}

عن الجامعة واغتيال الثقافة... وهواجس أخرى

فريد الزاهي 5 فبراير 2023
آراء عن الجامعة واغتيال الثقافة... وهواجس أخرى
محمد عزيز الحبابي، وعبد الله العروي، وعبد الكبير الخطيبي

في وقت ما، كانت الأسماء الجامعية التي تصلنا كتبها ومصنفاتها من المشرق، من قبيل طه حسين، ومحمد مندور، وغيرهما، ترافق كتابات أسماء جامعية أخرى أقل لدينا، من قبيل محمد عزيز الحبابي، وعبد الله العروي، وعبد الكبير الخطيبي. وكان التلفظ بلفظ الدكتور قبل التلفظ بهذه الأسماء من قبيل التبجيل والعرفان بمرجعيتهم وموقعهم في تكويننا الثقافي. كان المثقفون الدكاترة المغاربة من القلة بحيث أن الجامعة المغربية كانت تعج بالأساتذة المصريين والأجانب.
في تلك الفترة، لم يكن ثمة من حواجز بين الكتابة الأكاديمية، والكتابة بصفة عامة، لدى الكتاب الذين لم تسعفهم ظروفهم حيازة تكوين جامعي عالٍ. وكانت المسارب بين الجامعة ومحيطها الثقافي من الشفافية بحيث أن التفاعل والتداخل كان يكسر كل الحواجز التي يمكنها أن تقوم بينهما. وكانت جمعيات الكتاب والأدباء تجمع بين الأكاديميين وغير الأكاديميين، وأنشطتها لا تميز بين النقاش ذي الطابع الأكاديمي والنقاش ذي الطابع الثقافي، إذ إن الثقافة والكتابة كانت تُعاش باعتبارها تجربة فكرية وأيديولوجية لها مراميها وأهدافها الوطنية والقومية والاجتماعية.


من الحرية إلى التكلس
بل إننا قد نسير أبعد في هذه الرؤية لنقول بأن أغلب التحولات الثقافية والفكرية في الساحة الثقافية كانت تأتي من الفكر الجامعي الأكاديمي. وحتى نأخذ ثلاثة أمثلة مختلفة بالمغرب على ذلك، نذكر بأن كتابات العروي منذ "الأيديولوجيا العربية المعاصرة" كانت تطرح على الفكر والثقافة المغربيين العديد من الأسئلة المستعصية التي ما زالت تعتمل فيهما لحد اليوم. وتفكيره التاريخاني كان محط جدال، لا في الجامعة فقط، بل بالأحرى خارجها، في أوساط القراء والمثقفين ورجال السياسة.
أما الخطيبي، فهو منذ نشره لأطروحته عن الرواية المغربية، وكتاباته عن علم الاجتماع، كما نصوصه الأنثروبولوجية والسجالية في السبعينيات، وهو يثير الأسئلة تلو الأخرى. فقد كان الرجل أول عالم اجتماع فعلي للأدب. وكتاباته استوحت رولان بارت، وجاك دريدا، في تلك الفترة المبكرة، قبل أن يغدو الرجلان مرجعين لا محيد عنهما في التفكير في الأدب والثقافة والوجود. كما أن كتاباته عن الاختلاف، ونقد الميتافيزيقا، وسجاله مع الاستشراق، واليسار الفرنسي الصهيوني، كانت تحظى بصدى أعمق في كافة المحافل الثقافية.




