}

إشكاليّتا العلمانيّة والدين في الكيان الصهيونيّ

جورج كعدي جورج كعدي 27 مارس 2024
آراء إشكاليّتا العلمانيّة والدين في الكيان الصهيونيّ
يهود علمانيون (يمين) يتجادلون مع يهود أرثوذكس بالقدس (Getty)

منذ نشأته كيانًا غاصبًا للأرض والتاريخ، حمل الكيان الصهيونيّ الإحلاليّ الإباديّ المحتلّ بذور تناقضاته وتَفَجُّر خليطه الهجين، وإن تحت راية اليهودية المضلّلة التي أرادها انتهازيّو مشروع "الدولة القومية لليهود" للتحشيد والتجميع وتحفيز المجيء من الشتات إلى أرض فلسطين كيفما اتّفق. والنزاع القائم اليوم على أشدّه بين بعض السلطة الحاكمة والبعض الآخر الدينيّ من جماعة الحريديم الكبيرة عددًا وتأثيرًا، خير برهان على هذه التناقضات التي ليست سوى رأس جبل الجليد الذي ستتحطّم عنده تباعًا السفينة الصهيونية قبل غرقها، تمامًا مثل سفينة التايتانيك التي كانت تتباهى قوةً وحجمًا (كتباهي كيان الحديد والنار) حتى ابتلعها البحر إلى أعماقه.

الواقع أنّ الحركة الصهيونية وإعلان "دولة إسرائيل" لاحقًا كانا سببًا لأكبر التصدّعات في التاريخ اليهودي، فبحسب يوسف سالمون، الخبير الإسرائيليّ في تاريخ الصهيونية "شكّلت الصهيونية أكبر تهديد إذ هدفت إلى سلب الجماعة التقليدية كامل تراثها، وانتزاع انتظاراتها المسيانية منها، متحدّية كل جوانب اليهودية التقليدية عبر اقتراحها هوية يهودية عصرية وقومية، وإخضاعها المجتمع التقليديّ لأساليب حياة جديدة، ومواقفها حيال مفاهيم الشتات الدينية والخلاصيّة. وقد طاول هذا التهديد كلّ جماعة يهودية، وكان شديدًا ومواجهًا، ولم يكن في الإمكان مقاومته إلّا برفضه بلا هوادة".

يهود كثر، في مختلف أنحاء العالم، يؤكدون حتى الساعة على وجوب تعريف "دولة إسرائيل" بأنّها "دولة صهيونية" وليست "دولة يهودية" أو عبريّة. ويرتبط هذا الفصل لمسار الشعب اليهودي التاريخي عن مصير "دولة إسرائيل" بإشكالية تتجاوز حدود التاريخ اليهودي. فالصهاينة وخصومهم من اليهود يتفقون على أنّ الصهيونية والدولة الإسرائيلية الناتجة عنها تشكلان انقطاعًا في التاريخ اليهودي، ونجم هذا الانقطاع عن تحرر يهود أوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرين وعلمنتهم. وسعت الصهيونية، العلمانية (بل الملحدة في عمق الخفايا)، المقنّعة بالدين في الظاهر، إلى أربعة أهداف أساسية: أولًا تحويل الهوية اليهودية إلى ما وراء الحدود القومية القائمة على التوراة، إلى هوية على غرار الأمم الأوروبية الأخرى. ثانيًا نشر لغة محلية جديدة، أي لغة قومية، مؤسَّسة على العبرية التوراتية والحاخامية. ثالثًا نقل اليهود من بلدانهم الأصلية إلى فلسطين. رابعًا تثبيت السيطرة السياسية والاقتصادية على فلسطين.

