}

الحكاية والصورة مرة أخرى: في مساءلة مصائرنا البصرية

فريد الزاهي 15 مايو 2023
آراء الحكاية والصورة مرة أخرى: في مساءلة مصائرنا البصرية
(Getty)

سألني يومًا أحد الصحافيين عن أهم الكتب التي تلازمني، فحرْتُ جوابًا. قلت له إنك لو سألتني من أكثر من عشرين عامًا لأجبتك بوضوح، ومن دون تردد، أو تلعثم. أما اليوم، فإن النسيان يطوي الكتب المتعاقبة على ذاكرتي، إلا تلك التي رافقت صباي الفكري والثقافي، وكان اكتشافها مرفقًا بالدهشة والحب والسهر ليلًا حتى الانتهاء منها. كانت مكتبتي هي مأواي، حتى كأني كنت أعتبرها معبدي. مع الوقت، ونظرًا لانتقالي من الكتابة على الورق في وقت مبكر، إلى الكتابة على الحاسوب، ثم الحاسوب المحمول، قلّ تعاملي مع الورقة والقلم، وغدت الصفحة المنيرة للحاسوب ملاذي اليومي، حتى قلّ نظري الثاقب بضع سنوات من ذلك، واضطررت إلى وضع نظارات طبية. كانت ترجمتي لكتاب حياة الصورة وموتها في نهاية التسعينيات آخر علاقة لي بالاشتغال على الورقة...
استطعت في مطلع الألفية الجديدة أن أحصل على منحة للبحث خصصت جزءًا منها لاقتناء حاسوب محمول، ظل يلازمني لسنوات، في حلّي وترحالي، أكتب فيه، في الطائرة، والمقهى، وفي الفندق، والبيت. كان ذلك عبارة عن تحول جذري في علاقتي بالكتابة، ومتعة جديدة التهمتها بحواسي كافة. ومع تطور الإنترنت، أضحى ذلك الحاسوب ذاكرتي المحمولة التي أسر لها بمشاريعي كافة، وأودع فيها أسراري، وأركن فيها كافة أحلامي وذكرياتي المكتوبة منها والمصوَّرة. وما دمت شخصًا لا يتشبث بمعتقدات القراءة والكتابة الورقية، فقد جعلت منه منصة للقراءة، بعد اقتناء آلة تصوير رقمية، كنت أصور بها ما أرغب في قراءته، أو ترجمته بالأخص، ليصاحبني في ترحالي خفيفًا كنسيم الفجر.

من الحكاية إلى الصورة

(Getty)


العلاقة بالصورة، ثم بالشاشة، هي حكاية قبل أن تكون موقفًا، أو تحليلًا، أو مفهمة، أو تنظيرًا. نحن لا نتذكر الكلمات مهما كان تأثرنا فيها، غير أننا نتذكر الصور التي أثثت طفولتنا. بل لا نتذكر إلا الكلمات النابية الصادمة، ومعها ما حفظناه عن ظهر قلب من سور القرآن في الكتاب، تحت تهديد قضيب الفقيه ذي اللحية البيضاء، وجيوش الذباب التي تحوم حولنا. حين جاءني أبي بكتاب تلاوة مصور، وأنا لم أرتد بعد المدرسة، إعدادًا لي لهذا الحدث، من فرط فرحي به هرعت لأطلع عمتي عليه. كانت الصورة التي توقفت عندها صارخة باكية، هي رسم ملون لحصان يركل صبيًا. رمت الكتاب من يديها، ولطمت خدّيها صارخة ومولولةً: سيقتله الحصان. كانت الصور مقنعة حتى الهلع. وكانت المدينة القديمة بفاس تشرع صور عبد الناصر، ومحمد الخامس، وكوكب الشرق أم كلثوم، والعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ... نمر أمامها يوميًا ونلتهمها بناظرينا، أما صور السينما الهندية، وأفلام جيمس بوند، والكاوبوي، فكانت تجعلنا نحلم بمشاهدتها، ونجمع طيلة الأسبوع سنتًا سنتًا ثمن التذكرة، ومعها عشر سنتيمات لمراقب القاعة النحيف الأصلع (الذي نسميه الشويطيني، أي الشيطان الصغير)، وإلا صفعنا وأجلسنا على الأرض عقابًا، تمامًا قبالة الشاشة... حتى لتكاد هذه الأخيرة تلتهمنا.
الصورة أخاذة، فاتنة، وتنطبع في الذاكرة بسرعة. كانت الصورة تؤثث عالمنا الخارجي، في السينما والشارع، رغم أن المدينة القديمة تمتلئ كلامًا وضجيجًا، وتحتل فيها الأذن واللسان حصة الأسد. أما الكتاب فكان للداخل، وقصصه تملأ مخيلتنا بالشخصيات والأحداث، وملاحمه من قبيل الأزلية والعنترية والهلالية...، تأخذنا إلى عالم يبدو لنا مليئًا بالأساطير والأبطال والغيلان. وكنا نجمع بقايا الأفلام التي يقطعها عارض الأفلام في قاعة السينما، ونصنع سينمانا وأفلامنا الخاصة بدهشة عارمة في ظلمة زقاق الحي بواسطة مصباح يدوي. ندرة الصورة ووفرة الكلام كانت تمنح للصور فتنة لا تضاهيها إلا فتنة لعب كرة القدم...




