}

أزمة العقل في اللغة والأدب: التفكير التقريبيّ والقياسيّ والقطعيّ

إبراهيم طه إبراهيم طه 7 مارس 2024
آراء أزمة العقل في اللغة والأدب: التفكير التقريبيّ والقياسيّ والقطعيّ
(Getty)
 

أحسّ بتردّدات هذه الأزمة حتى في نقاشي مع طالباتي وطلّابي في مساقات الدراسات العليا في الجامعة. حتى هناك أشعر بذبذبات هذه الأزمة التي تتعمّق باطّراد. وهي أزمة في النظر إلى اللغة والأدب، وإن كان بعضهم يجعلها عامّة تشمل كلّ المجالات المعرفيّة. هي أزمة لأنّ أسباب الفكر الإنتاجيّ قد تعطّلت. وأول أسبابه هو العقل. والعقل السويّ إمّا أن يكون استهلاكيًّا وإمّا أن يكون إنتاجيًّا. وبين حدّي الاستهلاك والإنتاج تمظهراتٌ عديدة للعقل، كأن يكون ناقلًا أو ناسخًا أو شارحًا أو مفسّرًا أو توصيفيًّا... والعقل الإنتاجيّ قد يستعمل كلّ هذه التمظهرات ولا ينعكس. العقل الجامح والمشاكس والنافر هو أصل التفكير المختلف. والاختلاف والخلاف أصل الإنتاج المعرفيّ. أول شروط الإنتاج المعرفيّ هي الاحتفال بآليّات توليد المعرفة، وليس الاحتفاء بالمعرفة نفسها. وكنت قد عاينت هذه الجزئيّة الأخيرة بشيء من التفصيل في كتابي الأخير "القبض على الدلالة: مقدّمة للنقد السيميائيّ التوليفيّ في الخطاب العربيّ" (2022). أمّا هذه المقالة فهي تؤسّس لكتاب جديد أعاين فيه ثلاثة أشراط لأزمة العقل الإنتاجيّ في اللغة والأدب هي: التفكير التقريبيّ والقياسيّ والقطعيّ. ومن المرعب أن تصير هذه الأنماط من التفكير أنساقًا ثقافيّة معتمدة.

(1) التفكير التقريبيّ. وهو يبدأ من الاعتقاد بالترادف، ما يسمّيه سيبويه "اختلاف اللفظين والمعنى واحد"، والمقصود به التطابق التامّ بين لفظتين في المعنى إلى درجة الصفر لا أكثر من ذلك ولا أقلّ. لكنّ الأصل في اللغة هو الاختلاف والخلاف لأنها نشاط توافقيّ. والأمر يخلو من المفارقة، يخلو من أيّ مفارقة، لسببين اثنين: الأول بنيويّ، ما يعني أنّ التوافق على لفظٍ ما يُضمر احتمال الاختلاف على مستوى القوّة والفعل. والتوافق البنيويّ هو اتفاق على خيار واحد بين خيارات لفظيّة أخرى واردة ومباحة تُتيحها بنية الشيء أو المسمّى نفسه. والثاني سياقيّ، ما يعني أنّ التوافق هو حالة سياقيّة مركّبة يحكمها مبدأ التبدّل والتغيّر. والتوافق السياقيّ هو اتّفاق ظرفيّ مؤقّت متغيّر وفقًا لتبدّلات الزمان والمكان والأهواء. وإذا تعدّدت احتمالات التوافق على لفظة معيّنة، لأسباب بنيويّة وسياقيّة، فلا عجب إذًا أن نعطي للسكّين أسماء مختلفة مسحوبة من صفات السكّين ووظائفها وأشكالها المتعدّدة. ولمّا كنّا لا نتّفق على شكلٍ واحد للسكّين ووظائفها واستخداماتها فلا بدّ أن تتعدّد أسماؤها. وتعدّد أسمائها مردود إذًا إلى تعدّد صفاتها وأشكالها ووظائفها. ما يعني في المحصّلة الأخيرة أنّ اللغة تنشأ وترتقي من تحت إلى فوق، من الواقع إلى اللغة، من واقع متعدّد مركّب متبدّل إلى لغة تتناغم معه وتتساوق تمامًا مع تعدّده وتبدّلاته. هذا هو الأصل. وهكذا كان عندنا الموسى والشفرة والساطور والخنجر والسيف... وكلّ واحد منها يُحيل إلى شيء مختلف.
والأمر نفسه ينسحب حتى على لفظتي السكّين والمُدية اللتين جعلوهما مثالًا أعلى للترادف. الأولى قرآنيّة، وهي لغة أهل الحجاز، والثانية هي لغة أهل اليمن. قال ابن فارس في "مقاييس اللغة" والسكِّينُ على وزن فِعِّيل لأنه يُسَكِّنُ حركةَ المذبوحِ به. والمُدْيَة هي الشفرةُ، والذبيحةُ إذا ذُبحت بها كان ذلك مداها، أي غايتها ونهايتها. وهكذا نرى أنّ اللفظتين صفتان مختلفتان في الإحالة إلى شيءٍ لا نتّفق لا على شكله ولا حجمه ولا صفاته ولا وظائفه ولا استخداماته. أمّا السكّين بمعنى التسكين حسب ابن فارس، فهي أخصّ لأنها تتحدّث عن أثر فيزيائيّ محسوس مباشر قد تُحدثه آلةٌ فاعلة على مفعول به. أمّا المُدية فهي أعمّ وأشمل لأنها تتحدّث عن مصير نهائيّ قد يبلغه المذبوح. وهذا التباين وحده كافٍ، رغم التقارب بينهما، لنفي الترادف بمفهوم التطابق الكلّيّ التامّ في المعنى. ثمّ إنّ اللفظتين، السكّين والمُدية، من المفردات الوصفيّة التي ارتقت إلى مرتبة الإسميّة، أعني ارتقاء التوصيف إلى تسمية. ما دام الأمر توافقيًّا لا أستغرب أن يأتي يوم يتبدّل فيه السياق ليتّفقوا على صفة جديدة تحيل إلى "السِكّين" كأن يسمّوها "القِطّيع" مثلًا لأنها قد تكون للتقطيع العامّ وليست لتسكين المذبوح فقط أو تبليغه أقصى غايته ومداه. والتقطيع قد يكون في الجامد مثلما يكون في الحيّ. "فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ۖ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ" (يوسف: 31).

