}

تقول لنا الصورة: هذا ما تفعله الإبادة

جورج كعدي جورج كعدي 7 أبريل 2024
آراء تقول لنا الصورة: هذا ما تفعله الإبادة
المصور معتز عزايزة وسط دمار غزة
دمار العمران فصيح، كفصاحة الجثث في الشوارع. توثّق الصورة لذبح المدنيين وتشليع أجسادهم، فوق الركام وتحته. المدنيّون هم الهدف. هذه ليست حربًا. هذه إبادة. عشوائية القصف دليلٌ كافٍ. وحشيّة الصهيونيّ تُحوِّل إنسان غزة إلى مجرّد شيء.
كان القتل في الماضي بعيدًا عن متناول الصورة. العقود الأخيرة جاءت بها إلى المجازر والحروب. الصور منهمرة على الأبصار اليوم بلا توقف، عبر شاشات التلفزيون وميديا التواصل على اختلافها. الذاكرة تجمّد الصورة، تخزّنها، تهيّئها للاستعادة الفورية. إنها صورة صادمة، تُذهل، تُفزع. الصورة المحتفى بها لألم أو موت أو دمار تزيد معرفتنا بفظائع القتل الإباديّ.
منذ ولادتها عام 1839، أضحت الصورة مرافقة للموت، وأعظم من أي لوحة مرسومة عن ماضٍ تلاشى، وإنسان عزيز رحل. ومع تحرير آلة التصوير من قوائمها الحاملة، وجعلها محمولة باليد، اكتسب التقاط الصورة قيمة فورية، ومرجعية أكبر من أي تقرير مكتوب عن فظاعة القتل الجماعي. بات للصورة سلطان على الفكر، والخيال، وعلى الكلمة المكتوبة والمنطوقة، لكونها شديدة الواقعية. استهلك مشهد الموت الكلمات، وأضعفها لمصلحة الصورة، كسجلّ للواقع لا جدال فيه، ولا يضاهيه أي تقرير مكتوب مهما كان متجرّدًا وبليغًا، طالما أنّ بلاغة الصورة تتفوّق عليه. الصورة بيانٌ خام عن الواقع يخاطب العين والعقل والشعور. والصورة الأقلّ تكلّفًا وصقلًا وتحضيرًا، أي شديدة العفوية، تمتلك نوعًا خاصًا من الموثوقيّة، وهي تفوق أفضل الصور المعدّة فصاحةً. هنا تتساوى الخبرة مع انعدامها. ملتقطو المشهد والحدث بأبسط كاميرات هواتفهم المحمولة يتركون في متلقّي صورهم تأثيرًا أشدّ من صور المحترفين التي تنقصها العفوية.
الإمساك بالموت لحظة حدوثه وتثبيته في الزمن أمران لا تستطيعانهما إلّا الصورة. تستدعي الصورة واقع القتل والإبادة وجهامته. كأنّها تمدّد لنا الضحايا وملامحهم أمامنا، بل إنّ تميّزها الرهيب قد يتجاوز أحيانًا حدّ المقبولية، محاكيةً الجانب المظلم من الطبيعة البشرية. تحفظ الصورة الحدث التاريخي الكبير بأدقّ تفاصيله ومآسيه.

تحفظ الصورة الحدث التاريخي الكبير بأدقّ تفاصيله ومآسيه (غزة/Getty)

ما تسجّله الصورة في غزة اليوم يفوق مخيّلة ليوناردو داڨنشي الفنية يوم وجّه تلاميذه نحو إظهار الحرب بكل فظاعتها لدى رسمها في لوحة: "إجعلوا المهزومين والمضروبين شاحبين، بحواجب نافرة ومعقودة، يعلوها جلد مجعّد ألمًا، وصفوف الأسنان متباعدة كما يحصل في بكاء الندب... إجعلوا القتلى ملفعين جزئيًّا، أو كلّيًا، بالغبار، ودعوا الدماء تبدو مرئيةً لونًا منسابًا مثل جدول متعرّج من الجثة إلى التراب. واجعلوا الذين يعانون سَكَرات الموت يصكّون أسنانهم، ويديرون عيونهم، مثبتي قبضات الأيدي إلى صدورهم، وأرجلهم ملتوية". ما أوحى به داڨنشي هو أن تكون نظرة الفنان المحدّقة عديمة الشفقة، لتكون الصورة (اللوحة) مرعبة.




