}

عن الترجمة إلى العبرية: الطبيعي والتطبيعي فيها

محمود عبد الغني محمود عبد الغني 27 يوليه 2023

لا شك في أنّ الترجمة زادت أبعادًا أخرى إلى علاقتنا باللغات. خطوط سوداء أخرى رُسمت على جلد حمار الوحش. لم نعد في حاجة إلى طرح أسئلة من قبيل: ما الترجمة؟ ما تاريخها؟ ما الترجمة الجيدة؟ ما شروط نجاح الترجمات؟ فهذه أسئلة كلاسيكية قد تُطرح ويُجاب عنها في المدارس والجامعات، ولكنها لم تعد صائبة أو ناجعة لأن تطور الأسئلة الثقافية، وتشعّب العالم داخل قضايا صراعية ووفاقية، أخرج الترجمة من دائرة المديح أو الإجماع، ولم تعد تُعتبر فضاء وحيدًا للعلاقات السعيدة بين الثقافات، فأصبح يُنظر إليها بالمقابل ويتم فهمها كعملية ملتبسة ومعقّدة وأحيانًا سلبية، بحسب الناقدة والروائية الفرنسية تيفين سامويو (1968) المتخصّصة في رولان بارت، في كتابها الأخير "الترجمة والعنف" (سوي، 2020).

في ضوء هذه الأفكار يمكن مقاربة إحدى حلقات برنامج "متون وهوامش" التي بثها تلفزيون "العربي 2" حديثًا، في موضوع "الأدب العربي مترجمًا إلى العبرية: أين الطبيعي وأين التطبيع؟"، واستضاف فيها كلًا من: أنطوان شلحت، المترجم الفلسطيني والمتخصص في الشؤون الإسرائيلية، وإسماعيل الناشف، الأستاذ الجامعي الفلسطيني، ونائل الطوخي، الأديب والمترجم المصري من العبرية. وقد كانت وجهات النظر متباينة، فأنطوان شلحت من أنصار ترجمة الأدب العبري إلى العربية وترجمة الأدب العربي إلى العبرية، وبرأيه هذه الترجمة تخدم اللغتين والثقافتين والشعبين، وتشكّل معينًا مهمًّا لمواجهة المشروع الصهيوني وإسرائيل. وإسماعيل الناشف يقلّل من شأن العبرية، فـ"عدونا نعرفه من خلال سياساته وفي الميدان ولا نحتاج إلى قراءة أدبه حتى نفهمه"، وبرأيه العلاقات العربية العبرية لا يمكن أن تكون الترجمة فيها وسيلة مُثلى، إضافة إلى أن الترجمة ليست آلية لمقاومة الكيان الصهيوني. أما نائل الطوخي المصري فلم يكن بنفس حرارة أنطوان وإسماعيل، فهو تعلّم العبرية بالصدفة في الجامعة المصرية، بل ويدين لها في إتقانه للإنكليزية وتعرفه على الأدب الإنكليزي، كما عبّر عن ذلك في الصحافة.

قد تقود هذه المواقف من اللغة العبرية، وهي في الأصل مواقف من دولة إسرائيل، إلى عدم تعلّم اللغة العبرية أصلًا، ما دامت الترجمة تهدف، من بين ما تهدف إليه، إلى تعلّم اللغات. إن إسرائيل دولة معزولة دوليًا، وفي المستقبل القريب لن تحظى لغتها بأي اهتمام من طرف متعلّمي اللغات، بل إن أرضها، تلك الأرض المسروقة، لن يطأها أحد، وكذلك ودولتها، تلك الدولة التي اخترعها الغرب، ومجتمعها الذي يبدو اصطناعيًا بل ومزيفًا في كل مكان من فلسطين، وإن وطئت أقدام الأدباء والصحافيين أرضها فمن أجل هجائها. لكن ذلك لا يمنع من كون أن اللغة العبرية أنتجت أشعارًا وروايات. ونذكر في إطار المستجدات المتعلقة بالترجمة مثلًا أن المغربي العياشي العدراوي ترجم مؤخرًا رواية "المغربي الأخير" للكاتب المغربي الإسرائيلي جبرائيل بن سمحون، فاعتبرت قُصاصات الصحف أن هذه الترجمة استئناف للعلاقات الإسرائيلية المغربية. وقبل أسابيع فقط تعزّزت تلك العلاقات باعتراف إسرائيل بالصحراء المغربية. إن هذا النوع الخاص من الترجمة، عبري/ عربي، عربي/ عبري، يخضع لمقاييس مختلفة تمامًا عن مقاييس الترجمات من اللغات الأخرى. فما يصبّ في الصالح العربي/ الفلسطيني هو أن تصبح هذه الرقعة الجغرافية الشاسعة والعريقة فضاء للألسن ولحوار اللغات. لكن، لا بد من مراقبة الصعود والنزول الذي تخضع له الترجمة من العبرية إلى العربية، وبالعكس. لنستأنس بهذا المثال: ترجم المغربي محمد المدلاوي مجموعة من القصص لجبرائيل بن سمحون أيضًا، وأرسلها لجريدة اسمها "الصحيفة"، نشرت واحدة منها، قبل أن تأتي الانتفاضة الفلسطينية الثانية ويتوقف النشر. فمن جهة المشاعر، ما أن يرتكب الإسرائيليون جرائم ويشنون حروبًا على فلسطين، ويدمرون البيوت، ويشردون الأسر، ويغتالون الأطفال، حتى تظهر إسرائيل دولة ظالمة، استعمارية، قبيحة وبشعة. فيرفع المترجم يده عن الكتاب العبري الذي يكون بصدد ترجمته، ويرى القارئ كتابًا عبريًا مترجمًا إلى العربية فيشيح بنظره عنه، ويشعر مدرس اللغة العبرية بالحرج أمام طلابه... لكن، حين يسود السلم وتخمد الانتفاضات، وتفلت البيوت الفلسطينية من التدمير، تنفرج أزمة الترجمة من العبرية إلى العربية، وبالعكس، ويزدهر الأدب ويعود المترجم إلى إتمام ما بدأه، ويعود القارئ العربي إلى المكتبات الواقعية والرقمية للبحث عن "الطريق إلى عين حارود"، على سبيل المثال؛ فيما يعود القارئ العبري إلى البحث عن ترجمات إلياس خوري، أو علاء الأسواني، او محمد شكري في لغته... بالرغم من أن الأستاذ إسماعيل الناشف يستفهم حول، بل ويشكك في، عملية تتبع رحلة النص العربي في الثقافة العبرية.

