}

أفول الذاكرة الشفهية وولادة الذاكرة البصرية

فريد الزاهي 5 يونيو 2023
آراء أفول الذاكرة الشفهية وولادة الذاكرة البصرية
(الجيلالي الغرباوي)

كنت يافعًا حين حضرت في أواخر السبعينيات لقاء لاتحاد كتاب المغرب بمدينة فاس كان مخصوصًا لقراءات قصصية، في ذلك الوقت الذي كانت فيه الرواية لا تزال نادرة في الأدب المغربي. قرأ أحمد المديني قصته بلغتها وعباراتها المنتقاة، وتراكيبها المتشابكة، وجاء دور محمد شكري، فصعد الكاتب على الطاولة وطوى رجليه، لا يملك بين يديه أوراقًا، وانطلق في استظهار قصة استرسل في إلقائها من دون تلعثم كأنه يقرأها من ورقة خفية... نحن تعودنا منذ نعومة أظافرنا على الحفظ والاستظهار. وكان النص القرآني مدخلنا الأول لهويتنا للغوية ولذاكرتنا الحافظة، وبعده النشيد الوطني، ثم الأغاني، والأمثال. ولا غرابة في أننا ما زلنا نسمع بين التلاميذ اليوم هذه الجملة: "أترككم لأني سأروح لأحفظ"، أي ليراجع دروسه!

الذاكرة الشفهية مصدر للهوية الثقافية
كان التعليم والتعلم، إلى حدود وقت قريب، يعتمد على الذاكرة الشفهية، وعلى التواتر وتناقل الأخبار والحكايات والمعطيات. وما يسمى تراثا شفهيا كان يأخذ مكانة عظمى في الثقافات المحلية، خاصة في البلدان التي ما زال فيها محو الأمية لم يحقق التقدم المنشود منه. ففي المغرب، مثلًا، كما في بلدان المغرب العربي، يشكل التعدد الثقافي واللساني أحد مقومات الانتماء المغربي والمغاربي. ثمة لهجات أمازيغية تنتمي للغة الأمازيغية، وثمة لهجات عربية دارجة كثيرة ومتنوعة من منطقة لأخرى. والتراث الشفهي (من حكايات وتعابير ونكت وحكم وأساطير وغيرها) من الغنى بحيث إن محاولات كتابته وأرشفته لم تحقق لحد الآن ما كان مرجوًا منها.
وقد انتبه الكاتب والمؤلف الموسيقي الأميركي بول بولز لذلك منذ عقود، فسعى حين استقر في مدينة طنجة إلى تسجيل موسيقى الجوجوكة، في شمال المغرب. وسعت وزارة الثقافة إلى إخراج موسوعة الملحون، وبعض مآثر الموسيقى الأندلسية، اللذين يعدان تراثًا شعريًا وموسيقيًا أندلسيًا مغربيًا رفيعًا. كما قام بعض الباحثين بجمع الأمثال والحكايات وتدوينها ونشرها. بيد أن الحصة الكبرى من هذا الموروث الشفهي المتعدد ما زالت قيد الجهل والنسيان، بالرغم من تطور وسائل وأدوات الأرشفة السمعية البصرية. هكذا نرى أمام أعيننا حافظي هذه الذاكرة الشفهية يقضون نحبهم الواحد تلو الآخر، من غير أن يسارع الباحثون والمؤرخون للثقافة إلى استدراك الأمر، وجمع المعطيات التي تزخر بها ذاكرتهم. والغريب في الأمر أن حصة الموروث الشفهي ودراسته في الجامعات من الضآلة بحيث أن الدراسات الأدبية (الوفيرة بشعبها وطلبتها ودكاترتها وباحثيها المفترضين) تدير الظهر إلى كل ما هو شفهي، وكأنه ليس أدبًا أو ثقافة، أو كأنه ثقافة قاصرة لا ترقى إلى أن تطبق عليها اللسانيات والسيميائيات والتأويليات، وغيرها من المناهج التي أضحت من التضخم بحيث أنها حجبت علومًا إنسانية أخرى أكثر فاعلية ونجاعة.