بالنسبة إلى اليهود المتديّنين أدارت الصهيونية ظهرها للربّانيين وتطلعت إلى الحداثة. ويعكس نشر الفكرة الصهيونية تغيّرًا عميقًا في وعي اليهود الجمعيّ، وكان على الصهاينة بدءًا اللجوء إلى دعاوى كثيفة من أجل التحريض على الانقطاع عن التاريخ اليهوديّ، فحطّمت ألوف السنين من التقليد اليهوديّ، مطلقةً الوعي اليهودي العلماني الجديد. وبحسب بعض المؤرّخين الإسرائيليين فإنّ الصهيونية صاغها طوباويون يحنّون إلى الاستيطان الزراعيّ، على مثال المستوطنين الأوروبيين في جنوب أفريقيا وفي الجزائر. كما تمّت "صهينة" الكتابة التاريخية، بما في ذلك التشويه اللاهوتي لتاريخ الحركات المسيانيّة اليهودية، بغية خلق فهم جديد للتاريخ اليهودي يخدم مشروع "التحرير الجماعي" وإقامة "دولة إسرائيل". في حين أنّه لا يمكن للتاريخ، في الرؤية التقليدية، إلّا أن يكون مثقِّفًا، وهو موجود بشكل أساسيّ في التوراة. وبالنسبة إلى الحاخامين، لم يكن الكتاب المقدس يومًا كتاب تاريخ وقائع فحسب، بل كان يكشف دومًا عن حبكة التاريخ بأكملها، ولا حاجة بالتالي إلى "اختراع" مفهوم تاريخي جديد.

الانقطاع الذي أحدثته الصهيونية في التاريخ اليهودي هو انقطاع شرس. يرفض اليهود المؤمنون القول بأنّ ضياع الدولة قد يستبعدهم من التاريخ. وإذا كان اليهود العلمانيون يجدون لهم مكانًا في التاريخ الصهيونيّ، فإنّ اليهود الأتقياء غائبون عنه. من هنا تعرّض الحريديم للعنف من قبل المؤسسة الصهيونية. الصهاينة مرغمون على تجنيد التاريخ لغاياتهم الخاصة. وتبقى وجهتا النظر متعارضتين في العمق، ما يؤثّر في الدروس التي يستخلصها كل فريق من التاريخ اليهوديّ، فضلًا عن الخلاف الجوهريّ حول رفض الحريديم الالتحاق بالجيش، في حين أن الحياة العسكرية هي في أساس الحركة الصهيونية!

شلومو أڨينيري 


يطرح اليهود المتديّنون أسئلة من نوع: كيف يمكن تفسير عودة اليهود إلى "أرض إسرائيل" قبل مجيء الزمن المسياني؟ وهل تطمس هذه العودة طابع التاريخ اليهودي الوحيد ومداه الميتافيزيقيّ؟ بل يبلغ الشك حدّ التساؤل: هل يهدف الصهاينة إلى استئصال اليهودية بأكملها، أي اقتلاع كلّ التقليد اليهودي الذي يُتّهم بالخضوع والتراخي السياسيّ؟ الصهيونية بالنسبة إلى المؤمنين تمسّ مباشرةً الإيمان بخلاص مسيانيّ. ورغم أنّ عدد معارضي الصهيونية الناشطين والفاعلين، داخل الكيان وخارجه، يبقى متواضعًا إلى حدّ ما (بضع مئات ألوف) إلّا أنّ تأثيرهم منتشر في الأوساط الورعة واسعة النطاق عالميًا (من هنا نلحظ اتساع عدد تظاهرات اليهود المناهضين للإبادة الحاصلة في غزة رافعين شعار "ليس باسمنا" المعبّر عما نعالجه هنا). يعدّ مناهضو الصهيونية أن أيديولوجيّة الصهاينة وممارساتهم تخالف أسس اليهودية، وهم يتعاملون مع "دولة إسرائيل" كأيّ تركيبة زمنية، ويرفضون كل صلة بين الحماسة القومية والعقيدة الخلاصية.

