}

السرد الفائض في ظروفه السياسية العربية

وارد بدر السالم وارد بدر السالم 6 أبريل 2023
آراء السرد الفائض في ظروفه السياسية العربية
الناقد نجم عبدالله كاظم
أشرنا في مناسبات ثقافية مختلفة إلى نهضة روائية عراقية غير مسبوقة بعد 2003، وهو عام الاحتلال الأميركي للعراق، بما يشبه التنويه بالكم المتراكم الذي أعقب التحولات السياسية، كظاهرة أدبية اكتسحت المشهد الثقافي، ونبّهت إلى وجودها بأكثر من طريقة. وقد يبدو الانعتاق السردي سياسيًا في باطنه وظاهره، وردة فعل سريعة لم تحسب للنظام الفني حسابًا، فجاءت كثير من مستوياتها متعثرة، متشابهة إلى حد كبير. وتكررت موضوعاتها ومضامينها وأشكالها، حتى يمكن القول إن المجموع السردي كأنه رواية واحدة تشتّتت وتوزعت بين الأسماء الكثيرة.
ومن الطبيعي أن لا يكون هذا تعميمًا، حتى لا نبخس جهود الآخرين، من الذين قدّموا أعمالًا سردية يمكن لها أن تشكل إضافة نوعية نسبية في المشهد الروائي العراقي. وهؤلاء أغلبهم من جيل سبق 2003، أي أنه جيل ذو دربة فنية وخبرة متراكمة في كيفية النظر إلى الموضوعة الفنية، ورصد زوايا الاختيار المناسبة. أما جيل ما بعد الاحتلال فهو المعني كثيرًا بهذه الملاحظات وغيرها. وهو الذي يتحمل مسؤوليته التاريخية في هذا الإنتاج الضخم في كمياته التي طرحتها المطابع عبر السنوات التي مرت، ابتداءً من 2003 حتى 2023. وهذا التحديد الزمني هو الواقع الثقافي الذي أعقب الاحتلال الأميركي للعراق، وما أفرزه من نتائج ثقافية، قد تكون الرواية أحد الأجناس الأدبية التي مثّلته، على حساب الشعر والقصة القصيرة والسينما والمسرح. وقد لا تكون هذه أفضلية للسرد العراقي، لكنها واقع حال، يتضمن حقائق ثقافية ما بعد الاحتلال، ولهذا نقف في الخطوط البيانية لهذا الجنس الأدبي الذي تصاعد في السنوات الأخيرة عالميًا وعربيًا، وتعددت منافذه "التسويقية"، وليس أقلها الجوائز الروائية العربية التي أسهمت وأفرزت بعضًا من الأسماء؛ على قلتها؛ جديرة بالقراءة والرصد النقدي.
لا يمكن لأي راصد ومتابع أن يغلق باب الاجتهاد السردي لأي سبب، من دون أن يقيم الدليل الفني على ذلك. ولعل مثل هذا الآراء التي تقال عادةً لا تشكل أمام الجيل الجديد صدمةً اعتبارية، بقدر ما تشكله من صدمة فنية، وهو أمر يقيني لا غضاضة من أن نعيده في كل مناسبة. سواء أشاطَرَنا أم لا يشاطرنا الآخرون به، فهو حقيقة موضوعية وفنية ترددتْ في أكثر من محفل أدبي ومنبر ثقافي.
ومن الطبيعي أن تلفت أنظار القارئ الذي انحاز إلى الرواية من دون غيرها من الأجناس الأدبية، لطبيعة الكثافة التي انطلقت من دون ممهدات ثقافية وأدبية، ولا جماعات منظّرة لها تواكب نهضتها المفاجئة، أو نقد يوازي كثرتها الواضحة، ولا حوافز من شأنها أن تثوّر الرواية وتجعلها في المقام الأول بين الأجناس الأدبية الأخرى، سوى المحفّز السياسي الذي أخرج الحالة الثقافية كلها من حبسٍ طويل إلى فضاءات أكثر تحررًا، بلا رقابة فكرية. على أن هذا التحرر النفسي والاعتباري عليه أن يكون ساندًا وجدارًا قويًا لانطلاق المشروع الأدبي بشكله العام، وأن لا يكون هو (المانع) النفسي من التواصل الفني بين الأجيال الأدبية. وبالتالي صارت تلك الكثافة السردية عائمة ورقيًا، وفي كثير منها فائضة عن الحاجات الأساسية الأدبية في معناها النقدي والتقويمي.
انطلاق الرواية بعد 2003 في الأغلب الأعم يقال بأنه ظاهرة صحية. ونحن مع هذا الرأي تمامًا، إلا أن المحددات الفنية والموضوعية لها وجهة نظر أخرى، غير النوايا الحسنة في الكتابة. فإنتاج 2000 رواية خلال سبع سنوات (2003 ـ 2010) إشكالية كمية تحتاج إلى تبصّر وتدقيق ومراجعة ومواكبة نقدية حقيقية. والأسماء الجديدة التي تصر على تدوير الرواية بموضوعات متشابهة وأشكال كلاسيكية، قضية تحتاج هي أيضًا إلى سعة صدر وعقل نقدي مفتوح على مجريات الكتابة الروائية عالميًا وعربيًا. وردة الفعل العراقية في هذا الكم الكبير لا تُحسب على أساس أنها انعتاق من كابوس الديكتاتورية السياسية، بل تخضع إلى الميزان الفني في نهاية الأمر، بغض النظر عن الأسباب المحاذية لها، أو المثوّرة لحاسّة الكتابة فيها. مع أن ذلك الكابوس كان حقيقيًا. والسياسة الفردية القديمة كانت أحد أسباب التخلف الثقافي كله.



