لقد بدا جليًا أن قراءة الأعمال الأدبية لا تنهض تحت مظلة الموسوعية والتكامل بين النظريات والمناهج، لأنه يكمن في ذلك تعسف وفوضى وقصور، وإنما ينبغي التَّوجه نحو أفق نقدي ملتزم بضوابط بحثية وعلمية محددة ودقيقة. إن النقد الأدبي حين يتعيَّنُ بوصفه إبداعًا ثانيًا، فهو مرتهن باشتراطات قرائية لا بد من توفرها في ناقد الأدب ودارسه. من جهة أخرى، لا ينبغي أن يُفهم من هذا الكلام أننا ننتصر لنظرية نقدية ما على حساب نظرية أخرى، بل القصد هو توسيع المدارك وامتلاك أجهزة مفاهيمية تمكننا من قراءة الأشياء قراءةً ناقدةً، لكن، المعضلة الكبرى التي تحول دون انتشار النقد وسط شريحة كبيرة من القراء هي طابعه النخبوي، ولغته المغرقة في التعقيد، مما يفقده القدرة على التواصل، إننا لا نريد للنقد أن يتخلى عن لغته المعقدة، وتبني لغة قريبة من نبض المجتمع، أو توافق تفكير فئة عريضة من القراء، وإنما أن يتحلى ببعد تنويري تحريري، منشغل أكثر بقضايا الإنسان حتى لا نقول بقضايا المعرفة، فـ"بعض النقاد يظنون أن التوجه إلى شريحة أوسع من القراء وتبسيط المعرفة النقدية، لتبصير القراء ببعض مشاغل النقد في علاقته مع النصوص، يهدد الطابع التخصصي للنقد، ويقلل من شأنه كحقل معرفي له مرجعياته المحددة، ولغته الاصطلاحية الخاصة به"[2].
إن الإشكال، ها هنا، يتحدد في كيفيات تبئير العمل الأدبي، إذ غالبًا ما نسقط في مفارقات صارخة حين نحاول الانتقال من النظرية إلى التطبيق، بمعنى آخر، هنالك بون شاسع بين امتلاك النظرية، وتمثل جهازها المفاهيمي، وبين تطبيق تلك المفاهيم على الإنتاج الأدبي، إننا إزاء إشكالية كبرى، ما زال النقد العربي لم يستطع إيجاد حلول لها، رغم تواتر الدراسات النقدية منذ ترجمة الناقد محمد منذور لكتاب "منهج البحث في اللغة والأدب" لكل من لانسون وماييه سنة 1942 إلى اليوم، ما نزال عاجزين عن تمثل نظرية ما تمثلًا حقيقيًا وواعيًا بكل اشتراطاتها، وعديدة هي الأعمال النقدية، سواء في مشرق الأرض، أو في مغربها، التي تبرز مثل هذه المفارقات، وتظل دائمًا مسكونة بحس التدقيق المنهجي الصارم، بحيث تستشعر غُلُوًّا في المفاهيم، وسطوة المصطلحات، وتصير النصوص مع هذا التجريب المغرق مواتًا، أو كتلًا من الإسمنت، تُنزع منها تلك الروح الخلاقة المفترض وجودها وتواجدها في الأعمال الأدبية والنقدية، أو نفتح الباب على مصراعيه لكل النظريات والمناهج، نخلط بعضها مع بعض، وتكون المحصلة فوضى في القراءة تنتج عنها مآزق إبستيمية كبيرة.
"إن العلاقة بين النظريات الأدبية المختلفة لا تقتصر على ارتباط كل نظرية بنموذج علمي تستمد منه مقولاتها ومصطلحاتها. وإنما يصبح لكل نظرية ـ أيضًا ـ تجليات منهجية عديدة يجمعها أساس معرفي واحد، ويشترط فيها ألا تكون متناقضة، بمعنى أن النظرية الأدبية الواحدة تسفر عن طرائق متعددة ومناهج متعددة في التطبيق، وهذه المناهج لها مصطلحاتها، ويمكن أن تتبادل الاصطلاح، هذا التبادل يضمن لها قدرًا من الحيوية والمرونة في المصطلح النقدي، ولكن هذا التبادل محكوم بالاتساق المعرفي بين العناصر التي يتم تبادلها، وهذه نقطة جوهرية كثيرًا ما نغفل عنها في دراستنا النقدية في عالمنا العربي[3]، وهو التَّصور نفسه الذي أومأنا إليه سالفًا، وهو أمر التكامل بين النظريات الأدبية، لكونها تنبني على الاختلاف في الأسس الإبستيمولوجية، مما يضع النص المنقود والناقد معًا في حرج وتناقض شديدين، بالإضافة إلى أن معظم نظريات الأدب هي نظريات مجتلبة من حقول علمية أخرى، ومحاولات تكييفها مع نصوص مُتَخَيَّلَة، وهنا، تحديدًا، تكمن الإشكالية وتتعاظم، لتفرز في النهاية، نظريات منزوعة من سياقاتها، وتصبح النصوص عرضة للتشويه والتشويش، وعليه، فإننا في حاجة إلى الاستمرارية ـ رغم كل ما يُقال ـ، وفي حاجة أيضًا إلى التنوع في الرؤى والتّصورات، إذ هنالك "من النقاد من يشتغل بالسرديات، والسيميائيات، وسوسيولوجيا الأدب، والسوسيو نقديات والأنثربولوجيا، فإن ما يفرض نفسه بإلحاح هو تأسيس خطاب نقدي يحاول الجمع بين كل النتائج التي توصلت إليها هذه المناهج، لأنه يمكن للناقد الذي يوظف السرديات أن يصل إلى أجوبة، كما يمكن للناقد الذي يشتغل بالسيميائيات أن يضيف أجوبة أخرى... والذي يبقى هو محاولة الدعوة إلى نقد يتبنى النتائج الكبرى... لأن ما ربحه النقد الروائي المعاصر هو الانفلات من إسار ما كانت تدعو إليه البويطيقا من انغلاقية في التصور والمعالجة"[4].
هوامش:
(1) رشيد بنحدو، ضمن كتاب: جمالية التلقي، هانس روبيرت ياوس، منشورات الاختلاف ـ كلمة ـ منشورات ضفاف ـ دار الأمان، ط 1، 2016، ص 10.
(2) فخري صالح، النقد والمجتمع ـ حوارات، دار كنعان للدراسات والنشر، ط 1، 2004، ص 5 ـ 6.
(3) صلاح فضل، مناهج النقد المعاصر، أفريقيا الشرق، ط 2، 2013، ص 107.
(4) بشير القمري، ندوة الأدب: الرواية العربية: إشكالات التخلق ورهانات التحول، أعدّ الندوة عبد الحق لبيض، مجلة الآداب، العدد 7 ـ 8، يوليو ـ أغسطس، 1997، ص 69. [نقلا عن سرديات الأمة: ص 25].