أثارت الحجج التي تشكّك في الصهيونية وفي "دولة إسرائيل" ردود فعل معادية طوال العقود الفائتة، ومثال على ذلك هانّا (حنّة) آرندت التي وجهت انتقادات إلى الحركة الصهيونية، بعدما كانت قد أيّدتها لفترة من الزمن، فرُفضت كتاباتها وأُلقيت في سلّة المهملات، إذ لم يحبّوا "نبرتها". وحتى اليوم، يُنظر إلى مناهضي الصهيونية بوصفهم متواطئين لا يحسنون "إخفاء طعناتهم في ظهر اليهود". ولم تخفّف السلطة العسكرية والسياسية حتى الساعة من تشدّدها حيال كل خطاب مناهض للصهيونية ولطابعها العلمانيّ غير الدينيّ، علمًا بأنّ "جاذبية" الفكرة شهدت طوال قرن من الزمن تقدمًا، والتحق بها مع الوقت بعض الدينيين الذين "أفتوا" يهوديًا بأنّ مسألة امتلاك "أرض إسرائيل" هي في صلب رؤياهم وفهمهم الخاص للدين اليهوديّ (لدينا في لبنان مثل شعبيّ شائع: كما يشاء الفاخوري، أي صانع أواني الفخار، يضع أذن الجرّة!).

حين دعا نابليون في غمرة حملته العسكرية إلى بلاد المشرق عام 1799 "جميع اليهود إلى الانضواء تحت رايته" وإلى "إقامة دولة يهودية في فلسطين"، لم تلقَ دعوته الحماسة المطلوبة، رغم مطابقتها الوعد بـ"إعادة بناء الهيكل". كان ذلك أول انقطاع وانتقال من مجال المفهوم الخلاصيّ الإلهيّ المطلق إلى مجال النشاط السياسيّ الزمنيّ، ولم يلقَ إلّا صدى في مرحلة ما بعد الأيديولوجيا الصهيونية. ويلاحظ شلومو أڨينيري في كتابه "تاريخ الصهيونية الثقافي" أنّ اليهود ما عادوا يعيرون أهمية، على الإطلاق، لفكرة العودة إلى "أرض إسرائيل". ويرى أڨينيري، وهو مراقب علمانيّ يقظ، أنّ إدخال الصهيونية في مفهوم "الصلة الوثيقة مع أرض إسرائيل" قد يكون تافهًا وامتثاليًا ودفاعيًّا، ولعلّه يتعلّق بتحوّل في الضمير اليهودي وليس بالتتمة المنطقية لقرون النحيب من أجل الأرض المقدسة. والتوقيت غريب في نظر أڨينيري، فالقرن التاسع عشر كان من مختلف وجهات النظر أحد أفضل القرون التي عرفها اليهود أفرادًا وجماعات، منذ "خراب الهيكل". فمع الثورة الفرنسية والتحرير قُبِلَ اليهود للمرة الأولى على قدم المساواة أمام القانون، وفُتحت أمامهم المدارس والجامعات والمهن. وعام 1914 نَقَلَ قرن التحرير الحياة اليهودية من هامش المجتمع الأوروبي إلى وسطه.

الاستخدام العمليّ للدين ليس، بحسب الأكاديمي الإسرائيليّ زئيف شتيرنهل، وقفًا على الصهيونية، بل اعتمدته القوميات العضويّة التي انتشرت في أوروبا منذ منتصف القرن التاسع عشر. تمّ التخلّي عن الوظيفة الاجتماعية للدين كرابط لوحدة الشعب وأُفرغ من مضمونه الميتافيزيقي، كما حصل في بولندا وفرنسا الكاثوليكيتين. ويصف ظاهرة "دين بلا إله" بأنّها تتعلّق بالدين الذي لا يحتفظ إلّا برموزه الخارجية. هكذا تتزيّا الصهيونية بـ"دين بلا إله" وتستغلّ الرموز والطقوس الظاهرية لهذا الدين، في حين أنّ مشروعها بعيد تمامًا عن الجوهر الدوغمائيّ. وربما ليس في تاريخ البشرية ما هو أكثر خبثًا وشرًّا ودهاءً، كما هي الحال في أوروبا المسيحية، وفي أميركا الإنجيلية المتصهينة. يكتسب الدين بالنسبة إلى الصهاينة أهمية إضافية لكونه يقدّم "الشرعية التاريخية" الوحيدة لـ"حقوق اليهود" على "أرض إسرائيل". وبحسب الصهاينة، لجأ اليهود إلى الدين كوسيلة لتحقيق "إرادتهم بالبقاء". في كلام آخر، ليست اليهودية إلّا وسيلة بقاء، وأُعطيت التوراة كي تحفظ وحدة الشعب اليهودي، ولكن ما إن يعود اليهود إلى "أرضهم" تنتفي حاجتهم إلى تعاليمها، فوعيهم القومي المعاش في "أرض إسرائيل" سوف يحافظ على هذه الوحدة. لكنّ تعبير "إرادة البقاء" يتنافى مع الحساسية الحاخامية، فالفكرة القومية متأتية من بعض الحركات القومية الأوروبية التي تؤكد إرادة الشعوب المشتتة في أرجاء الإمبراطوريتين الروسية والنمساوية في البقاء والتنعّم بدولة قومية. بيد أنّ تاريخ الشعب اليهودي وعقيدته شأنان مختلفان.