عادةً ما نستشهد بما لاحَقه وتابعه وكتب عنه الراحل الناقد د. نجم عبد الله كاظم(*)، الذي أشار في دراساته الكثيرة وأرشفته إلى صدور مثل ذلك الكم السردي المتتالي، الذي شغل مطابع الريزو السورية واللبنانية والمصرية والعراقية. وأشرنا في أكثر من مناسبة إلى أن هذا الكم الكبير لم يكن يصاحبه نقد يبوّب سماته الفنية، وهل هو ظاهرة سريعة حدثت كردة فعل على التغيير السياسي، أم هي ظاهرة ابتدائية طبيعية تؤسس لسرديات ما بعد 2003، وهل أن هذه السرديات ستستحدث معها نقادها ومتابعيها، وهل ستتمخض عنها صورة فنية ونقدية يمكن لها أن تصمد مع الزمن الروائي العراقي؟  كل هذه الأسئلة والملاحظات المتكررة قالها كثيرون غيرنا بإشارة إلى (موت) النقد الأدبي المصاحِب، بعد غياب أسماء نقدية معتمدة ورصينة، بسبب الوفاة، أو العمر، أو الهجرة، أو الانكفاء الذاتي، تسببت به تحولات البلاد السياسية، وما رافقها من عنف معنوي وجسدي.
الكم السردي العراقي يذكّرنا بالإنتاج الروائي السعودي في تسعينيات القرن الماضي، عندما احتشدت أسماء جديدة من الكاتبات والكتاب الجدد، بإصدارات روائية متلاحقة، غمرت دور النشر اللبنانية، حتى امتلأت الساحة السردية بموضوعات، بعضها غريب، والآخر جريء، بما يعكس الكثير من الصراع الاجتماعي، طائفيًا وسياسيًا، حتى قيل وقتها إن الأسماء المستعارة التي قدمت نفسها روائيًا، وراءها أسماء (متوارية) كانت تخشى ما تخشاه من السلطة، لذلك قدمت نفسها بأسماء (مغشوشة) تفاديًا لما يمكن له أن يحدث من إساءات، تتخذ من الجانب الديني والتوجيهي ذريعة لها في محاسبة هؤلاء. ولكن بعد مرور ثلاثة عقود تقريبًا انطفأت تلك الفورة السردية الحماسية، ولم نعد نقرأ لتلك الأسماء التي توارت وخفّ بريق شهرتها السريعة، سوى من الأسماء المعروفة التي تواصلت وما تزال في تقديم رؤية سردية فنية ناجحة (عبده خال ـ رجاء الصانع ـ محمد حسين على سبيل المثال).