علاقتي بشاشة الحاسوب، إذًا، لم تكن بالصدفة. جئتها من شاشة السينما بالأخص. لم تكن حينها علاقتي بالفنون التشكيلية والبصرية إلا من باب الهواية والمتابعة، فهو كان مجالًا فرديًا يبدو فيه الفنان متضخم الأنا، ويبدو كأنه يبدع من فراغ، فيما كان مناخ السينما جماعيًا ومثقلًا بالعواطف، مثله مثل المسرح، الذي استهواني بضع سنوات. أحسستني منذورًا للمرئي بالرغم من دراساتي الفلسفية وشغفي بهايدغر والخطيبي وبارت ودريدا...
كان الحاسوب يبدو لي شاشة خاصة بي لا يتحكم فيها أحد. وما دام حاسوب ذلك الوقت يتقبل كافة الأقراص المدمجة، فقد مكنني من اقتناء مكتبة سينمائية كاملة لا زالت تركن في مكان ما من أرشيفي. كنت أرتاد حانوت شخص في المدينة القديمة يوفر لي كل ما أبتغيه من أفلام، أتمتع بها في وحدة مختلفة عن المتعة التي يتحدث عنها بارت في الغرفة المعتمة، والتي عشناها منذ طفولتنا. كما عشناها في الأندية السينمائية لمدة طويلة في شبابنا... من الطقس الجماعي للحكاية التي كنا نتشربها من فم الحكواتي، إلى الطقس الفردي للحكاية في الكتاب؛ ومن الطقس الجماعي للصورة في السينما، إلى طقسها الفردي في البيت، على هوى الرغبة الذاتية... صرنا نحس أن الصورة وهي تدخل بيوتنا في التلفزيون، ثم في الحاسوب، أننا انتقلنا من الفرجة الجماعية إلى الفرجة الفردية...
الحاسوب الشخصي ملائم جدًا للكاتب والمفكر، ومن يتفادى الجموع والصخب. إنها الوحدة التي تجعلك سيد لحظتك، والتي تجعلك تتحكم في الشريط، كما في النص، وتستعيد ما فاتك... هذه الحرية ملائمة أيضا للزمن الجديد الذي بدأنا نعيشه بشكل جديد مغاير، ولهويتنا الفردية التي كنا نفتقدها في الصغر، حين كنا نعيش عائليًا متكدسين تسعتنا في شقة صغيرة لا حميمية فيها للبنات والبنين...