في غياب أساس ثقافيّ مشترك، غير التوراة، ما من خيار آخر للحركة الصهيونية و"دولة إسرائيل" إلّا مساندة هوية قومية ترتكز على الانتماء وتتوطّد أكثر حيال التهديد العربيّ والإسلاميّ. ولا يمكن ضمان بقاء "شعب يهودي علماني" في غياب دولة صهيونية، فمؤسّسو الحركة الصهيونية أتوا جميعًا من أوساط مندمجة لا من أوساط دينية تقليدية، وهم نتاج التربية الأوروبية وكانوا يبحثون عن "تقرير مصيرهم الذاتي" وهويتهم وحريتهم، وعن قوميتهم الذاتية التي استيقظت للتو. الصهيونية هي إذًا، وقبل كل شيء، ردّ على تحديات الليبرالية والقومية أكثر من كونها ردّ فعل على معاداة السامية المحيطة: ودائمًا بحسب أڨينيري، لم تتمكن الصهيونية من الظهور قبل الثورة الفرنسية، مهما بلغت قوة الاضطهادات ضدّ اليهود في القرون الماضية. تشكّل الصهيونية إذًا الانقطاع التاريخي الأكثر جذرية في حياة اليهود.

كان موقف هرتزل، من منطلقي علمانيته وإلحاده، عمليًّا براغماتيًّا. ابتعد عن التقاليد اليهودية مقرًّا في الوقت عينه بدورها الجاذب، وخاصةً بالنسبة إلى اليهود "الذين لا يزالون في العادات القديمة"، بحسب تعبيره، والذين يشكلون رغم كل شيء الشعب الواعد للصهيونية. نظر إلى العادات اليهودية مثلما تنظر المسيحية إلى أهمية العادات في بناء الدولة، وظلّ مأخوذًا بطقوس الدروس الحسيدية التي كان يحلّلها متهكّمًا، آملًا في تسخيرها للأهداف الصهيونية. لكنّه أساء تقدير شدّة كره الحاخامات الأصلانيين أو الأورثوذكس للصهيونية و"دولتها". فقد كبّدت الصهيونية، بحسب الحاخام عمرام بلاو Blau اليهود أضرارًا أكثر مما كبّدهم العرب "فإذا كان العرب قد خسروا أراضيهم وبيوتهم، فإنّ اليهود فقدوا هويتهم التاريخية بقبولهم الصهيونية وما عادوا يشبهون اليهود".