أما عبد الفتاح كليطو فإنه بعد أن غازل البنيوية في كتاب "الأدب والغرابة"، لن يلبث أن يتحرر منها ليغدو ذلك المستكشف للأدب القديم بنظرة متفردة تجعل منه بورخيس العرب. وهو وإن حافظ على درسه الأكاديمي إلا أنه منحه لبوسًا شخصيًا يتزيا بالتأويل المعرفي الإنسكلوبيدي الذي افتقدته الجامعة المغربية مع سيادة السرديات والسيميائيات الغريماسية المتحجرة، وغيرها من المقاربات المنغلقة للنصوص.
وليس من الغريب أن هؤلاء الأعلام "الأكاديميين" كانوا يفتحون التفكير الجامعي أمام حرية الفكر والمبادرة الإبداعية المفكرة. وأن الخطيبي وكليطو ظلا "مقاليَّين"، لا يمنحاننا كتابًا بموضوع واحد، وبأطروحة واحدة. بل ليس من الغريب أيضًا أن الموقع الثقافي لهؤلاء الكتاب لا يعرف الحدود بين الثقافة الجامعية والثقافة العمومية. بل إننا ونحن نقرأهم نجدهم يمارسون تفكيك أسس هذه الثقافة ومفهومها للتخصص وطرائقها في الدرس وإنتاج المعرفة.
وإذا دأب الأغلب من طلبة الدكتوراة في العقود السابقة على نشر أطروحاتهم في كتب، ليكون ذلك مدخلهم المباشر إلى عالم البحث والتنقيب المعرفي، فإن الطلبة في العقود الأخيرة أضحوا أشبه بفئران المختبرات. فعددهم تكاثر، نظرًا لأن أغلبهم لا يجد منفذًا لسوق الشغل بالماجستير، ولا في الوظيفة العمومية التي شحت مناصبها المالية المخصصة للإدارات العمومية. إنهم يضطرون أحيانًا إلى التسجيل في موضوعات يفرضها عليهم، في الغالب الأغلب، أساتذة لا ينصتون إلى مقترحاتهم، ولا يأخذون أحيانًا بعين الاعتبار تكويناتهم. ولهذه العلل والأسباب وغيرها، تفرخ الجامعات دكاترة لا يضيفون إلا النزر اليسير للبحث العلمي، نظرًا لأن تفريخهم يكون تبعًا لخطاطات مسبقة تُفرض عليهم للأسف في الغالب الأغلب أن يتطرقوا للميتودولوجيا في البحث، وأن يقسموا بحثهم لشق نظري، وشق تطبيقي، وأن يتبعوا الخطوات نفسها التي اتبعها سابقوهم.
وهكذا، يجد الطالب الباحث نفسه يستنسخ من سبقوه، همه الوحيد أن يتخلص من البحث، ليحمل شارة الدكتور، فيعيد تكرار الخطاطة نفسها إذا ما أتيحت له الفرصة لأن يصبح في دوره أستاذًا ومشرفًا على الأبحاث. والملاحظ أيضًا أن أغلب الأساتذة يدافعون عن طلبتهم، وعن ضرورة تشريف أبحاثهم بأعلى التقديرات، وكأن المشرف على البحث يتماهى مع طالبه، وأن ما قد يطاله من انتقادات ستمسه هو باعتباره مشرفًا... بل إن بعضهم يفتخر بالعدد الوفير من الأطروحات التي يشرف عليها، غير عابئ بثقلها عليه، مديرًا الظهر للطلبة، لا يناقشهم في شيء، ولا يهتم بتطور أبحاثهم، مما يضطرهم إلى الاستعانة سرًا بأساتذة آخرين.


مأساوية المعرفة الأكاديمية
يحدث كثيرًا أن يتصل بي طلبة دكتوراة يشتغلون على قضايا تقع في صميم اهتماماتي البحثية. بيد أني صدمت مرات من طلبة يطلبون مني لائحة المراجع، وآخرين أن أقترح عليهم موضوعًا للبحث، لأنهم لم يهتدوا إلى ذلك، وآخرين أن أدلهم على كيفية تحليل الصورة، أو ما شابه ذلك، بل آخرين أن أناقشهم في المنهجية، وفي قضايا يكون عليهم أن يواجهوها بأنفسهم في مسير بحثهم. ويبدو أن توفر المراجع والكتب، سواء في المكتبات، أو الإنترنت، لا يوفّر معطيات مرجعية بقدر ما يدخل الطالب الباحث في الحيرة والتردد والانزعاج المعرفي. وهو ما ينجم عنه التشتت المعرفي الذي لا يزيده التكوين الهش إلا فداحة.




يعيش التكوين الأكاديمي في مراحله العليا، خاصة في التعليم العمومي، أزمة مركبة تنعكس بشكل واضح على صياغة بروفايل باحث المستقبل. ولعل أحد الأسباب التي تهمنا هنا في تكوين الطالب الباحث تتمثل في الأساس في غياب التقويم، باعتباره صمام أمان ضد الهشاشة المعرفية، التي يكون العديد من الفاعلين التربويين مصدرًا لها. فلا الأستاذ يقوّم طلبته بشكل موسمي، ولا الطلبة يقوّمون القائمين على تكوينهم. وهذا ما يجعل الطلبة أشبه بالقطيع، ويعيد إنتاج واستنساخ علاقات السلطة في المجتمع داخل مجال التكوين الجامعي. لذلك لا تجد مكونًا جامعيًا يعترف بعدم تمكنه من مجال معين، ولا من نقص معارفه في مضمار ما، ولا من طرح السؤال على طريقة تدريسه، لا بينه وبين نفسه، ولا مع طلبته. إنه مصدر المعرفة ومعينها المطلق التام، ولا أحد له الحق في التشكيك في ذلك.
إن هذه المعطيات، وغيرها كثير، لا يمكن إلا أن تمنحنا صورة عن ارتيابية المعرفة الجامعية، التي يزيد طينها بلة المستوى اللغوي التحريري الذي به تصاغ الأطروحات، لا لغة وأسلوبًا فقط وإنما أيضًا بطابعها المفكك، الذي يبين في كثير من الأحيان عن تقنية السرقة من مصادر الإنترنت. وبالرغم من أن الجامعات قد جهزت نفسها بتقنية الكشف عن السرقات من الإنترنت، لتحصن نفسها ضد الاستنساخ، إلا أن ذكاء كثيرين ينفلت من ذلك بإعادة الصياغة.
بيد أن هذا الطابع المأساوي الذي يطبع البحوث الجامعية لا ينفي، مع ذلك، لا من جانب التكوين، ولا من جانب المكوَّنين، استثناءات تنحو بهذا الانجراف نحو النمطية، والاجترار، وإعادة إنتاج المعطى. وهو ما يجعلنا نتساءل عن جوانب أخرى ليست بأقل مأساوية، تتعلق بتحويل الثقافة الأكاديمية إلى ثقافة عمومية من خلال دواليب الوساطة الجوائزية، التي جعلت عددًا من الأكاديميين يشتغلون قصدًا لحيازتها.


