}

الأدب النسويّ: رُهاب المصطلح

إبراهيم طه إبراهيم طه 15 سبتمبر 2023

أمّا قبل: عيب!
الكتابة في طبعها لا تكون إلا عن قلقٍ، ومن غضبٍ، بغضّ البصر عن نبضها ونبرها. لم أكتب كي أنحاز إلى رأيٍ جاهز، أو أرافع عن موقف معلّب. إنّما أسجّل توصيفًا، أو فهمًا، يتّكئ على قرائن نصّيّة تراكمت كالجبال في الذاكرة العامّة. أدمغُ بها، وبها أحاول أن أدفع بعض المهاترات العائمة المائعة. أرى وأسمع. ولا يروقني ما أرى، ولا يشنّف أذني ما أسمع. بعض "المثقّفين" الجهّل، أو الأدعياء، يحمل قلمًا، أو يصعد منبرًا، وبجرّة قلم، أو بجملة مبحوحة، يشطب ما اجتهد فيه مثقّفون حقيقيّون وأبدعوا. هكذا بمنتهى الوقاحة والصلف يمحون دون أن يرتدّ لهم رمش. يغضبني ما أراه وما أسمعه. يغضبني ويقلقني فأكتب.

طرد المصطلح: ثلاث حجج
سمعتها كثيرًا وقرأتها كثيرًا في الآونة الأخيرة. يقودني قدري أحيانًا إلى أن أحضر ندوة أصغي فيها إلى مرافعات عنتريّة، أو أقرأ مقالًا يُرغي فيه صاحبه ويُزبد وهو "يتحفّظ من مصطلح أدب نسويّ"، أو ينكره جملة وتفصيلًا[1]، يطردونه من لغتهم ورحمتهم، ومنه يفرّون كما لو كان المصطلح لعنة تتبعهم أينما حلّوا، وأينما ارتحلوا. وقد ترغي هي وتزبد و"تتحفّظ"، مثله بالضبط، وهي تدفع عن نفسها هذه اللعنة. وفي الأمر مفارقةٌ عجيبة. والغريب العجيب أننا ما زلنا نسمع مثل هذه الهرطقات حتى يومنا هذا، وقد ظننّا أنّ ثقافتنا قد تجاوزتها منذ عقود. يتعوّذون منه ويبدّلونه من وسم إلى وصم، من حالة توصيف موضوعيّة إلى غلط أو عيب أو حرام! وحين تنصت إلى حجّتهم في هذا "التحفّظ"، وتجتهد في إدراك ما يحتجّون به، لا تجد ما يُعقل. ولن تجد. حججهم واحدة ثابتة. هي نفسها الجمل المتآكلة المتهالكة، لا تتبدّل ولا تتعدّل إلا في بعض الصياغات:
(1) يقول غافلٌ: "الأدب هو أدب بصرف النظر عن جنس كاتبه"... هذا فريق قد أجاءه جهلُه المدقع إلى خلط غريب بين ما تكتبه النساء، ككيانات بيولوجيّة، وما تكتبه النسويّات والنسويّون ككيانات أيديولوجيّة. الجهل المطبق بالفرق بين الحالتين هو أصل هذا الخلط الغريب بين الأوراق والمفاهيم. ليس الحديث عن الأدب النسائيّ، المنسوب إلى جنس النساء، أو الأدب المرأويّ، الذي قد يُعنى بشؤون المرأة وقضاياها الخاصّة، وإنما عن مقولات الهيمنة والمقاومة، عن الممارسات الفحوليّة التي تقمع المرأة، وعن آليات المقاومة التي تتبعها، وينبغي أن تتبعها. قد تكتب المرأة أدبًا ذكوريًّا، وقد يكتب الرجل أدبًا نسويًّا مثلما تكتب المرأة بالضبط، وقد يتقدّمها ويسبقها[2]. النسويّة أيديولوجيا، كالشيوعيّة، أو القوميّة، مثلًا، يدين بها الرجل ويعتقدها مثل المرأة.




