}

حضور شوبنهاور في أفلام شابلن وفكره وسيرته الذاتيّة

جورج كعدي جورج كعدي 17 يوليه 2023
آراء حضور شوبنهاور في أفلام شابلن وفكره وسيرته الذاتيّة
شابلن، المتشرّد الأبديّ في بؤس الوجود

معلومٌ على نطاق واسع تأثّر أدباء وشعراء وفلاسفة وفنانين كبار بالفيلسوف الألمانيّ آرثر شوبنهاور، وهو الفريد رؤيةً ومنهجًا وأسلوبًا فلسفيًا – أدبيًّا نضرًا سَلْسالًا. ولعلّ بضعة أسماء من هؤلاء المتأثرين عميقًا إلى حدّ الوله بفكر الفيلسوف تكفي للدلالة على تأثيره: تولستوي، نيتشه، سترندبرغ، غوته، فلوبير، فرويد، توماس مانّ، كافكا، كيركيغور، بورخيس، غادَمِرْ، موباسّان، فاغنر، بروست... والقائمة تطول. إنّما معلوم على نطاق أضيق تأثُّر عبقريّ الضحكة المرّة في السينما تشارلي شابلن الذي أتى على ذكر اسم شوبنهاور في فيلمه Monsieur Verdoux (1947) وفي سيرته الذاتية التي يكشف فيها بوضوح تأثّره بفلسفة شوبنهاور ومشاركته نظرته إلى بؤس العالم، فامتدّ هذا التأثّر إلى كامل خطابه السينمائيّ.

قرأ شابلن مرارًا مؤلَّف شوبنهاور الأساسيّ والضخم "العالم إرادةً وتمثّلًا" وهو يورد ذلك في سيرته الذاتية، مع بقائه وفيًّا لفكر الفيلسوف الألمانيّ إلى آخر يوم من حياته، متبنيًّا في كوميدياته الضاحكة في الظاهر إنّما الحزينة في العمق تلك النظرة المأساويّة إلى وجودنا الإنسانيّ المليء بالكفاح المتواصل. فنّ شابلن وُلد من عبارة لشوبنهاور تبدو حياة البشر تبعًا لها "تراجيديا حين ننظر إليها من زاوية إجماليّة، وكوميديا عندما نخوض في تفاصيلها". رؤية شابلن داخلًا حقل الصورة هي رؤية السخرية المتأتيّة من بؤس الوجود. يسعنا التأكيد، استنادًا إلى كلمات شوبنهاور، أنّ حياة شابلن تنطوي على كلّ آلام التراجيديا لكنّه لا يستغلّ كرامة شخوصه المأسوية، بينما يظهر في تفاصيل الحياة السطحية كشخصية كوميدية، حمقاء بالضرورة. تكفي شابلن حديقة عامة، شرطيّ وحسناء جميلة، ليكتب من هذا المعطى القليل كوميديا. يقول في سيرته الذاتية: "طريقتي في صنع حبكة كوميدية بسيطة: إغراق أشخاص في متاعب ثم إخراجهم منها". منذ أفلامه القصيرة الأولى في ستوديوهات "كيستون" (1914)، ساق شابلن كوميدياته ضمن هذا الإطار، وفي المركز شخصية متشرّد (Tramp) أبديّ، يهيم على وجهه في حديقة عامة، حيث يلتقي امرأة، هي موضوع الرغبة، وشرطيًّا، هو موضوع التصدّي. وعلى "شارلو" أن يرتجل، ويبعث حياةً من لا شيء في هذا الموقف المباغت الذي يخلخل الانتظام العام. تكفي بضع لقطات مركّزة كي نشهد، انطلاقًا من السأم والفراغ، ثَوَرانًا لقوى الطبيعة في وجه هذا الأخرق الهائم وحيدًا. ولم يكن شابلن الأوحد في استخدام هذه الطريقة، إذ نجد ذلك لدى ماك سينيت Sennett، معلّمه، ولدى باستر كيتون.

ترتكز الكوميديا الشابلنيّة في شكل أساسيّ على عدم تكافؤ القوى: شابلن ملاحَقًا من الشرطة في "أزمنة حديثة" (1936)، ومن حمار في "السيرك" (1928)، ومواجهًا غوليات في "البحث عن الذهب" (1925)، وفي "الولد" (1921)، وهو الحلّاق وحيدًا ضدّ فريق من الألمان في "الديكتاتور الكبير" (1940). في معنى آخر، الرجل مطارَد من "الإرادة" الشوبنهاوريّة، المتمثّلة في أضعف أشكال القوّة العمياء والغريزة المبهمة والصمّاء. العالم أمام كاميرا شابلن مطابق تمامًا لإمبراطورية المصادفة والخطأ التي تحكم بلا رأفة، "المدفوعة بالحماقة والشرّ اللذين يحركّان سوطهما"، بحسب تعبير شوبنهاور. الفقر والألم والسأم تحكم حيث شابلن موجود. هنا يظهر لنا العالم في قسوته الفعليّة.