الحاخام إسرائيل دومب: ألسنا نبلغ ذروة التفاهة حين نعتقد بأنّ كلّ سيول الدم والدمع ستقودنا إلى تحصيل دولة قومية حصل عليها الرومانيّون والتشيكيون بنجاح بارز ومن دون كلّ هذه الاستعدادات؟


بقيت مواقف المتدينين من الصهيونية و"دولتها" مدة طويلة من الزمن، حتى ضعفت وتراجعت مع ظهور حزب "شاس" الذي يتزعمه اليوم اليهوديّ شديد التطرّف أرييه درعي، إذ يؤيد هذا الحزب الدينيّ المتطرّف المزج بين الديانة اليهودية ومؤسسات الدولة الصهيونية ويستفيد من المساعدات المهمة التي تُقدّم إلى طلاب المدارس التلمودية، ويدعو أتباعه في المقابل إلى تشجيع "حبّ إسرائيل" ورفض وقف الاستيطان أو التفاوض حول مستقبل القدس. وهو حزب سياسيّ فاعل في الحياة السياسية الإسرائيلية وله قاعدة انتخابية واسعة من يهود السفارديم، ما يجعله رقمًا صعبًا في المعادلة السياسية والائتلافات الحكومية منذ عام 1984، رغم تراجع عدد مقاعده في الكنيست في السنوات الأخيرة، لمصلحة صعود قوى جديدة من اليمين الصهيوني المتطرّف.

العلمانيون في الكيان الصهيونيّ واقعون بين عدوّين مندفعين، الفلسطينيين من جهة أولى، والحريديم من جهة ثانية. ليس غريبًا بالتالي أن يكره العلمانيون المتدينين، رغم "تضامن" الفريقين إبّان حرب الخليج وانهمار الصواريخ العراقية على الكيان والتهديد الافتراضيّ بأن يلجأ العراق إلى السلاح الكيماوي، فقد شعر معظم الإسرائيليين آنذاك بضرورة التضامن، والمشهد نفسه تقريبًا يتكرّر اليوم حيال موضوع غزة. ومع ذلك، يبقى الجمر مشتعلًا دومًا تحت الرماد، حتى في أوقات الخطر و"التضامن بحكم الضرورة"، ويروي نوح عفرون Efron  مثلًا على ذلك سماعه خلال حرب الخليج كلامًا في أوساط طلاب العلوم الاجتماعية في جامعة تل أبيب إذ قال هؤلاء: "إن أفضل شيء بالنسبة إلى بلدنا هو حصول هجوم عراقي بالأسلحة الكيماوية ضد مستوطنة بني براك {مَعْقِل اليهودية الحريدية قرب تل أبيب} قبل أن يتزوّد هؤلاء {الحريديم} بأقنعة جديدة ضد الغاز تناسب الرجال الذين يرخون لحاهم، فهذا يخلّصنا منهم جميعًا وبشكل نهائيّ".

يظهر ابتعاد الإسرائيليين العلمانيين عن اليهود، في الكيان وخارجه. مثلًا، يُمضي اليهود المتديّنون رأس السنة الجديدة (Rash ha-shana) في محاسبة أنفسهم على ما فعلوه في حياتهم، وفي الندم على الخطايا، والمصالحة مع التوراة، في حين أنّ الكثير من الإسرائيليين المهاجرين الذين لم يطأوا عتبة الكنيس يومًا ينظمّون سهرة راقصة على غرار ليلة السنة الجديدة المعروفة بـ Saint-Sylvestre. ويقيم المهاجرون العلمانيون غالبًا بعيدًا عن الأحياء التي يقطنها المتديّنون. وهذا الاتجاه البعيد عن التديّن ينطبق على نحو ثلثي الإسرائيليين. كما يشكل تقديس الثقافة (العامة المنفتحة لا الخاصة الضيّقة) جزءًا من الهوية الإسرائيلية العلمانية التي حلت مكان الهوية اليهودية التقليدية. نصبت الصهيونية فخًا لليهود وعملت على خلق "الإنسان العبريّ الجديد" وحرمت المؤمنين من كل ما هو يهوديّ، وأوهمت الإسرائيليّ العلمانيّ بأنّ صلته بالدين اليهودي غير منقوصة، فهو يعيش في "إسرائيل" ويخدم في الجيش (Tsahal) الذي لا يخدم فيه الحريديّون، وبالتالي هو يعتقد أنّه يهوديّ أكثر بكثير من هؤلاء اليهود "ذوي اللحى الطويلة" الذين يلتقيهم أحيانًا في الشارع.