ومتى كانت الأيديولوجيا حكرًا على جنس دون غيره؟ وهكذا كانت النسويّة، التي تنهض على مفاعلي الهيمنة والمقاومة، تحارب الجندريّات، أو الجنوسات القسريّة التي تفرضها المجتمعات وترسّم فيها أنماط الفهم والسلوك وتُسقطها، مثل الفرمانات، من فوق إلى تحت.
(2) ويكتب جاهلٌ: "الأدب نشاط إنسانيّ بغضّ النظر عن مادّته ومضمونه"... وكأنّ هناك أدبًا لا يُعنى بالإنسان أصلًا، بل بمخلوقات سقطت بغتة من السماء السابعة، أو صعدت إلينا من أعماق المحيطات. والطفل فينا يعلم أنّ الحيوانات، التي يجعلها الكتّاب في مراكز نصوصهم أحيانًا، هي في المحصّلة الأخيرة أمثولات للإنسان. كيف لا يعقلون أنّ ما تفعله المرأة في أدبها "النسويّ" هو تحصيلٌ لإنسانيّتها التي يصادرها الذكر الفحل؟! لا أعرف ولا أفهم ولا أعقل كيف رضينا بمصطلحات نحن وضعناها وقعّدنا قواعدها مثل "أدب اجتماعيّ"، لا لشيءٍ إلا لأنه يرصد شؤون المجتمع، أو "أدب سياسيّ" لأنه يُعنى بالسياسة ومصاحباتها أو "أدب دينيّ" لأنه موكّل بشؤون دينيّة، ثمّ لا نقبل بعد ذلك أن يكون لنا "أدب نسويّ" يُعنى بآلام المرأة، وحمولة أنوثتها الثقيلة، وآمالها وسعيها إلى التحرّر من كلّ أنساق الهيمنة. يبدو لي أنّ الذكورة والفحولة المعشّشة في خلايانا، التي تسير في دمائنا وعروقنا وأنساقنا الثقافيّة، ترفض أن يكون للمرأة شيءٌ تتسمّى به وبه تتّسم، شيءٌ خاصّ يحمل جنسها وحمولة جنسها الثقيلة[3].
(3) ثمّ يطلع علينا منكِرٌ وقح ليسأل: "هل هناك "أدب رجوليّ" حتى نجعل الأدب نسويًّا؟!" أولًا: هذه حجّة خبيثة تسلّط الرجل وتجعله المثل الأعلى. عليه تُقاس الأمور كلّها في حضورها أو غيابها، في وجوبها أو بطلانها. إذا لم يكن للرجل أدب خاصّ به فلماذا يكون للمرأة؟! ثانيًا: نعم، هنالك أدب ذكوريّ بصفة أو بأخرى. هناك أدب ذكوريّ يهمّش دور الأنثى، واعيًا أو غير واعٍ. هنالك أدب ذكوريّ يُمنح الذكر فيه الدور والموقف واللغة، وتُحرم المرأة فيه من شكلها وفعلها، ويُحرّم عليها صوتها وقولها. هنالك أدب ذكوريّ فحوليّ، لكنه لا ينفضح إلا في الأدب النسويّ... ما زلت أذكر بعض الترّهات الفحوليّة التيسة، والاستعلاءات الذكوريّة، حين قالوا عن الأدب النسويّ وهم يستهزئون: "أدب الروج"، أو "أدب الأظافر الطويلة". أو كما قال أحدهم، واسمه لا يحضرني ولا أريده أن يكون حاضرًا في ذاكرتي أصلًا، حين سئل ذاك البعيد عن الحركة النسويّة قال: "لا أعرف الحركة النسويّة إلا في فراشي". ثالثًا: قد يستغني الظالم عن أيّ منظومة اصطلاحيّة تعينه على ظلمه. أمّا المقهور المقموع فهو في مسيس الحاجة إلى كلّ منظومة اصطلاحيّة لغويّة تختزل وجعه وتصدّره، بها يصرخ ويعبّر عن الظلم اللاحق به.

أمّا بعد: "الأدب النسويّ" مسألة تجنيس
"الأدب النسويّ" اصطلاحٌ توافقيّ توليفيّ. وهو توافقيّ لأنه توليفيّ. ليس فيه غلطٌ ولا عيبٌ ولا حرام. ولا يُعقل أن يكون فيه لأنه مسألة تجنيس في مبعثه ووجهته. لم يسعَ أحد لا إلى إنصاف المرأة الكاتبة، ولا إلى وصمها بالدونيّة، في هذا الاصطلاح. التجنيس، مثلما أقرأه، هو قضيّة تصنيف ينهض على توصيف ذي منحى سيميائيّ لتحصيل مزيد من الفهم الدقيق والعميق[4]. ليس في التجنيس حصرٌ ولا قسر. وكلّنا يدرك ليونة المساحة المطاطيّة وسيولتها التي تصول فيها الأنواع الأدبيّة، تصول وتجول وتتناسل.