"الجمال السامي"، أو الرعب المأساويّ، أمر مألوف في رسوم الحرب التي يصنعها الفنانون. لكن في صور الحرب المباشرة اليوم، أيّ مسعى إلى استخراج "جمال الصورة" منها هو مسعى بلا قلب. الصورة من ميادين القتل والموت معرّضة للحَرف عن غاياتها، فالصور التي تعبّر عن الألم يجب ألّا تكون "جميلة" ومتقنة، أو تفقد مكانتها كوثيقة ويضعف تأثيرها. من الأصوب أخلاقيًا جعل المشهد غير "جميل"، بمعنى الإتقان الفني، والابتعاد أيضًا عن استغلال العواطف.
هل يريد الناس المتفرّجون على الإبادة أن يتمّ ترويعهم بالصورة، وأن يفقدوا القدرة على مشاهدتها مرارًا؟ هل يعتادون على الجثث المشوّهة والوجوه المدماة المثخنة بالجروح؟ ما الهدف من عرض هذه الصور؟ هل إيقاظ الشعور بالسخط؟ أم الترويع وإشاعة الحزن والمساعدة على البكاء؟ قد يُبدي البعض خشيةً من أن تغذّي صور القتل المباشر والموت شهيّة اختلاس النظر. قد يشعر المرء بأنّه ملزم بالنظر إلى صور الإبادة والجريمة الكبرى، ملزمًا بالتفكير في معنى النظر إليها واستيعاب ما تظهره. نغدو مسكونين بصورة الألم الذي لا يطاق. غير أنّ المشهد نفسه قد يلاحقه آخرون بشغف الانجذاب إلى الشرّ. ألم يسأل شكسبير على لسان "إياغو" في مسرحية "عطيل"، أو "أوتيللو": لماذا نقرأ دائمًا الأخبار في الصحف عن الحرائق المفزعة والجرائم المذهلة؟ مجيبًا "لأنّه حب الأذى" الطبيعيّ في الكائنات البشرية. لكنّ عديمي الرحمة غير الأسوياء ليسوا قضيتنا هنا.
هذه "المعرفة" بالألم عبر الصور التي تأتينا من بعيد غالبًا ما تظهرنا غير قادرين على استيعاب معاناة أشباهنا من البشر، رغم كل الإغراء المرتبط باختلاس النظر، فكأنّ لسان حالنا يقول: هذا لا يحدث لي، أنا لا أموت، لستُ عالقًا في ميدان الموت. فمن الطبيعي بالتالي أن نعفي أنفسنا مع الوقت من عناء التفكير في مأساة الأبعدين. إنّه أمر إنسانيّ عاديّ، فحيثما يشعر الناس بالأمان يكونون غير مبالين. هم ينفعلون ليس لأنهم تلقّوا صورًا كثيرة عن العنف فأمسوا لا مبالين، بل لأنهم خائفون. إذا استفحلت أعمال الإبادة والحروب ولم يظهر إمكان وقفها يغدو الناس أقلّ استجابة لأهوالها. التعاطف مع الآخرين عاطفة غير مستقرّة. يجب أن تقترن بأفعال، أو تضمحلّ. يبدأ شعور الإنسان بالملل والتشاؤم. تتبلّد المشاعر، وينمّ تعاطفنا عن براءة كما ينمّ عن عجز.
في عالم مشبع بالصور يتلاشى الاهتمام بالحروب والمآسي الكبرى تدريجيًّا، فنصير بليدي الإحساس. تدفّق مثل هذه الصور، ولفترات طويلة، كما هي الحال إزاء صور مآسي غزة الرهيبة، يفقدنا شيئًا فشيئًا ـ وهذا مؤسف ومؤلم ـ الإحساس والتعاطف. يغدو الحدث أقلّ تأثيرًا وإيقاظًا للضمائر واستفزازًا للمشاعر التي أتعبتها كثرة الاستفزاز. تكرار "الفرجة" يحيّد القوة الأخلاقية. تجفّ قوة الصورة. الإفراط في عرض الصور يفضي إلى تشتيت الانتباه. لا تبقى الصور متميّزة، تُفرغ مع الوقت من مضمونها وتأثيرها فتُميت المشاعر. حيال طوفان الصور، يفقد الإنسان قدرته على ردّ الفعل، فالتعاطف حين يشتدّ إلى أقصاه يصاب بالارتخاء. وأمام "طقوس الوحشيّة الكونية" بحسب تعبير بودلير نحن "مدعوون" يوميًا، صبحًا وظهرًا ومساءً، إلى وجبات من فظائع العالم وآلامه وسيل كوارثه، فيصيبنا الوهن وفقدان الإحساس بالتعاطف، إذ لا قدرة لدينا على ابتلاع كلّ هذه النوائب دفعة واحدة!
يعيش الإنسان المعاصر في "مجتمع المشهد"، وثمة افتراض بأنّ صور الأعمال الوحشية تضاءل تأثيرها على مستوى العالم، حيث أمست الأخبار للبعض (وربما للأكثرية) ترفيهًا. يحوم شكّ حول اهتمام البشر بهذه الصور. مواطنو الحداثة يستهلكون العنف كمشهد، بعيدًا عن الخطر. إنّه نوع من الخلل الأخلاقيّ يصيب العالم. الغضب الأخلاقيّ، مثل التعاطف، لا يملي مسارًا للتحرّك وردّ الفعل. ثمة إحباط ناجم عن عدم القدرة على القيام بأي فعل إزاء ما تظهره صور الإبادة التي تبدو مجرّد وسيلة لمراقبة المعاناة عن بعد. أضحى البصر، أنبل الحواس بحسب تعبير الفلاسفة اليونانيين القدامى، مرتبطًا بالعجز. إنّ توزيع أخبار الإبادة اليوم على نطاق عالميّ لا يؤدي بالضرورة إلى مضاعفة مشاعر التعاطف مع الشعب الفلسطينيّ المذبوح والمكابد أفظع الآلام. ومع ذلك، قد لا تكون استجابة الناس قلّت أو تلاشت، ومن المؤكد أنّ العجز حيال مشهد الإبادة إحساس طاغٍ.

