}

أسئلة طه حسين الحاضرة اليوم

راسم المدهون 2 أبريل 2023

اسم طه حسين يرتبط في ذاكرة الكثير من المثقفين العرب على اختلافهم بمعانٍ ومؤشرات بالغة الأهمية، إن لم تكن الأكثر أهمية وحضورًا بين من سبقوه ومن جايلوه... فهو أولًا صاحب الإرادة الاستثنائية التي مكنته من الانتصار على فقدان نعمة البصر ومواجهة "ظلام الكون" بالتدرب الصبور والجسور على التعايش مع ذلك الظلام لا بالاستسلام له ولكن بالانتصار عليه. ذلك الطفل الذي حدثنا عنه في كتابه الشهير والبديع "الأيام" قادته عزيمته إلى الرغبة في التعلم وتحصيل معارف متنوعة ومتنامية عكست في بعض حالاتها تناقضات كبرى أو إذا شئنا الدقة جاءت من نبعين متباعدين في موقعيهما كما في مضمونهما: طه حسين الفتى الضرير الذي ولد في صعيد مصر هو بحكم تلك الولادة كما بحكم فقده للبصر أقرب بالعادة وبالضرورة إلى التعليم التقليدي، لكنه كشف بعد ذلك عن نهم جارف لاستشراف المجهول بل المجهول البعيد وسيذكر لنا معلموه وأساتذته الفرنسيون لاحقًا أنه كان أبرز الطلاب الأجانب الذين تمكنوا من إتقان اللغة الفرنسية في زمن قياسي لم يسبقه إليه أحد.

هو أيضًا قاهر الظلام الذي امتلك منذ بداياته الأولى ذهنية "ديكارتية" راحت تتأمل في الموروث وتستعيد تفاصيله وجزئياته بل ومعانيه المستترة، ما عكس ذهنية "بحثية" قادته بعد ذلك إلى اقتحام المجهول والمستتر في التراث الذي كان يشكل نوعًا من تابو يستسلم له الجميع ويفضلون عدم الاعتراض عليه. هو صاحب معركة "الشعر الجاهلي" الكبرى والصاخبة في مراحل مبكرة من تاريخنا الأدبي وهي – بغض النظر عن تفاصيلها ومآلاتها – أضاءت أمام الجميع حقيقة أن "العصر الجاهلي" لم تكن تسميته تطابق حقيقته، إذ هو عصر الشعر العظيم الذي انتظم فكر العرب وقاد مخيلاتهم لاستلهام الرؤى المغايرة، العظيمة والخالدة في الوقت ذاته، ومن المفارقات اللافتة هنا تلك المرافعة الأدبية الرفيعة لغة وأسلوبًا التي قدمها وكيل النائب العام محمد نور حول الاتهامات التي كيلت لطه حسين والتي لا تزال إلى اليوم نصًا أدبيًا مرموقًا ينظر إليه بكثير من الإعجاب والإحترام.

هو رجل الأسئلة بامتياز، وهو انطلاقًا من ذلك قال كلمة الشك كي تقوده نحو تخوم شك أكبر دفعه لقراءة الموروث بعقلية مختلفة تنوعت معها إنجازاته الأدبية من "اليوميات" كما في "الأيام" إلى "على هامش السيرة" وأيضًا إلى الكتابة البحثية التي لا تستكين للشائع والمسلم به بل ترفع "البحث" إلى مقام إبداعي أعلى كما في كتابه البديع "على هامش السيرة" بدون أن يستثني الرواية من دائرة اهتمامه فحقق فيها ومن خلالها ابداعات مرموقة.