حتى كدنا ننتقل في توصيف الأجناس الأدبيّة وتعريفها من النقيض إلى النقيض، من نقاء النوع (Pure genre) إلى اللانوع (Anti-genre)، من حدّ النقاء النوعيّ إلى حدّ الصراع لأجل البقاء النوعيّ. ما زلت أذكر جملة الشاعر الكبير محمّد مهدي الجواهري عن قصيدة التفعيلة "ليس بهذا ينهدّ عمود الشعر العربيّ"! صحيح لم ينهدّ عمود الشعر أمام انتفاضات القصيدة الحديثة، بأنماطها المتجدّدة التي لا تتوقّف، لكنّ العمود تصدّع وتشقّق. حجّتنا التي تشفع للتسمية الاصطلاحيّة، "أدب نسويّ"، هي الحجّة نفسها التي تُساق في تعريف أيّ ظاهرة أدبيّة تصل الى حدّ التجنيس الأدبيّ النوعيّ. وهي تتأسّس على معيارين:
(1) الشكل والبنية. معيار الأشكال والبنى أفرز ثلاثة أنواع كبرى منذ أرسطو، وهي الشعر والدراما والسرد. وهذه الأجناس الكبرى نفسها تشعّبت في شعاب كثيرة، فصارت أنواعًا وأنماطًا وفروعًا وفسائل. والأنواع تداخلت وتناسلت وولدت أنواعًا فرعية هجينة، وما زالت تولد.
(2) المضمون والجهة الفكريّة. وهو معيار جعلنا نصنّف الأنواع وفق مادّتها وفكرها وتوجّهاتها. وهكذا صارت عندنا مأساة وملهاة وقصيدة مدح ومسرحيّة اجتماعيّة ورواية سياسيّة وهكذا...
وما كان للمصطلح "أدب نسويّ" أن يشيع بهذه القوّة، رغم "تحفّظات" هؤلاء، لولا أنه اصطلاح توليفيّ في أصله يجمع المعيارين في واحد. أعني أنّ "الأدب النسويّ" مصطلح يُحيل إلى خصوصيّة المادّة الأدبيّة بقدر ما يُحيل إلى جماليّته المميّزة في الشكل والأسلوب والبنية. وهكذا كان "الأدب النسويّ" يستمدّ شرعيّته أو أحقّيّته الاصطلاحيّة من المضامين بقدر ما يستمدّها من أدوات وتقنيّات تعبيريّة تتناغم وتتساوق مع مادّتها[5]. هذه التوليفة، بين المادّة والأدوات، هي هي التي صيّرته توافقيًّا ينتشر في العالم، في العالم كلّه. وقلّما نجد مصطلحًا أدبيًّا واحدًا يؤلّف بين هذين المعيارين مثلما يفعل "الأدب النسويّ".

*ناقد وأستاذ في جامعة حيفا.

هوامش:


[1] يسلّط د. محمد صفّوري مزيدًا من الضوء على تأصيل المصطلح وتقلّباته في كتابه الشامل: دراسة في السرد النسويّ العربيّ الحديث (1980 ـ 2007). (حيفا: مكتبة كلّ شيء، 2011)، ص 11 ـ 22. (يقع الكتاب في537 صفحة. وهو في أصله أطروحة كُتبت بإرشادي لنيل درجة "دكتور في الفلسفة" من قسم اللغة العربيّة وآدابها في جامعة حيفا).
[2] حول هذا الموضوع تحديدًا أشرفتُ قبل سنتين على أطروحة دكتوراة مدعّمة بالتنظيرات الكبرى، مؤثّثة بالتفاصيل الدقيقة، محميّة بالنقاش النصّي العميق المقنع... د.  أماني هوّاري. المظاهر النسويّة في أدب الرجلدراسة في أعمال الكاتب يوسف إدريس. (جامعة حيفا: كليّة الآداب ـ قسم اللغة العربيّة وآدابها، 2021). (وهي في 430 صفحة). 
[3] Ibrahim Taha. "'Beware Men, They Are All Wild Animals' – Arabic Feminist Literature: Challenge, Fight and Repudiation", al-Karmil: Studies in Arabic Language and Literature 27, (2006), pp. 25-71.
[4] Ibrahim Taha. “Text-Genre Interrelations: A Topographical Chart of Generic Activity”, Semiotica: Journal of the International Association for Semiotic Studies 132-1/2, (2000),pp. 101-119. 
[5] Ibrahim Taha. "Swimming against the Current: Towards an Arab Feminist Poetic Strategy", Orientalia Suecana LVI, (2007), pp. 193-222.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.