أتذكر أني حين كنت مستشارًا لبنك المغرب، قمت بتنظيم معرض استعادي كبير للفنان المغربي الكبير الجيلالي الغرباوي، الذي يعد أصل الحداثة الفنية في المغرب. وكانت حياة هذا الفنان تعرف التقلب نظرًا لهشاشة نفسيته، وتعرضه للنوبات العصيبة من حين لآخر. ولا يعرف أحد سوى أنه وجد ميتًا ذات ليلة من شتاء 1971 على مقعد عمومي في جادة الشان إليزي في باريس. أما مدفنه فلم يكن يعرفه أحد. قمت بمناسبة هذا المعرض مع أحد المصورين بإنجاز فيلم عن الفنان الراحل، باستجواب من عرفوه وعايشوه، كمحمد المليحي، وفريد بلكاهية، وغيرهما. وفي مجرى أبحاثي عثرت على طبيب مثقف كان يعيش في باريس في أواخر الستينيات وبدايات السبعينيات، كان يلجأ إليه الغرباوي من حين لآخر طلبًا للاستشفاء. وبفضل هذا الرجل، الذي توفي هو الآخر منذ سنتين، استطعنا التعرف على قبر الجيلالي الغرباوي في مشارف مدينة فاس. كما أن طاقم التصوير قام بأخذ لقطات لبيت صغير صار عرضة للخراب، يوجد في قصبة شالة في مدخل مدينة الرباط، كان يقيم فيه الفنان ويشتغل في خلوة تامة. وحين علمت وزارة الثقافة بالأمر بادرت إلى ترميمه. أما قبر الجيلالي الغرباوي، فقد زارته لجنة رسمية وقامت بترميمه أيضًا.
الذاكرة الثقافية الشفهية ليست ذات طابع لغوي فقط. إنها أيضًا معايشات ومعاينات وتجارب يحملها أصحابها، ويصونونها بالحفظ والحكي. إنها ذاكرة هشة مؤقتة لا تبقى على قيد الوجود إلا بالتواتر والتسجيل والحفظ والأرشفة السمعية البصرية والكتابية. والبحث عن مصادرها لا يكون إلا باستعمال هذه الوسائط الفاعلة. وللأسف بات أغلب أرشيف الإذاعة والتلفزيون المغربي مفقودًا، وأغلب مثقفينا وأدبائنا ومجموعاتنا الموسيقية الشعبية منها والعالمة لا نملك عنهم أرشيفًا سمعيًا أو بصريًا يمكننا من استعادة ذاكرتهم.
لقد قامت السوسيولوجيا والأنثربولوجيا الكولونيالية بعمل لا يمكن الاستهانة به في هذا المضمار. وهي بالرغم من مقاصدها قد تركت لنا وصفات دقيقة للعديد من العوائد والحكايات الشفهية التي كانت سائدة في بلدان المغرب العتيق. أستذكر هنا عمل إدمون دوطي عن السحر والتصوف الشعبي، وويسترمارك عن المعتقدات في الجن مثلًا، وقبلهما قام أوغست مولييراس بنشر كتاب عام 1905 عن قبيلة أمازيغية غريبة في الشمال الشرقي للمغرب تدعى "زكارة"، بعنوان: "زكارة، قبيلة زناتية معادية للإسلام". وللأسف لم يتصد أي باحث سوسيولوجي للبحث في معتقدات هذه القبيلة التي لا تزال موجودة، والتمحيص في ادعاء هذا السوسيولوجي الكولونيالي الذي كان قد كتب كتابًا آخر اسمه: المغرب المجهول. وما بين أيدينا هو فقط مقال لباحث فرنسي صدر منذ سنوات عن هذه القبيلة، وعمّا تعرضت له من تشويه من لدن السوسيولوجيا الكولونيالية.

من الذاكرة الشفهية إلى الذاكرة البصرية
إذا كانت الكتابة قد قامت لوقت طويل لدينا بمهمة "تقييد" (إذ هكذا تسمى لدينا الكتابة)، وتسجيل عديد معطيات ذاكرتنا الثقافية الشفهية، فإن التسجيل البصري أضحى يأخذ مكانة أهم لأنه يمنحنا إمكانية المعاينة المباشرة لعدد من المجالات التي بات النسيان والتلف يطاولانها. كل شيء يتعرض للتلف: الحكايات والأمثال والأساطير والنكت والأغاني الشعبية التي كانت تتداول في الساحات الشعبية للمدن العتيقة، كجامع الفنا في مراكش، وسيدي بوغالب، وباب بوجلود في فاس، راحت مع وفاة حكواتييها ومشخصيها... والأغاني الشعبية الأمازيغية كما أغاني وأشعار الهيت والعيطة التي لم يطلها التسجيل، خاصة منها الأغاني والأشعار المرتجلة التي لم يعد يتذكرها أو يتداولها أحد، مع أنها كانت تتميز بطابع إبداعي مميّز. الأشرطة السينمائية القديمة نفسها تتعرض للتلف بسبب الرطوبة، وتحتاج إلى الترميم. أما أرشيف التلفزيون والإذاعة فإن أغلبه لدينا ضاع بسبب استهتار تلك المؤسسات بالأرشيف، واستعمال الأشرطة استعمالًا جديدًا يلغي التسجيل الأصلي...