من عيش الصورة إلى معرفتها
حين لا نعيش عصرنا بمتناقضاته ومفارقاته كافة، ولا نستكنهه في سرعة تطوره، ونعيش الماضي بحنين يحجب عنا المتابعة الحثيثة لما يجرفنا من تطورات، يعسر علينا التفكير في مصائرنا الشخصية والجماعية والظواهر التي تتحكم فيها، والتطورات التي تعتمل فيها بإيقاع لا ينضب سيلانه. السيولة والغازية التي كان ريجيس دوبريه أول من تحدث عنها في بداية التسعينيات بخصوص عصر البصري، قد لا تحتاج إلى جماليات، وإنما إلى منظورات جديدة للإمساك بفورتها. نحن جيل الصورة المرسومة والتلفزيون والسينما. ومن الصعب علينا، إذا لم نفتح عيوننا وأذهاننا على الجديد والمستجد الذي تأتي به التكنولوجيات الجديدة، أن نفكرها ونتفكر فيها من غير الانجراف معها، أو رفضها بالنقد والاستهجان. هذه المسافة المعرفية الضرورية لا يمكن لها أن تتم من غير الانغماس في عوالم الصورة والتشبع بها ومعرفتها من الداخل، قبل ممارسة النقد عليها.
كما لا يمكننا الحديث عن الكتاب من غير معرفته، ولو عبر ترجمة، كذلك لا يمكن بناء معرفة بالصور من غير ارتيادها. وفرة الصور وتجددها وطابعها السائل يجعل أحيانا من الصعوبة تتبع مجالاتها. لقد غدا استعمال الصور والفيديوهات وصناعة القنوات أمرًا متاحًا للجميع، يتجاور فيه تصوير الغريب والعجيب، ومسرحة الحياة، مع البيع والشراء والنصائح الطبية، والتقاط الأحداث الاجتماعية، والتعليق السياسي، واستعراض الذات والأجساد والمؤخرات والعضلات... وحكايات الزواج والطلاق والخيانة والعجز الجنسي، والبرامج الثقافية... هذا الصبيب اليومي المتجدد يجعل امتلاك المرء لمعرفة عينية بالصورة أمرًا شبه مستحيل، لأنه مطالب بتصنيفها ومتابعتها من غير أن يغيب نظره عن شبكيتها...
في الماضي، كان المثقفون والباحثون يتحدثون عن السينما، أو التلفزيون، أو الفنون التشكيلية، وكان لكل مجال فرسانه ومتخصصوه ومنظروه. واليوم أضحى الأمر مغايرًا. فالسينما والتلفزيون والفنون البصرية اندمجت في عصر التكنولوجيات الجديدة، وتجاورت وتداخلت بحيث أضحى من الصعب على نقاد السينما، أو التلفزيون، أو التشكيل، خاصة إذا كانوا يمتلكون تكوينًا فلسفيًا وجماليًا، أن يتفادوا الحديث عن الصورة بصفة عامة، لممارسة التفكير في الصورة، من ناحية، ومحاولة إنتاج معرفة بها...
لكن هل هنالك فعلًا فكر للصورة، وهل يمكن إنتاج معرفة بها؟
كما لا يمكن إنتاج معرفة بالكتاب، وإنما بالكتب بعد قراءتها، كذلك يصعب التنظير للصورة وبلورة معرفة بها من غير أن تكون هذه المعرفة تاريخية وتأخذ بعين الاعتبار الصور في تعددها وحركيتها وتشابكها واختلافاتها. لقد دخلنا عصر الصورة منذ أواسط القرن التاسع عشر، وعرفنا السينما منذ بدايات القرن العشرين، وعرفنا الملصقات الإعلانية والإشهارية، منذ ذلك الوقت، ودخل التلفزيون بيوتنا منذ أواخر الخمسينيات، وباقي التطورات التكنولوجية في مجال إنتاج الصور وبثها ونشرها وتداولها، عرفناها في الوقت نفسه تقريبا الذي عرفها فيه الغرب المنتج لها... لكن هل فكرنا في الصور التي نستهلك يوميًا؟ هل قرأنا تاريخ تحولات بصرنا أمام الصور؟ هل أنتجنا معرفة بما ننتج نحن من صور؟




يبدو أن علينا أن نبدأ من هنا، عوض أن نلخص ونجمع ونركب ما يقوله الغربيون عن الصورة وتاريخها في الغرب وجمالياتها الغربية، مع أهمية هذه المعرفة التي رأى فيها ترجمة أكثر منها إنتاج فكر للصورة. فأنا لي اليقين أن طرائق تعاملنا مع الصورة، سابقًا وحاليًا في عصر العولمة (بالرغم من الكونية الساحقة للصورة)، وطرائق إنتاجنا للصور واستهلاكنا لها تحتاج إلى منظور أنثروبولوجي ينضاف إلى المنظورات الأخرى، يضعها في سياق أعم يسائل هذه الشبكات الجديدة والطقوس الناجمة عنها، ونوعية التواصل المنتج. إن الطقوسيات الجديدة لإنتاج الصور وتلقيها في أوساطنا العربية، الشعبية منها والمثقفة، تدعونا إلى بناء نظرات جديدة قمينة بالمتابعة والتحليل والتأويل والتركيب، تنبني على معطيات عينية، أي على الوقائع البصرية، وعلى الوصف والمعاينة والحكاية... حكايتنا وحكاية الآخرين...

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.