لم تخل حياة طه حسين من الصدمات الكبرى خصوصًا الاتهامات التي تعرض لها بعد صدور كتابه الصاخب "في الشعر الجاهلي" وهي معركة نعتقد أنها كانت مثمرة وفي الوقت ذاته حرّكت سكونية الثقافة العربية واستفادت من مرحلة التنوير الكبرى

تلك البصيرة النافذة التي امتلكها "عميد الأدب العربي" جعلت الراحل طه حسين طيلة حياته "يلوذ" بالعلم وبالذات بالتعليم وسيذكر له التاريخ دائمًا أنه "وزير المعارف" الذي تجرّأ على قرار مجانية التعليم حين أصبح وزيرًا للمعارف في حكومة حزب الوفد عام 1951 فأدخل "محراث المعرفة" في النجوع والكفور والقرى والبلدات النائية والصغيرة على نحو لم يتحقق من قبل، رفد البلاد والعباد بروح مغايرة وساهم إلى حد كبير في تحقيق درجة كبرى من التغيير في بلاد كان كل ما فيها رتيبًا وتقليديًا بل هو بالمعنى الأدق بدائيًا ينتمي للقرون الوسطى.

نافذة طه حسين أطلت بعد ذلك على الثقافة الأوروبية وبالذات الثقافة الفرنسية. وبين كل من ذهبوا لأوروبا لأجل الدراسة منذ محمد علي باشا ينفرد طه حسين بفعاليته الاستثنائية إذ هو نجح إلى حد بعيد في "عصرنة" الثقافة المصرية ومعها عصرنة الثقافة العربية على نحو غير مسبوق جعل تلك الثقافة تقترب بصورة فاعلة من كل الأجناس الأدبية التي لم يعرفها العرب من قبل، وهي مسألة ما لبثت أن توسعت في مراكز الدراسة والبحث وخصوصًا في الجامعات العربية ونجحت في زج الثقافة العربية في معارك وميادين مثمرة وبالغة الحيوية شكلت حضورًا وتفاعلًا كان غائبًا ومفقودًا. نذكر ذلك ونشير بالذات إلى العلاقات التي ربطته بكبار الأدباء في العالم وبالذات أدباء فرنسا وأيضًا تشجيعه على تنمية حركة الترجمة إلى العربية من تلك اللغات الحية وصاحبة الحضور الغني للأدب والتي كانت الثقافة العربية بأمس الحاجة للتفاعل معها والإفادة منها.

مع ذلك لم تخل حياة طه حسين من الصدمات الكبرى خصوصًا الاتهامات التي تعرض لها بعد صدور كتابه الصاخب "في الشعر الجاهلي"، وهي معركة نعتقد أنها كانت مثمرة وفي الوقت ذاته حرّكت سكونية الثقافة العربية واستفادت من مرحلة التنوير الكبرى التي عاشتها المنطقة العربية في العقود الأولى من القرن العشرين، ونعني المرحلة الليبرالية بانفتاحها الواسع على الثقافة والمعرفة وتشجيع الاختلاف دون الوقوع في توترات ضارة وسلبية، وهو بهذا المعنى رائد الحداثة بامتياز إذ هو من ألقى حجر الأسئلة في بئر السكون والرتابة ودفع الجميع بعده إلى مقاربة "الشك" بروح مختلفة لعل أهم ما فيها التحريض على استشراف الغامض والمسكوت عنه أي على استكشاف ما تحمله الثقافة ذاتها - حتى في أكثر حالاتها تقليدية – من معان وما تشير أو يمكنها أن تشير إليه من ضفاف.

طه حسين تجربة أدبية وثقافية كبرى بالمعنيين اللذين يشيران لإبداعه ومنجزه الشخصي أولًا، وأيضًا الذي يشير إلى ما حققته مغامرته الثقافية من اكتشاف لعوالم مجهولة لم تلبث أن تفاعلت مع ثقافتنا ودفعتها لمزيد من الحداثة والتغير وارتياد آفاق المعرفة في صورة دائمة وبأشكال حيوية ما لبثت أن حققت للثقافة العربية حضورًا أبهى نلمسه اليوم ونراه في تطور الرواية والمسرح وكذلك في الشعر الذي كان "ديوان العرب" فأصبح يعيش عصره في صورة حقيقية...
وربما يتساءل بعض من أبناء الثقافة العربية اليوم: هل نحتاج للعودة لطه حسين في هذه الأيام، وأعني في عصر الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي؟ سؤال نعتقد أنه مشروع ونعرف أن إجابته تظل حاضرة في الرغبة التي لا تنطفئ في المعرفة، بل في مزيد لا يتوقف من المعرفة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.