق مساحة الأرض وندرة الموارد، إلى الدخول في علاقات في ما بينهم. وهي الفكرة نفسها التي سيدافع عنها في كتابه: "نحو السلام الأبدي"، وهو يضع حجر أساس قانون للمواطنة العالمية، يعده فيلاشيك أحد أهم الإنجازات النظرية للفلسفة الكانطية، ولمَ لا وتأثيره حاضر بقوة عند عدد من فلاسفة القرن العشرين، هابرماس، راولز، مارتا نوسباوم، سيلا بنحبيب، وفي كثير من الكتابات حول الأخلاق الكوسموبوليتية... يكتب فيلاشيك: "إن كانط يطور هذا القانون كمجال مستقل للقانون العام إلى جانب القانون الدستوري والدولي. وبينما اهتم القانون الدستوري، منذ العصور القديمة، ببنية الدولة الفردية والعلاقة بين مواطنيها، فإن القانون الدولي، الذي ظهر في القرن السابع عشر، ينظم العلاقة بين الدول. إن كانط هو أول من حدد حقوق الفرد في الدول الأخرى كمجال قانوني منفصل. ومن خلال القيام بذلك، فهو يربط تفكيره بكوسموبوليتية العصور اليونانية الرومانية القديمة، والتي بموجبها لم يكن الناس في نهاية المطاف آثينيين، أو رومانيين، بل مواطنين عالميين، أي كوسموبوليتيين" (ص 178). لا يجب أن ننسى بأن كانط سيراجع  وهو في سن السبعين موقفه من المشروع الاستعماري، وسيدين استغلال وقمع أعضاء الثقافات الأخرى من طرف الغزاة الأوروبيين، وسيرى في المغامرة الاستعمارية تعطيلًا لقانون المواطنة العالمية، وهو ما يؤكد التوجه الكوسموبوليتي لكانط، بل، حسب قراءة فيلاشيك يتجاوز كانط الكوسموبوليتية القانونية (قانون المواطنة العالمية) والكوسموبوليتية السياسية (نظام السلام العالمي) إلى كوسموبوليتية أخلاقية، تنظر إلى الإنسان باعتباره عضوًا في جماعة الإنسانية، أو إلى كل إنسان باعتباره مُواطنًا  في "مملكة الغايات"، في انسجام مع ما عبر عنه كانط في "أسس ميتافيزيقا الأخلاق". إن كل البشر هم أعضاء متساوون في جماعة عالمية، بغض النظر عن اختلاف أعراقهم وثقافاتهم. ومن هنا كان الخير الأسمى بالنسبة لكانط هو تحقيق هذه الجماعة الأخلاقية الكونية التي تضم إليها كل البشر. إنها القراءة نفسها التي ستؤكدها المتخصصة في الدراسات الكانطية، Pauline Kleingeld من خلال قراءاتها للمواقف التي عبر عنها كانط في "ميتافيزيقا الأخلاق"، و"نحو السلام الأبدي"، فبعد دفاع كانط عن الاستعمار، وتراتبية الأعراق البشرية، الذي استمر إلى بداية التسعينيات، يتحول منذ أواسط التسعينيات إلى منتقد راديكالي للاستعمار الأوروبي، منافحًا عن قانون كوسموبوليتي يشمل كل البشر.
لكن اليوم، وبالنظر للتغيرات المناخية التي تضرب كوكب الأرض، لم يعد البناء الأخلاقي الذي شيده كانط كافيًا. إنه يقوم على نوع من المركزية الإنسانية، والتي تغفل، في تأكيدها للإنسان، أو الكائن العاقل، باعتباره الوحيد الذي يمثل غاية في ذاته، حقوق الطبيعة. وهو ما ستحاول الفلسفة الأخلاقية المعاصرة منذ هانس يوناس تداركه، وهو أيضًا ما سينتقده برونو لاتور وهو يهاجم المركزية السوسيولوجية، منافحًا عن الطبيعة كفاعل سياسي، أما ادعاء فيلاشيك بأن "الطبيعة تمتلك لدى كانط قيمة أخلاقية واستيتيقية"، فهو يصطدم لا ريب بمركزية الإنسان ومركزية العقل في البناء الأخلاقي الكانطي. وعلى الرغم من ذلك، وإذا تذكرنا الغاية من الفلسفة لدى كانط، وكما عبّر عن ذلك في "نقد العقل المحض"، والتي تتمثل في عملها على تحقيق "الغاية النهائية" للإنسان، والمتمثلة في بناء نظام عالمي أخلاقي، أو الغاية النهائية للعقل والمتمثلة في تحقيق السلام بين البشر، فإن ذلك لن يقف ضد إمكانية تحقيق سلام بين البشر والطبيعة، خصوصًا أننا اليوم ندرك بأن السلام بين البشر يمرّ بالضرورة عبر احترام لحقوق الطبيعة.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.