قدّمت الصهيونية، بحسب أڨينيري، هوية علمانية إلى اليهود بصفتهم أمة، عوض الهوية التقليدية المتشددة المفسّرة بعبارات دينية. حوّلت الرجاء المقدس والاستسلام للمشيئة الإلهية إلى رجاء معزّ بالعودة إلى صهيون كقوة اجتماعية فاعلة قادت ملايين الناس إلى "أرض إسرائيل"، ونقلت لغة يقتصر استخدامها على الشؤون الدينية إلى مجال التعبير العصري والعلماني الذي يسمح بالتواصل في دولة علمانية. فاللغة هي من المقوّمات القومية الأساسية التي تشكل جزءًا من الصهيونية، وتزداد أهمية حين تضعف عناصر أخرى في الهوية اليهودية الجماعية وتترك فراغًا. فالهوية القومية العصرية ترتكز غالبًا على الانتماء اللغوي وعلى الملكية الرومانسية للأرض. في حين أنّ تجديد العبرية لا يندرج بالنسبة إلى اليهود المتديّنين في الاستمرارية اليهودية، بل يشكّل بالأحرى ثورة إضافية ضد التقليد الديني، ومضى بعضهم إلى الكلام على "تدنيس لقدسية اللغة" يطاول تلاميذ المدارس التلمودية. يشدّد مناهضو الصهيونية على أنّ "أرض إسرائيل" واللغة العبرية لا تشكلان على الإطلاق "المخزون القوميّ" الذي نادى به مؤسّسو الصهيونية.

"الخلاص" لا يأتي به إلّا الله، في المعتقد الثابت لليهود المتدينين، ومرفوض لهم بالتالي "استعجال النهاية" أي تسريع خلاص البشر. الزمن التاريخيّ متروك كلّه ولا يقرّره الصهاينة، ويبرز هذا في صلاة اليهود اليومية التي تنطوي على ثقة بالخلاص الإلهي النهائيّ للبشر. لا يمكن أن تأتي علامة التحرير والخلاص إلّا من الله، هو وحده القادر على إنهاء حالة الشتات والمنفى. في حين أنّ الصهيونية تستعجل هذا الخلاص وتنصّب نفسها فوق الإرادة الإلهية، فتعرّض الشعب اليهودي للخطر والتدمير. وثمة سلطات حاخامية تجتهد في أنّ مَنْ يستعجل الذهاب إلى "أرض إسرائيل" للعيش فيها قبل خلاص البشر النهائي فهو لن يحيا أبدًا.

خير تعبير، ساخر بمرارة، يعود إلى الحاخام إسرائيل دومب Domb العريق في مقارعة المشروع الصهيوني إذ يقول في كتابه "التحوّل": "أليس من العبث الاعتقاد بأننا انتظرنا منذ ألفي سنة في قلق لا مثيل له، تراودنا أعمال عظيمة، مردّدين صلوات صادقة، كي نتمكن فقط في النهاية من لعب الدور نفسه الذي لعبه ألبانيّ أو هندوراسيّ؟ ألسنا نبلغ ذروة التفاهة حين نعتقد بأنّ كلّ سيول الدم والدمع ستقودنا إلى تحصيل دولة قومية حصل عليها الرومانيّون والتشيكيون بنجاح بارز ومن دون كلّ هذه الاستعدادات؟". هذه "الاستعدادات" هي في الواقع ما يتنكّبه المشروع الصهيونيّ منذ ستة وسبعين عامًا ارتكابًا للمجازر والإبادات والفظائع، ونطحًا عبثيًا، دمويًا، لجدار التاريخ، لينتهي الأمر عاجلًا أم آجلًا إلى انهيار المشروع بأكمله على رؤوس الجميع، علمانيين ودينيين، في الأرض التي استعجلوا العودة إليها، متجاوزين الوصيّة والعهد، بالغين ما تنبّأ به المرجع اليهودي والعالم ليبوفيتش عن مرحلة وحشيّة (نعيشها الآن) سوف تليها نهاية الصهيونية.

٭ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.