}

شعارات البعث ضد شعارات "مزرعة الحيوانات"!

منذر مصري 12 سبتمبر 2023
لطالما كان للشعارات حيز كبير في تفكيري، لأنها في الواقع، ذات حيز كبير في حياتي وحياة من حولي. كنت في الـرابعة عشرة من عمري، عندما سمعت أبي القومي السوري يهمهم: "اللعنة... إنهم البعثيون". منذ ذلك التاريخ، 8/3/1963، لليوم، ستون سنة ويزيد، والسوريون عن بكرة أبيهم، أينما تجمعوا، أينما وقفوا في صفّ أو رتل، في مدارسهم، بدءًا من الحضانات، وفي جامعاتهم، وفي ثكناتهم ومعسكراتهم، ويقال أيضًا، في سجونهم، يفتتحون نهارهم بترداد: (شعارنا: أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة). (أهدافنا: وحدة حرية اشتراكية). السؤال: "لأي غاية؟" الجواب الأول الذي سيخطر على بال الجميع: "الإخضاع"! إلّا أن هذا على مصداقيته (اصطلاح بعثي)، يخفي غاية أعمق وأبعد، وهي إفقادها معناها! تحويلها إلى مجرد كلمات طنانة فارغة يستحيل فهمها واقعيًا، وبالتالي تحويلها إلى أكاذيب، أكاذيب معممة! وكأنه صحيح، يحدث ذلك تطبيقًا لمقولة جوزيف غوبلز وزير الدعاية النازية: "اكذب اكذب اكذب حتى يصدقك الناس"، حتى تصير للكلمات معان معاكسة ومقلوبة. فالأمة العربية الواحدة، دول إقليمية متفرقة ومتضاربة المصالح، لا رسالة موحدة لديها، بل رسائل متعددة ومضادة! والوحدة هي الانفصال والعداء وربما التآمر بين أنظمتها حتى وإن كانت شعاراتها واحدة، ويحكمها حزب واحد! ولا أدري إن كان مكانها المناسب هنا صيحة ياسر عرفات ذات يوم: "يا وحدنا"! الأمر الذي أوحى لي بخطأ ما كان يردد على أنه مقولة استعمارية بديهية: (فرّق تسد)، فما اختبرناه، إن على مستوى البلد الواحد، أو على مستوى ما يطلق عليه الأمة العربية، الممطوطة من الخليج للمحيط، هو: (سيّد تفرّق)! والحرية هي الانصياع الكامل للسلطة، ولسيطرتها التامة على حياة الناس ومصائرهم. أمّا الاشتراكية، فهي، القضاء على أي فاعلية اقتصادية، اجتماعية، سياسية، ثقافية، في المجتمع! وبالتالي جعل الكذب التفسير الوحيد، ليس لهذه الشعارات فحسب، بل لكل شيء يقال، أو يسمع، أو يرى! ما يذكّر، وإن بطريقة كاريكاتورية، بما قاله الشاعر ممدوح عدوان، في الاجتماع الذي جرى بين أعضاء الجبهة الوطنية التقدمية وبعض المثقفين السوريين عام 1979: "إنهم يكذبون حتى في نشرات الطقس". أي وعلى نحو أعمق، ينام السوريون ويستيقظون، يتزوجون وينجبون أطفالًا، يعيشون ويموتون، وهم في حالة انعدام مطلق للمعنى، وانعدام مطلق للغاية! أو، ربما من الأصح أن أقول، هذا ما يرسمونه لهم، وما يسوقونهم إليه. لأنهم في اعتقادي لم ينجحوا تمامًا في تحقيق ذلك!

سورية ليست حالة خاصة على الإطلاق فيما يخص الشعارات. فلكل الدول والأمم شعاراتها، وإن كانت في كثير منها غير ذات أهمية! إلّا في الدول التي تحكمها أنظمة شمولية ديكتاتورية فإن للشعارات دورها الكبير والهام. وذلك كما صورها الكاتب الإنكليزي جورج أورويل، 1903-1950، في روايتيه الشهيرتين اللتين ختم بهما حياته القصيرة: (مزرعة الحيوانات- 1945) و(1984- 1949). ففي الأولى ما إن تنتصر ثورة الحيوانات على صاحب المزرعة السكّير وتطرده منها، حتى تعلن وصاياها الثورية السبع: 

1-  كل من يسير على قائمتين عدو.

2-  كل من يسير على أربع قوائم، وكل من يطير، صديق.

3-  لا لارتداء الملابس.

4-  لا للنوم على الأسرة.

5-  لا لشرب الخمر.

6-  لا لقتل حيوان لحيوان.

7-  كل الحيوانات متساوية.

والتي مع تطور الأحداث، واستفراد الخنزير نابليون بالسلطة بعد تصفيته، ليس لمنافسيه، لأنه لا يوجد منافسون له، بل لرفاق دربه! راح بعض هذه الوصايا يتعدل، كما حدث للوصية الخامسة التي صارت: "لا لشرب الخمر لحدّ السكر!". مما يذكر، ولو على نحو معكوس، بتسلسل آيات تحريم الخمر في القرآن. الى أن انمحت وزالت جميعها، سوى شعار واحد بقي بعد أن تم تطويره على نحو عبقري: "جميع الحيوانات متساوية. لكن هناك حيوانات متساوية أكثر من بقية الحيوانات"!