لا بد أن نذكر في هذا السياق حملة التخوين التي تعرض لها الكاتب والناقد المغربي محمد برادة، حين أراد التوسّط بين دار نشر في إسرائيل والروائي المصري صنع الله إبراهيم قصد ترجمة إحدى رواياته إلى اللغة العبرية، حينها انتفض صنع الله، وعاد برادة خائبًا، بريئًا ومندهشًا من حجم ردود الفعل الصادرة عن عدد من الكتاب المصريين، هو صديق المصريين وشقيقهم الأدبي.
نعود من هذه الوقائع والأفكار إلى طرح سؤال، وهي نبوءة صدرت عن تيفين سامويو: هل في المستقبل القريب جدًّا سنسافر منفردين، كلّ واحد داخل لغته، فلن نحتاج إلى تعلّم اللغات الأجنبية لملاقاة الآخرين؟ تعالج سامويو المسألة من زاوية الترجمة المعلوماتية، لكن سياقنا نحن هو تاريخي واقعي وسياسي.

أما على أرض الواقع، ومبدأ الواقعية هنا مطلوب بإلحاح، فالأمر يختلف كليًا عن لغات دول استعمارية كالفرنسية والإسبانية والإنكليزية. فالاستعمار انتهى بمعنى ما، والمستعمر أخلى المناطق التي كان يحتلها، فالمغرب والجزائر وتونس اليوم دول مستقلة عن فرنسا وإسبانيا والبرتغال، وليبيا مستقلة عن مستعمرها الإيطالي، ومصر عن الإنكليز. لكن فلسطين وإسرائيل في حالة اشتباك دائم، والعرب والإسرائيليون يعرفون لغة بعضهم، ودين بعضهم، بل ولاشعور بعضهم، فكيف نفصل بين أشياء مشتبكة بهذا التعقيد؟ ولا مجال من الهروب من هذه المسألة. فالقضية الفلسطينية حاضرة بشكل غريب في كل الآداب العربية. لنأخذ مثلًا رواية "باب الشمس" لإلياس خوري، فإن مؤلفها أراد تأليف رواية عن حبّ يربط بين يونس الفلسطيني ونهيلة زوجته الباقية بالجليل. ثم دون إرادة منه وجد المؤلف اللبناني أنه يؤلف رواية عن تاريخ فلسطين. وترجمت الرواية إلى اللغة العبرية وصدرت عن دار "أندلس" سنة 2002، بعد أربع سنوات من صدور الرواية عن دار نشر بيروتية (الآداب، 1998). وهي الدار التي سبق أن نشرت "لماذا تركت الحصان وحيدًا" لمحمود درويش، ورواية "عرس الزين" للطيب صالح، و"الخبز الحافي" لمحمد شكري، و"عراقي في باريس" لصموئيل شمعون. ولم يعترض المؤلفون العرب عن هذا الانتقال إلى اللسان العبري الجارح. كما صدرت مؤلفات أخرى لجبرا إبراهيم جبرا، وغسان كنفاني الذي اغتاله الموساد الإسرائيلي في العاصمة اللبنانية بيروت سنة 1972. إن ترجمة رواية "عائد إلى حيفا" ونشرها داخل اللغة العبرية يعيد إلى الوعي الجمعي أشلاء كاتب شاب اغتالته إسرائيل، فانفجر جسده وتناثرت أعضاؤه على الأشجار. الترجمة هنا تدين إسرائيل التي ظلت تنفي رسميًا ارتكابها للجريمة. إن الخوف الذي تثيره فينا إسرائيل قد ينقلب علينا. فلندع أدبنا يتسلّل إلى ثقافتهم، وأدبهم يتسلّل إلى لغتنا. لقد تحوّل العالم تحولًا رهيبًا، وأصبحت اللغات تُعرض مثل السلع، وعلينا أن ندافع عن الترجمة، بغض النظر عن اللغة، حتى لا يُمحى المترجمون، ويصبح دور وساطتهم بلا فائدة، وألا نضع ازدواجية وظيفتهم في خانة الغدر بدل الخيانة، فللخيانة دلالة أخلاقية، فيما يتخذ الغدر لونًا سياسيًا. لنترجم عبريتهم إلى عربيتنا، وليترجموا عربيتنا إلى عبريتنا، فنحن في حالة اشتباك.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.