أول شروط الإنتاج المعرفيّ هي الاحتفال بآليّات توليد المعرفة، وليس الاحتفاء بالمعرفة نفسها


حين نجعل الأفعال أتى وأقبل وجاء وحضر وقدم ووافى وورد ووفد كلّها مترادفة بمعنى واحد فعلاقتنا باللغة مأساويّة. وحين نجعل لفظة "أبتِ" مطابقة تمامًا للفظة "أبي" في قصيدة "أنا يوسف يا أبي" لمحمود درويش فقد جعلنا في النصّ حشوًا ونظرنا إلى المعنى بصفة تقريبيّة عامّة من باب "الحسن أخو الحسين"، والمعاني يشبه بعضها بعضًا. يقول إبراهيم أنيس إنّ الذين "أنكروا الترادف من القدماء كانوا من الأدباء النقّاد الذين يستشفّون أمورًا سحريّة ويتخيّلون في معانيها أشياء لا يراها غيرهم. وفي هذا من المبالغة والمغالاة ما يأباه اللغويّ الحديث في بحث الترادف". وهذا كلام ليس دقيقًا أو صحيحًا لا في جانبه التاريخيّ ولا في جانبه اللغويّ. ثمّ لماذا تستكثر على الأدباء والنقّاد أن يستشفّوا معاني لا يراها غيرهم ما دام اللفظ نفسه يفرض ذلك؟! المطلوب هو الإصرار على التباين والبحث عن التمايز الدقيق بين المفردات وإن بدت متقاربة في معانيها.

(2) التفكير القياسيّ. وهو يعني وجوب القياس على أصل، ومن لا يفعل فقد ضلّ وكفر. بهذا المفهوم يصير التجاوز والتجريب ضلالة وكفرًا. ما زلنا نذكر جملة أبي الفرات محمد مهدي الجواهري ناسفًا كلّ محاولات التجريب في الشعر العربيّ، عند منتصف القرن العشرين، حين قال ساخرًا "ليس بهذا ينهدّ عمود الشعر العربيّ!"، الأصل في التجريب هو التجاوز. والتجاوز لا يعني الشطب والمحو بل يعني التراكم والتجاور. لا أحد يقدر على محو شعر المتنبّي مثلا من الذاكرة المتأخّرة. ليس هذا هو السؤال. السؤال مقلوب: هل نسمح لتجربة المتنبّي أن تشطب تجارب المتأخّرين مثلما ادّعى الجواهري؟! لا أحد يمكنه أن يلغي تجربة نجيب محفوظ في الرواية، ولا أحد يمكنه أن يلغي تجربة يوسف إدريس في القصّة، ولا أحد ايضًا يقدر على محو تجربة محمود درويش في الشعر. لكنّ ثلاثتهم لا يستطيعون تهديد التجارب اللاحقة أو تعريضها للخطر. لا مجال لأيّ تجديد بدون تجاوز يعقبه تراكم وتجاور. كلّ تجريب تحدٍّ لمعتمد هو أصل. كلّ تجريب في الحقيقة هو تحرّش بأيقونات معتمدة. هو تحرّش شرعيّ وضروريّ لأيّ إبداع وخلق. حين يصرّ بعض السلفيّين في أحكامهم على المفاضلة أو القياس على مرجعيّة أبويّة سلطويّة تتراجع الجرأة وتتآكل الرغبة في التجريب، تهزل وتتعطّل.

