}

مهمة الكاتب بين فيتزجيرالد وهمنغواي

بشير البكر بشير البكر 2 يوليه 2023
آراء مهمة الكاتب بين فيتزجيرالد وهمنغواي
إرنست همنغواي (يسار) وف. سكوت فيتزجيرالد (Getty)
يبدو مصطلح "مهمة الكاتب" وكأنه من قاموس مدرسة الواقعية الاشتراكية، التي وضعت مقاييس ومعايير مسبقة للكتابة، في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وشاركت خلال الحرب الباردة في النزاع المفتوح بين المعسكرين الشرقي والغربي، عندما منحت الثقافة، التي تنتمي إلى فلك الاشتراكية، جملة من المزايا الإنسانية، منها أن الأدب الذي ينتمي إلى هذه المدرسة صاحب رسالة ومهمة جماهيرية، بخلاف الأدب الآخر الذي جردته من هذه الصفة. ولم يكن هذا الموقف خارجًا عن محاولات توظيف الثقافة في النزاع بين المعسكرين، والتعامل معها كسلاح حاد، وهذا ما يفسر الإرهاب الذي خضع له المثقفون في الشرق، بسبب عدم السير على هذا الخط، الذي يقود في أحد دروبه إلى تدجين المثقفين، والذي قابله من جهة الغرب المكارثية، التي نشأت في أميركا في النصف الأول من الخمسينيات، وكانت عبارة عن إرهاب ثقافي، يعتمد توجيه تهمة الشيوعية إلى الآلاف من المثقفين والفنانين، وحتى العلماء مثل أينشتاين.
ورغم أن المكارثية ألحقت ضررًا فادحًا بالثقافة والمثقفين في الولايات المتحدة، فإن النقاش حول مكانة الثقافة لم يكن تحت وصاية الدولة، ولم يتم النظر أو التعامل مع الثقافة وفق معايير قسرية، ولذلك لم يكن غريبًا أن يكون أمر "مهمة الكاتب" في صلب الحوارات بين كتاب أميركيين كبارًا، صنعوا منجزًا أدبيًا مهمًا مثل إرنست همنغواي، هنري ميللر، ف. سكوت فيتزجيرالد. وهنا يمكن التوقف عند الكتاب الهام الذي يضم آراء فيتزجيرالد تحت عنوان "صنعة الكتابة"، والذي نقله إلى العربية المترجم جوهر عبد المولى، وصدر عن "دار حياة".
جمع مواد الكتاب وحرره الكاتب الأميركي لاري فيليبس، ورتب آراء ومواقف وملاحظات الكاتب حول الكتابة، وضمنها في الكتاب الذي يقوده منطق البحث وجمع العناصر والممارسات التي تنتج عنها المؤلفات الأدبية خلال الفترة الطويلة التي تتكون بها، والتي تقود إلى نشأة وتطور كاتب نموذجي من القرن العشرين، مثل فيتزجيرالد الذي ترك أعمالًا عدة مهمة رغم عمره القصير الذي لم يتجاوز 45 عامًا، أهمها رواية "غاتسبي العظيم"، التي أراد لها أن تكون "إنجازًا ابداعيًا مقصودًا"، وشيئًا "جميلًا، وبسيطًا ومنمذجًا بدقة".
الكشف المهم الذي يقود إليه الكتاب هو أن فيتزجيرالد على عكس همنغواي، الذي كان يرفض تحليل خفايا الكتابة، وجد متعة كبيرة في عرض وشرح ونقاش قناعاته الأدبية. وكانت براعته يقظة، ومهنيته نابعة من الحس الوجداني. ويركز على أن هذا الكاتب تميز بإطلاق العنان والسخاء في مشاركة آرائه. باختصار، كان يتمتع بغريزة المعلم الماهر. في داخله شعاع المعلم وحماسه وبساطته في عرض المعلومات على حد تعبير أنتوني باول. وهنالك مسألة خلافية أخرى بينه وبين معاصره وصديقه همنغواي، الذي تقاسم معه تفاصيل الحياة الباريسية في العشرينيات، إلى جانب عدد من الكتاب والرسامين الأميركيين والأيرلنديين والإسبان، مثل الشاعر إزرا باوند، الروائي جيمس جويس، بيكاسو، خوان ميرو. ويتمثل الخلاف بينهما في أن فيتزجيرالد لم يشعر بالندية تجاه الأدباء العظماء، سواء في الماضي، أو في الحاضر، وظل غارقًا في عالم الكتابة، يسعى إلى إيصال أفكاره إلى زملائه من الكتاب. ومنذ البداية لخص نظريته تجاه الكتابة على هذا النحو "يجدر بالكاتب أن يكون كتابه لليافعين الذين ينتمون إلى جيله، وإلى النقاد الذين سيأتون من بعدهم، ولجميع المدرسين بعد ذلك".