 أتى شابلن على ذكر اسم شوبنهاور في فيلمه Monsieur Verdoux (1947) 


يستخدم شابلن عبارة "الهَزْل" في نظريته حول الإضحاك. دون كيخوته يتصرّف هزليًّا إذ يواجه كلّ العوائق التي تعترضه. شابلن يخضع أيضًا لهذه القاعدة. ويمكن إضافة منبع آخر للضحكة الشابلنيّة، عدم قدرة المتشرّد على عقد الصلة بين الفعل وردّ الفعل. يخال نفسه دومًا حرًّا وبريئًا إذ يجهل الأسباب التي تدفعه. جميع المصائب التي تحلّ به ناجمة عن هذا الجهل بالأسباب. يعيش في عالم من المؤثّرات، أي من الظواهر، ويظلّ مقتنعًا بأنّ تلك المؤثرات والظواهر تجتمع ضدّه بلا سبب. بطل تراجيديّ بمظهر كوميديّ ضاحك. وهو كذلك تجسيد للصورة التي وضعها شوبنهاور للإنسان الذي استطاع الانعتاق من إرادة الحياة. ومع ذلك، شخوص شابلن ليست بلا ردّ فعل حيال الشرّ والألم. الطيبة الشوبنهاوريّة تملأ روح شابلن. يحارب شابلن الأنانية، منبع الشرور كلّها بحسب شوبنهاور، ويمارس الطيبة التي هي الدرجة الأسمى لدى الإنسان. والطيبة ترمز إليها المرأة في أفلام شابلن. الطيبة ذات طبيعة أنثوية بالنسبة إلى شابلن، مخالفًا هنا رأي شوبنهاور في النساء عامةً، وهو رأي هجّاء وسلبيّ، علمًا بأنّ شابلن يشارك الفيلسوف الألمانيّ الحذر من المرأة، وبخاصة التي تتسبّب بآلام كبيرة للرجل، إلى حدّ دفعه إلى الانتحار كما في فيلم شابلن "امرأة في باريس" (1923). ما يفتن شابلن لدى المرأة، كما لدى الطفل، هو أنّهما يجسّدان اللطافة والطيبة اللتين يفتقدهما الرجال العاديون، أو المبتذلون، المفرطون في الجدّية. شابلن في أي حال "طفل كبير" لا يشعر بالهناء إلّا بين الأطفال، ولم يحبّ أبدًا إظهار تلك الجدية وذاك الجفاف اللذين يطبعان الأناس العاديين.

شابلن "الفنان الشامل" بالمعنى الناجز للتسمية، وفضلًا عن كونه كاتبًا ومخرجًا وممثلًا ومصمّمًا للديكورات، هو أيضًا مؤلف موسيقى رائعة لأفلامه ذات ميلوديات عاطفية مؤثرة وأبعاد إنسانيّة ميتافيزيقية، مطابقة لنظريّات شوبنهاور في الموسيقى وسائر الفنون الأخرى، فالفيلسوف الألماني كان مُؤْثرًا لموسيقى فاغنر وبرامز وروسيني للأبعاد التراجيدية والميتافيزيقية فيها، ولتجسيدها فلسفته ونظرته إلى الوجود على النحو الأفضل. الميلوديات والثيمات الموسيقية لدى شابلن تستجيب أيضًا لفلسفة شوبنهاور إذ تنشئ على الدوام تماثلًا بين "الإرادة" بحسب شوبنهاور والموسيقى، عبر ربط مباشر، فالموسيقى هي أبعد من الظاهرة والفكرة. إنّها جوهر الوجود نفسه. ومثل شوبنهاور، الموسيقى في تصوّر شابلن هي الخلاص، فالحياة ألم قبل أن تكون هزلًا، ورأي شوبنهاور في هذا الجانب لم يفعل سوى تأكيد رأي السينمائيّ الكبير الذي يقول في سيرته الذاتية: "لم أكن في حاجة إلى قراءة الكتب لأعي أن موضوع الحياة الأكبر هو الكفاح، والألم كذلك. سائر تهريجاتي كانت ترتكز، غريزيًّا، على ذلك". فعلى الرغم من جهود الشخوص الكوميدية فإنّ كآبة عميقة تنضح من أفلامه، بحيث أنّنا نتذكّر بيسر مأساة الأفراد أكثر من الكوميديا في المشهد العام. ثمة مرارة وحزن في ضحكة شابلن متقدمًا في العمر، وثمة ابتسامة غير متوهّمة ترتسم على وجه "كالفيرو" الذي يناقض خطاب هتلر المتفائل في ختام "الديكتاتور الكبير". الضحكة المتهكمة لدى الفيلسوف الألماني تستتر أحيانًا وراء شخوص السينمائيّ الهوليووديّ البريطانيّ الأصل. استعار شابلن وجبة أسنان شوبنهاور التي قفزت من فم الفيلسوف ميتًا فارتعب تلميذاه الجالسان قرب جثته، بحسب القصة – التحيّة تحت عنوان "بالقرب من ميت" التي أهداها غي دو موباسان لفيلسوف التشاؤم والحقيقة الذي أثّر فيه أشدّ تأثير. كان شوبنهاور يعضّ على نواجزه فكريًّا، ومثله شابلن سينمائيًّا. كلاهما أعلن موقفًا إنسانيًّا حادًّا وغاضبًا من مأساة الوجود، ونواجز شابلن نافرة في محيّاه، في جدّه وهزله على السواء، والفرق بينه وبين فيلسوفه الألمانيّ المُلهم أنّه وازن بين التراجيديا والكوميديا، بينما كان متشائم فرانكفورت أقلّ مرحًا وأكثر عبوسًا. ولو أردنا المقارنة (أو المفاضلة) بين عبوس شوبنهاور وابتسامة شابلن، لرأينا سخرية وتهكّمًا مُضْمرَين في فلسفة الأول الآسرة والمستشهدة على الدوام بفلاسفة وأدباء وأقوال ساخرة لهم، ولأدركنا في المقابل مرارةً حادة وحسًّا مأساويًّا عارمًا تخفيهما الضحكة والهزل لدى الثاني.

لا فرق كبيرًا بين شوبنهاور وشابلن، فالفيلسوف قدّم فكره الوجوديّ بكثير من الجدية وقليل من المرح، فيما قدّم السينمائيّ الفكر نفسه والنظرة ذاتها إلى العالم بكثير من الكوميديا وبغير قليل من المأساة والحزن المستترين.

٭ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.