رولان بارت: إن شعبي أنا لم يعد "شعبيًا"؛ فصورة هويته، التي نسميها تقاليده، لم تعد إلا مادة متحفية (25/ 1/ 1979/Getty)





في 1974، كتب رولان بارت رسالة إلى عبد الكبير الخطيبي أثبتها هذا الأخير مقدمة لكتابه "جرح الاسم الشخصي" (الذي ترجم بعنوان الاسم العربي الجريح) يمتدح هذا الأخير على اهتمامه بعلامات ورموز ثقافة آيلة للاندثار في ثقافته، كالأمثال والوشوم والحكايات والأدب الإيروسي الشعبي. ويقول مضيفًا: "إن شعبي أنا لم يعد "شعبيًا"؛ فصورة هويته، التي نسميها تقاليده، لم تعد إلا مادة متحفية... وما يسائله الخطيبي هو إنسان شعبي كلية، هذا الذي لا يتكلم إلا بهذه العلامات الخاصة به، ويجد دومًا نفسه مغدورًا من الآخرين...". ولبارت الحق في ذلك، فهو يغبط الخطيبي على إمكان اشتغاله على ذاكرة حية: الحكاية من فم حاكيها، والوشوم من ذاكرة الأجساد الأنثوية التي تنطبع فيها، والأمثال من أفواه من يحفظونها... ففي فرنسا مثلًا تجد متاحف مخصصة لكل الحرف والممارسات...
لقد أدركت البورجوازيات الغربية أن المتحف مؤسسة تحفظ الذاكرة الشعبية والبصرية، وتمكنها من السير قدمًا في التطور الاجتماعي والتقني. أما بورجوازيات الرأسماليات المتوحشة في العالم العربي، فإنها تدمر ماضيها ومستقبلها وذاكرتها ومكونات هوية شعوبها... ومفهوم المتحف لا يشكل لديها عنصرًا من عناصر ممارساتها الثقافية. ولا أدل على ذلك من أن أغلب المتاحف بالمغرب تعود للمرحلة الكولونيالية. فقد أنشأها المقيم العام ليوطي، الذي أدرك أهمية الصنائع والتراث المادي واللامادي المغربي. وبهذا الصدد، دعا المستعرب لويس ماسينيون (صاحب الكتاب الشهير "مأساة الحلاج")، وكلفه بدراسة الحرف والصنائع، وإعداد تقرير مفصّل عن ذلك، كان أساسًا لإنشاء متحف فاس للصنائع التقليدية، وتشكيل الرابطات الحرفية.
وإذا كنا اليوم قد بدأنا نتوجس شرًا من تقدم التقنيات المعلوماتية، فعلينا ألا ننسى أن أغلب ما جاءت به ليس شرّا، بل هو يمكّننا من الأرشفة ورقمنة الرصيد الثقافي، وتسجيل الذاكرة الشفهية والشعبية من حكايات وأساطير وعوائد بالتقنيات الجديدة هذه، لتسهيل دراستها. ولا يخفى أن حداثتنا ومعاصرتنا ليست رهينة فقط بتمكننا من هذه التقنيات، وإنما بتسخيرها لامتلاك ذاكرتنا وهويتنا التي تمنحنا اختلافنا في لجة هذا الزمن المعولم. إنه ورش ثقافي مؤجل يستدعي التفكير بقدر ما يتطلب العمل المتضافر، قبل أن نفقد ذاكرتنا الثقافية، ونجد أنفسنا كيانات تطفو على سطح عالم يمزج الفوارق والاختلافات ويمحوها بسرعة خارقة...

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.