في (1984) يغوص أورويل في تضاعيف وطبقات الدولة الشمولية 


إلّا أن (مزرعة الحيوانات) بطابعها الرمزي، الواضح التأثر بـكتاب جونثان سويفت (رحلات جاليفر) 1715، لم تكف أورويل للتعبير عن كل ما يجول في خاطره، ويريد تنبيه العالم لخطورته غير المحدودة، بخصوص النظام الشمولي الديكتاتوري، ولذا قام بكتابة روايته الأشد عمقًا وقسوة ويأسًا (1984)، التي ينتهي بطلها المعاند والمتمرد، إلى تصديقه، بل إلى رؤيته بأم عينه: 2+2= 5! وليكتشف، ودمعتان تجريان بمحاذاة أنفه، كيف أنه، لأربعين سنة، كان يسيء فهم كل شيء، دون مبرر، وأنه الآن قد شفي، وصار...: (يحبّ الأخ الأكبر)!

في (1984) يغوص أورويل في تضاعيف وطبقات الدولة الشمولية التي عرف العالم حينها النماذج الكبرى منها، كألمانيا الهتلرية، والاتحاد السوفياتي تحت حكم ستالين، وإيطاليا الفاشية، وإسبانيا فرانكو، التي حارب أورويل فيها في صف الجمهوريين، وبرتغال سالازار، محاولًا كشف الأسس الفلسفية لكيان هكذا دولة، على المستوى السياسي والأخلاقي والمستوى اللغوي أيضًا، حيث تعمم وزارة الحقيقة (وزارة الكذب) اللغة الجديدة، التي تأخذ الكلمات فيها معاني مختلفة عما كانت عليه سابقًا، لا بل، معاني معاكسة، كما سبق أن ذكرت عند حديثي عن شعارات البعث! ولكن هنا يقال ذلك بوضوح وصراحة، دون الحاجة إلى أن يكتشف الناس بأنفسهم:

1-  الحرب هي السلم: يذكرني هذا بحوار جرى في إحدى جلسات الثلاثاء، قبل أن تنطوي، خلال السنوات العشر التي خلت، وما جرى فيها من تقلبات في الآراء والمواقف، وانفكاك عقد صداقات حميمة، كانت بمستوى صداقات حياة! هي وجميع جلسات المثقفين في اللاذقية، حول ما إذا كانت سورية في حالة حرب أم سلم مع إسرائيل؟ فكان رأي أحد الحاضرين، وهو شخص مشهود له بالمعرفة والحكمة، بأنها في حالة حرب، وذلك لأن للحرب، كما قال، وجوهًا كثيرة. فكان أن أجبته: "وللسلم أيضًا وجوه كثيرة"! ما اضطره لأن يهز رأسه علامة الموافقة.

2-  الحرية هي العبودية: على فظاعتها، هي عبارة غنية بالتأكيد! تفسيرها المباشر، بأن البشر يجدون حريتهم في عبوديتهم. وأن العبيد هم الأحرار. وبالتالي هي دعوة لتقبل العبودية. وغير المباشر، بأن البشر عبيد لحريتهم، وبأن العبودية مصير البشر المحتم. على نحو يذكر، رغم اختلاف المقصد، بمقولة سارتر: "نحن لسنا أحرارًا بأن نكون أحرارًا"!

3-  الجهل هو القوة: عكس المقولة الشائعة (المعرفة هي القوة). أي هي حثّ على الجهل، عندما تكون جاهلًا تكون قويًّا! من منا لم يلتق ببعضهم في حياته، وعانى منهم ما عانى، الجهلاء الأقوياء؟ إلّا أنها، كشعار سلطوي، يمكن فهمها بأن جهل الناس قوة للحاكم. هل هذا من تعاليم نيكولا ميكيافيلي، أم ماذا؟

وبدوري، أنا منذر مصري المواطن السوري المثالي! أو لأقل شبه المثالي، كانت لي، وما تزال، شعاراتي الخاصة. ولسبب، أظنكم تستطيعون بسهولة تخمينه، كانت برمتها عن الشعر! منها: "الشعر معنى عالم لا معنى له"، و"علينا أن نبعد الكذب عن الشعر كما نبعده في الحياة" الذي تحول مع الأيام، كما حصل مع بعض شعارات (مزرعة الحيوانات)، إلى: "الشعر توثيق دقيق للأكاذيب"! و"النثر أفضل طريقة لكتابة الشعر". وأظن الآن أن أحدكم سيأتي ويقول: "ما جئت به يا أخي، ليس شعارات! إنه عبارات وأقوال". إلّا أن للشعارات، كما ذكرت عن الحرب والسلم، كما لكل شيء، أشكالًا وتعابير كثيرة ومتنوعة، ومثالي على ذلك، أنه خلال مشاركتي في تأسيس حركة (معًا) من أجل سورية حرة وديموقراطية، في حزيران/ يونيو 2011، تُرك لي، بما أني شاعر الحركة! مهمة تسميتها، فكان أن اقترحت، دون كثير تفكير: (معًا). فاجأني وقتها سرعة موافقة الجميع على هذا الاسم، هم الذين اختلفوا حول كل قضية، كبيرة أو صغيرة، طُرحت. إلّا أني لم أكتف بشرف التسمية، بل أيضًا أعترف بأني قمت بصياغة شعار الحركة، الذي لم يحظ بأقل قدر من الاهتمام، حتى إنه لم يرد في تعريف مركز كير- كارنيغي للشرق الأوسط بالحركة، المتوفر لليوم على شبكة الإنترنت، وما أتمناه منكم هو أن تقرأوه بقليل من التمعن والكثير من سعة الصدر:

"لا معنى لأن نكون أحرارًا ما لم نكن معًا. ولا معنى لأن نكون معًا ما لم نكن أحرارًا".

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.