(3) التفكير القطعيّ. ونعني به الحكم القاطع والجازم في التقييم. الحكم القطعيّ اليقينيّ يمنع التواصل والحوار ويعزّز مفهوم السلطة النازلة. أعني أنّ الأحكام القطعيّة الجازمة تقطع السبل أمام أيّ حواريّة محتملة بين ضدّين أو حتى مختلفين. النبر الجازم في الحكم القطعيّ فحوليّ في طبعه ومنحاه، لا يُجيز التأتأة والشكّ والتفاكر، ولا يجيز السؤال ولا المساءلة. الحكم القطعيّ، المأنوس في أنساقنا الثقافيّة، يتّكئ على ثنائيّات كلاسيكيّة إفحاميةّ مثل: الصواب والخطأ، الحلال والحرام، المسموح والممنوع، القريب والغريب، المعقول والمخبول... وهذا التقاطب الثنائيّ يعتمد اللونين الأسود والأبيض ويلغي أيّ حالة بينيّة أخرى يتيحها منطق الترجيح والتخمين والظنّ والمقارنة والمفاضلة. الحكم القطعيّ سلطويّ قَبَليّ هرميّ في منحاه. وهذه قد تكون سلطة الكاتب، وقد تكون بنفس القدر بالضبط سلطة القارئ. قد تكون سلطة كاتب يحرص على أن يؤثّث نصّه بكلّ المفاتيح الممكنة، المتاحة وغير المتاحة، لفضح المعنى. وقد تكون سلطة كاتب سلّطه قارئٌ مقموع ونصّبه وجعله المرجعيّة الوحيدة للقياس. وقد تكون سلطة قارئ قمعيّ صادر النصّ وقطعه عن كاتبه كما لو كان النصّ يتيمًا من غير أب ولا أمّ ولا سياق.
الأصل في النقد الأدبيّ تخمينٌ وترجيحٌ يتبعه اقتراحٌ وليس القطع والفصل والجزم. الأصل في النقد الأدبيّ هو الاجتهاد وليس النقل عن كاتبٍ قد كتب فقصد. وكأنّ اللغة نفسها كافية وحدها لاحتواء القصد!! أتوخّى أحيانًا أقصى درجات الحيطة والحذر في محاضراتي الجامعيّة وأعوذ بالصياغات الظنّيّة ليأتي بعضهم ويحوّلها إلى صياغات قطعيّة ينسبها إليّ بالقوّة. النبر الحاسم الجازم يعيب التأتأة والشكّ والتفاكر. حين يخشى الناقد المخاطرة والمغامرة يلجأ إلى نقد توصيفيّ محافظ تحميه المحايثة وتقيه شرّ المخاطرة والمقامرة في التجريب. النقد التوصيفيّ المحافظ، رغم الحاجة إليه، قد يصير جُنّة تحمي الناقد من احتمالات المساءلة. وهكذا قد يؤثر الناقد أن يظلّ في حماية النصّ فيلجأ إلى تلخيصه وتوصيفه وشرحه. الكاتب الأبويّ البطرياركيّ قد يفضي إلى قارئ بطرياركي فحوليّ مثله بالضبط. والنصّ بينهما مسلوب الإرادة والمشيئة، فإمّا أن يكون مردودًا في نسبه إلى أب كاتب أو إلى أب قارئ.

في الختام: يرعبني رعبُهم
هذه أشراطٌ ثلاثة لأزمة خطيرة مرعبة. وهي ليست في اللغة والأدب بل هي في النظر إليهما. هي أزمةٌ لأنها تعبّر عن عقليّة مرتعبة محافظة إلى درجة الفزع من كلّ تجريب أو جديد. هي أزمة لأنها تعكس ذهنيّة التمسّك بالنظام الهرميّ النازل. هي أزمة لأنها تكرّس الفحولة المرعبة. حين سُئل أحد "النقّاد" المعروفين عن الحركة الأدبيّة النسويّة قال: "لا أعرف الحركة النسويّة إلا في فراشي"!!!

*ناقد وأستاذ جامعي فلسطيني.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.