اختلف الكاتبان كثيرًا، واتفقا على هدف مشترك، وهو أن يكونا بالنسبة لباقي الكتاب بمثابة الصديق المحب للغير والراغب في مساعدة الآخرين، وكتب همنغواي "أن فيتزجيرالد كان يشعر بالحاجة لأن يشارك مع الآخرين ما قد تعلمه". وهنالك نقطة خلاف أسلوبية يلخصها فيتزجيرالد بقوله "صحيح أن همنغواي سمح لنفسه بتكرار عبارة بين الحين والآخر، لكن ذلك لن يكون مبررًا لي كي أقوم بالشيء ذاته، كلانا يتمتع ببعض الفضائل، وأحد فضائلي أنا هي الإحساس العالي بالإتقان عندما يتعلق الأمر بعملي". ولكنه يعترف له في مكان آخر حين يتحدث يقول "تأليف الرواية يحتاج الى الرشاقة العقلية لكي تحافظ على كامل نمطها في ذهنك وتضحي تضحية قاسية بالأمور الثانوية، كما فعل إرنست في روايته "وداعًا أيها السلاح"".




ويمكن القول إن رؤى فيتزجيرالد وهمنغواي تجسد الأسلوب الأميركي في التعاطي مع العالم، وتتصف الآراء التي يقدمها فيتزجيرالد بأنها متنوعة وواسعة النطاق، فهي مفيدة ومحبطة وباعثة على الإلهام معًا، ولكنه يتحدث بصراحة عن ممارسة الكتابة وقراره في أن يصبح روائيًا حين قرأ أحد أعمال الكاتب ذائع الصيت كان هيو والبول، والتي كانت سيئة للغاية، وقال في قرارة نفسه إنه بوسعه أن يصبح كاتبًا، وبالفعل بدأ العمل وكان كتابه الأول.
مهمة الكاتب يأخذها فيتزجيرالد من جوزيف كونراد صاحب رواية "قلب الظلام"، الذي يتشارك مع همنغواي التأثر. ويروي أن همنغواي هو من نمى في داخله من محادثات تفصيلية النهاية الروائية الخافتة على النهاية الدرامية في ظروف معينة، وأن ذلك انتقل إليهما من كونراد، ولذلك يستشهد بآرائه وأعماله كثيرًا في رسائله. ويلخصها بقوله "إن المهمة التي تلقيها على عاتقي سلطة الكتابة هي أن أجعلك تسمع وتشعر، ولكن قبل كل شيء أن أمنحك البصيرة". وكي ينجح الروائي في كتابة عمل يناسب عصره، شيء يشبه بتعقيده السيناريو. وما يريد قوله في معظم مفاصل الكتاب هو أن الكاتب الذي لا تستحوذ عليه القضايا الكبيرة لا يكون، ببساطة، مؤهلًا ليكون ذا شأن كبير، وما عد ذلك "يمثل نقيض تطلعاتي الأدبية". ويقول إن "العقيدة الأعظم في حياتي أن أترك انطباعًا في النفوس، على ألا يعلم بوجودي سوى أفراد عائلتي، كوني ملزمًا بهم".
ومن الآراء التي تكتسي أهمية هو أن على العمل الأدبي أن يلتمس ذلك "الأثر الذي يأتي متأخرًا في ذهن القارئ، على عكس فن الخطابة، أو الفلسفة، اللذين يضعان الناس في حالة من الاهتياج والتأمل". وبالتالي لا يمكن كتابة الرواية، أو على الأقل كتابة بدايتها، ونحن نضع نصب أعيننا صنع نظام فلسفي مطلق. ويطمح إلى أن ينتهي جل ما يكتبه من روايات في مختلف الظروف والأحوال، في اللاشعور عند القارئ، ويذكر في إحدى رسائله أن بعض الناس روى له بعد مرور أعوام عدة قصة بنجامان بوتن التي كتبها على هيئة حكاية، بعد أن غاب عن ذاكرتهم اسم المؤلف. ومن الآراء الطريفة أنه يرى فن الرواية خدعة تنطلي على العقل والقلب، مؤلفة من عدة عواطف منفردة، كتلك التي يستخدمها الساحر عند تنفيذ الحيلة بيده، أو إخفائه لورقة الشدة، "بمجرد كتابة الأدب تكون قد نسيتها"، وفي كل مرة تشرع في الكتابة تجد نفسك مضطرًا لإتقانها مرة ثانية، ولهذا اختار هذه الصنعة المريعة التي تقتضي كثرة الجلوس والحرمان من النوم في الليل، وعدم الرضى الذي لا نهاية له.