تلك الفترة التسعينية السعودية أفصحت عن مشاكل اجتماعية وطائفية وطبقية كثيرة، بدلالة الإنتاج الروائي الذي حاول أن يكشف الكثير من المستور الاجتماعي، ونبّهت إلى وجود ثغرات كبيرة في النظام السياسي الذي كان "مسروقًا" من قبل جماعات سلفية متطرفة، وهو ما يغري الساردين على خوض التجربة الروائية، لكن بطريقة أشبه ما تكون بالسرية: التخفي بأسماء مستعارة؛ الابتعاد عن الشهرة؛ اعتبار أن ما يُكتب سرًا وبأسماء غير حقيقية هو واجب وطني وأخلاقي.
الحالة العراقية اختلفت عن الحالة السعودية في تلك الفترة الشائكة، لكنها انعتقت بعد 2003، وما بين الحبس والانعتاق كانت السرديات العراقية مؤجلة، فلا منافذ واضحة بسبب الحصار الأميركي والغربي على العراق. ولا دور نشر "خارجية" يمكنها استيعاب ما يمكن استيعابه من الكتابات العراقية، وما تسرّب منها قليل ولا يُذكر. ولذلك سنكون أمام حالتين سابقتين: ما كتبته الأقلام السعودية في التسعينيات الماضية سرًا واستعارةَ أسماء، وما كتبته الأقلام العراقية بعد الاحتلال الأميركي. فالأولى اختفت وتوارت، كأنها أذعنت لواقع الحال آنذاك. والثانية حاولت أن " تطفر" بعيدًا عن مسلّمات أدبية وفنية، لتفضح فكرة الديكتاتورية وإنتاجها المشوّه. لكن الحالتين وقعتا في مزالق بعينها، وهي فنية على الأرجح.




الفن هو القياس المتفق عليه في منظور النقد. ولا يمكن أن توضع "النيّة" الحسنة والطيبة في التقييم التاريخي. ولهذا نستند في معاينة الساحة السردية العراقية إلى مقدار الفن بما أنتج من أعمال روائية كمية، فاقت الرقم المذكور حتى عام 2010 مثلما نظرنا إلى الإنتاج الكمي الروائي السعودي في تلك الفترة من النظرة ذاتها (50 رواية في عام واحد كما ذُكر).
الفن هو الحكم والحاكم، وهو ما يتيح للمساحة النقدية أن تأخذ دورها في البيان التصاعدي من عدمه، مهما كانت الظروف السياسية والمشكلات السلفية والطائفية التي تعاني منها هذه البلاد، أو تلك.
من كل هذا يتوجب الاستنتاج بأنّ ثمة سردًا فائضًا، يحاذي الظروف السياسية ومتغيراتها المتوقعة، أو المفاجئة، ويبقى في حالته هذه كأرشيف وطني تمر عليه أطروحات الماجستير والدكتوراة، مثلما يمر عليه باحثو الأرشفة لتوثيق الأحقاب الجيلية التي مرّت من هنا، في ظروفها السياسية المختلفة.

هامش:
(*) 
د. نجم عبد الله كاظم (1951 ـ  31 تموز/ يوليو 2020): ناقد وأكاديمي عراقي. إليه يرجع الفضل في أرشفة الرواية العراقية ومتابعتها. من مؤلفاته: "الآخر في الشعر العربي الحديث" و"أيقونات الوهم... الناقد العربي وإشكاليات النقد الحديث"، و"الرواية العربية والآخر"، و"الرواية في العراق وتأثير الرواية الأميركية فيها"، و"مشكلة الحوار في الرواية العربية"، و"نحن والآخر في الرواية العربية المعاصرة"، و"جماليات الرواية العراقية"، و"فهرست الرواية العراقية (1919 ـ 2014)".

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.