ثقافة العابر والعرضي

تتمثل إحدى ميزات الثقافة المعاصرة باللهاث وراء الجديد. فبعد القومية والماركسية، جاء وقت البنيوية التكوينية، ثم البنيوية، ثم ما تبعها من جندرية، ونسوانية، وما بعد الكولونيالية... إنها موجات توالت في أقل من نصف قرن من الزمان، ولا زالت تتحطم على صخرة واقع يعيش حداثة معطوبة، وعودة ملحاحة للمقدس الديني، ولأشكال عتيقة من الممارسات والتفكير.
أتذكر أن عددًا من النقاد العرب في أواخر الثمانينيات اتجهوا إلى السرديات، وتبنوا فيها مقولات بارت، وتودوروف، وجيرار جينيت، وإلى سيميائيات غريماس بعقلانيتها الصارمة، وأنتجوا في ذلك كتبًا كثيرة لم يمر عليها بعض السنين حتى رمتها الثقافة الجامعية والعامة في سلة المهملات. وكأنها كانت فقط سحابة صيف، إلا أنها حذفت من رصيد أصحابها سنوات كثيرة من الجهد والتأليف. وهو الأمر الذي سيقع لا محالة لما تبعها من التيارات.




بيد أننا لا نعدم التلاوين في هذا المضمار، التي تسعى إلى تأبيد هذه النظرية، أو تلك بتحويل اتجاهها وتهجينها. فالسيميائيات اللغوية أضحت سيميائيات بصرية وسياسية، والسرد تحول إلى الاهتمام بالذات والتخييل الذاتي... وما دامت الثقافة الفرنكفونية تستولد هذه التحولات وتمنحها جاذبية كبرى، فإن عددًا من النقاد الأدبيين يجدون مصدرًا لتصريف جاذبيتها في الجوائز الأدبية والنقدية التي تهتم بها هنا وهناك، وكأنها منذورة لهذا الضرب من الثقافة الذي ستُقلب صفحته قريبًا جدًا... وهذه المركزية التي تمنح للجوائز الأدبية والنقدية تفصح عن الجانب المظلم الذي تخاف منه تلك الجوائز: الفكر والعلوم الإنسانية بالأخص.
لا يعيش الزمن الثقافي الجامعي العربي الوتيرة نفسها التي تعيشها الثقافة خارج الجامعة. وإذا كانت الجامعات العربية تبتغي اختزال الثقافة في كينونتها، فذلك نظرًا لفقر الدم الثقافي الذي يحيط بها، والذي تنامى باستمرار، من جهة، ونظرًا للهجنة الكبرى التي تميز الثقافة العمومية، التي صارت اليوم تخضع لثقافة موازية تتمثل في المؤثرين، وفي ثقافة الفيديوهات، ومواقع اليوتوب، وغيرها... إن الإيقاع الذي تتطور به الثقافة الأكاديمية مقارنة مع إيقاع الثقافة العامة والموازية يخلق شرخًا واضحًا بين هذه المكونات الثلاثة، ويستدعي في الحقيقة من هذه الثقافة الأكاديمية نفسها أن تتخلى عن مركزيتها اللغوية لتستخدمها لدراسة التحولات السرية في الثقافة اليومية للناس، في المقاهي والبيوت، وفي العمل، كما في صالات النوم... إنها مطالبة أن تفتح عينيها (ومن ثم ترسانتها التحليلية والمفاهيمية) على عالم يلتهمها يومًا عن يوم، فيما هي مرتاحة في أرائكها الوثيرة تعيد إنتاج نفسها، وتزيد الشرخ عمقًا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.