في عالم مشبع بالصور يتلاشى الاهتمام بالحروب والمآسي الكبرى تدريجيًّا (غزة/ Getty)

إنّه عصر "صدمة الصورة"، و"ثقل الكلمات"، ولم يبق التعامل في الإعلام مع شعب يفكّر، بل مع متفرّجين منبهرين بالصورة. يمكن التحدث عن "تلفزيون الواقع الحربي"، وعن "حرب الصورة الإلكترونية"، حيث يمكن لأي شخص إنشاء مدوّنته على مواقع التواصل، والإعلان عن نفسه بأنّه مصوّر محترف، فيغدو التأثير معرّضًا للتحريف والتضليل من قبل آخرين. تحتاج شبكات التواصل إلى الصور أكثر من الكلمات، رغم أنّها معرّضة للاختراق، ولتدخّل "الذكاء الاصطناعي" المخرّب. إنّها "ضبابية المشهد" تطغى لو استعرنا تعبير كلاوزڨيتس، فالحرب ووسائل نقل الصورة تسير جنبًا إلى جنب، نحو الأفضل، أو نحو الأسوأ. رافقت الصورة الفوتوغرافية الحرب العالمية الثانية، وجلب التلفزيون حرب فيتنام إلى بيوت الغرب، ونقلت الشبكات الإخبارية حرب الخليج مباشرةً قبل ثلاثين عامًا، وهيمنت شبكات التواصل الاجتماعي منذ مطلع القرن العشرين من غير أن تطرد وسائل الإعلام القديمة التي تتغذى منها وتضيف إليها.




الصورة هي "شرف الواقع" في تعبير جان لوك غودار، فماذا يمكن أن تخاطبنا به عن الواقع عندما يكون واقع حربٍ وصراعٍ وموت. يكون الزمن معلّقًا في الصورة. تغدو الصورة أيقونةً، دليلًا وشهادة، وثيقةً تاريخية. إنها صورة "اللحظة الحاسمة" في تعبير هنري كارتييه بروسون، اللقطة "اللحظيّة" للموت. صور أيقونية تتسلّل إلى الذاكرة لتصبح تمثيلات رمزية لما يمكن عرضه حول المآسي الفردية والجماعية. تربط الصورة بين الذاكرة والتاريخ فتمتلك قوة الشاهد.
طوال مئة وثمانية أيام، عاش المصوّر الفلسطينيّ معتزّ عزايزة كلّ الأخطار في غزة كي يروي بالصورة يوميات الإبادة لمتابعيه على إنستغرام. في الأثناء، فقد أفرادًا من عائلته، ومن أصدقائه. حظي بإشادات كثيرة من أنحاء العالم على صورته "غير المفلترة"، الخام، لأهوال المجازر المتتالية. صوره الأكثر عمقًا وتأثيرًا كانت لمرافقته المصابين داخل سيارات الإسعاف، وجلوسهم في حضنه ملطخين بالدماء، مرتجفين خوفًا، وأحدهم طفل مصاب بجروح خطيرة حبس معتزّ دموعه إزاءه متمتمًا "يا الله، يا الله". وإذْ لم يبقَ قادرًا على الاحتمال أكثر، بعد تلك الأيام المديدة التي أمضاها بين الشهداء والمصابين، ووسط الدمار الشامل، قرّر الخروج من القطاع، لينضمّ، بحسب قوله، إلى المحتجّين على الإبادة في كل مكان، وتقديم شهادته للعالم.
الإبادة في غزة، بلا صورة، إبادة لم تحصل. لكنّ الصور متوافرة بكثرة، والعيون الكثيرة شاهدة، سجّلت شهاداتها لمحاكم الأرض، ولمحكمة التاريخ.


٭ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.