الكتابة الجيدة هي تمامًا كأن تحبس أنفاسك وأنت تسبح تحت الماء، وسواء أكان الأمر حدث منذ عشرين عامًا، أو البارحة، لا بد من أن تكتب بعاطفة مألوفة يسهل فهمها، وإن الكتابة عن شدائد الأمور، كما لو كانت حوادث عادية، هو ما سيضعك على الدرب الصحيح نحو فن الرواية، والسبب الذي يدفع كل كاتب للعمل يكمن في كون الكتابة سبيله في كسب لقمة العيش. وهنالك سبب آخر يمكن تلخيصه في أنه إذا لم تكن لديك القدرة على تأدية دورك من خلال الممارسة الفعلية، لا بد من أن تستطيع على الأقل الكتابة عن التجربة، لأن الكتابة ستمنحك الشعور بالحدة ذاتها، ويمكن أن تصبح مهربًا من الواقع. وأنه تعلم الكتابة لدى ممارسته شيئًا لم يكن يستسيغه. والأمر الذي ساعد عددًا من الكتاب مثل كونراد، هو أنهم نشأوا وهم يمارسون مهنًا بعيدة كل البعد عن الأدب.
ومن الآراء الطريفة أيضًا قوله "كنت أتجنب الكتاب بحذر شديد، لأن لديهم القدرة على إطالة عمر المصائب أكثر من أي أحد آخر"، ذلك أن مزاجية الكاتب تدفعه دائمًا إلى ارتكاب أخطاء لن يستطيع إصلاحها، ولذلك يستحيل العثور على سيرة ذاتية جيدة لأي روائي بارع، والسبب هو أن أنا الروائي تنطوي على شخصيات عدة إذا كانت لديه البراعة الكافية. وقد يملك الكاتب القدرة على سرد مغامراته بإسهاب بعد سن الثلاثين والأربعين والخمسين، لكن المعايير التي يقيس ويقيم بها هذه المغامرات تأخذ شكلها الأخير، دونما رجعة، عند سن الخامسة والعشرين. وكانت غروترد ستاين تحاول أن تعبر عن فكرة مشابهة متحدثة عن الحياة بدلًا من الأدب، عندما قالت إننا نظل نصارع أكثر سماتنا تميزًا إلى أن نقترب من سن الأربعين، عندها وبعد فوات الأوان ندرك أنها تشكل جوهرنا الحقيقي. وفي رأي فيتزجيرالد، فإن الموهبة التي تنضج بسرعة هي الموهبة الشعرية، أما الموهبة النثرية فهي تعتمد على عوامل عدة، أهمها أن يكون لدى المرء ما يقوله، وأن يمتلك أسلوبًا مرموقًا يمكنه من قول ذلك.
وعلى سبيل الطرافة، أيضًا، يعتقد فيتزجيرالد أن على الملاكمين المحترفين والممثلين والمؤلفين الذين يعيشون في ذروة شبابهم وفقًا لأدائهم الفردي أن يكون لديهم خبراء في إدارة الأعمال، ذلك أن الجزء سريع الزوال من الموهبة، عندما يكون مختبئًا بعيدًا عن الكاتب، ومخالفًا له، يبدو في حاجة إلى وصي أجدر من الفرد المتواضع الذي يملكه، والذي عليه تدبر الأمور المالية. وقد يكتب الروائي رواية للروائيين، ولن يجني منها أحد ما يذكر من المال.
في نهاية المطاف، الكتاب في نظر فيتزجيرالد كالأطفال، حتى في الأوقات العادية يعجزون عن صب تركيزهم على عملهم، وهم ليسوا أناسًا حقيقيين، إن فيهم أشخاصا كثرًا، والبارع فقط من يحاول المستطاع أن يكون فردًا واحدًا، ويراعي ضرورة تجنّب التكرار، والحفاظ على الإيقاع.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.