}

الشهيد: سياقات فداءٍ تراكمتْ على مدى التاريخ

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 16 سبتمبر 2023
آراء الشهيد: سياقات فداءٍ تراكمتْ على مدى التاريخ
باتيس الكنعاني يواجه الإسكندر المقدوني
(حوارية مع مقال الزميل أحمد عبد الحليم "من تحرّر الجماعة إلى تحرّر الذات" المنشور في "ضفة ثالثة" بتاريخ 11 سبتمبر/ أيلول 2023).

ما فرض عليّ محاورة مقال الزميل أحمد عبد الحليم المُشار داخل القوسيْن أعلاه إلى عنوانه وتاريخ نشره في ملحق "ضفة ثالثة"، هو حشْرُ الزميل فعل الفداء المؤدي إلى الاستشهاد (في فلسطين على وجه الخصوص) داخل مصفوفات أفعال يائسة تُقدِم عليها ذواتٌ تائهةٌ بِحاجة إلى "الاعتراف بها، عبر مديحها، أو أي تعبير يدلّل أنّها مرئية وموجودة".
وهو، للحق والتاريخ، حشْرٌ تعسفيٌّ كاسح، فاتَه النّبش في سياقات الفِداء وتجلياته على مرّ الزّمان.
بدايةٌ، وقبل الخوض في النقاش وتفعيل قيمة الرأي والرأي الآخر، ينبغي إقراري بـ"حُسن نوايا" الزميل أحمد عبد الحليم، وهو، كما وصفه الزميل الآخر أشرف الحساني في مقاله "أحمد عبد الحليم: في مدارات الجسد المُحتجز"، المنشور، أيضًا، في (ملحقِنا) ملحق "ضفة ثالثة" بتاريخ 25 أغسطس/ آب 2023: "كاتب وباحث وناشط سياسي" له عدد من الإصدارات البحثية والإبداعية المهمة، دفع ثمن مواقفه المعارِضة الناهضة من وعي جذريٍّ مختلف، أدت إلى قضائه زهاء ثلاثة أعوام في سجون مصرِ ما بعد انكفاء ثورة يناير وانطفائها (مصر انقلاب يوليو 2013). ولكن (حسن النوايا) قد لا يكفي أحيانًا، ولا يفي بمطالب التأمّل الرصين العميق في ظاهرة ما، أو فعل إنساني ما، وهو ما وقع فيه عبد الحليم الشاب المتوقّد، باندفاعته البحثية (التفكيكية) الواعدة.

السياق العام
لا يمكن فصل أي فعل مقاومة، سواء أدى إلى الاستشهاد، أو الإصابة بِجروح، أو الأَسْر، عن سياقه العام، وهذا السياق العام حكاية طويلة ممتدة؛ ففي حالة المقاومة العربية الفلسطينية للمحتلِّ الصهيونيّ/ الإسرائيليّ/ اليهودي، ثمّة سياق عام قوميّ ووطنيّ ودينيّ وإنسانيّ، وهو في أحلك تَموضعاتِه، لا يمكن أن يوضع في سياق الفعل اليائس الذي قد تُقدم عليه ذواتٌ لم تنل "اعترافًا مرئيًا، كونها ذواتًا ناقصة"، أو تتصدى له ذواتٌ تعاني "من الاضطراب النفسيّ والمشاعريّ".
كما أن العمليات البطولية من قبيلِ دهس جنود إسرائيليين، أو قتل مستوطنين، ليست من النوع الذي في إمكاننا أن نصفه، من دون أن يرمش لنا جفن، بقتل النفس: "تعد قتلًا للنفس، انتحارًا قدريًا بشكل وبآخر" (عبد الحليم، المقال). ثم لا يلبث الزميل أن يقول: "يرى بعضهم في قتل نفسه خطوة في مسيرة تحررية جماعاتية لا بد من خطوها، على الرغم من أن هذا الفعل المقاوم انقسم إلى تضحية تأتي ضمن إطار فكري تنظيمي يسعى بشكل استراتيجي إلى التحرّر، وأُخرى تأتي مُطلقة من دون أي رهان سياسي، أو تحرري"، فارضًا ممايزةً غير موجودة بين العمليات التي يتبناها أحد فصائل المقاومة، وبين إقدامات الفِداء (الفردية) بحسب توصيفه، رغم أنها جميعها فردية وجماعية في الوقت نفسه؛ فردية بمعنى أن الفرد الذي يتقدّم لتنفيذها يكون قد وصل إلى لحظة تماهي جسده وسيرورته ووجوده، مع منظومته المعرفية والقيمية والمعتقدية والأخلاقية، وبما قد يرتقي إلى معارج اليقين (المطلق)، وهو ما يحتاجه (كُل) منفذ لفعل من أفعال المقاومة، سواء كان منتميًا إلى جهة، أو حركة، أو فصيل، أو جناح عسكري، أو لم يكن، وجماعية بمعنى أن إنْفاذَها هو تربّصٌ جمعيٌّ، على أن من يتقدم نحو مرافئها هو من تتاح له اللحظة المواتية من بين كُل باقي المجموع الذي قد يكون شعبًا، أو أمّة، أو عِرقًا، أو أصحاب أرض، أو حق، يدافعون عن شعبهم وأمّتهم وعِرقهم وأرضهم وحقهم، والحق هنا تتعدد وجوهه: الحق بالكرامة، الحرية، العدالة، وحتى الحق بالرفاه وانتزاع أغنى أسباب الوجود.
سياقٌ تراكميٌّ ليس حكرًا على شعبٍ دونَ غيرِه، فعله الفيتناميون الشماليون في مواجهة المعتدي الأميركي، باذلينَ (فِداء) ذلك زهاء مليون شهيد (سأوضح لاحقًا أن فكرة الشهيد والشهادة ليست حكرًا علينا)، وفعله الفرنسيون في غير مرحلة من مراحل وجودهم، آخرها في سياق الدفاع عن عاصمتهم باريس ضد الاحتلال النازي، وفعله المؤابيون في سياق دفاعهم عن مدنهم مؤاب وحسبان وغيرهما، حتى أن الملك المؤابي ميشع ذبح ولديه وصلبهما على أسوار قلعة صموده وصمود شعبه ليرهب المعتدين العبرانيين، وفعله أهل غزة حين واجهوا الإسكندر الأكبر عام 332 قبل الميلاد، وأذاقوا من طوّع نصف العالم المعروف أيامه الأمرين بقيادة القائد الكنعانيّ الفلسطينيّ باتيس، وأصابوا الإسكندر بجرحيْن، أحدهما بسيف باتيس الذي كان في مقدمة المدافعين عن المدينة، والآخر عندما دخل عليه جنديٌّ كنعانيٌّ مدّعيًا الخيانة حتى أصبح وجهًا لوجهٍ أمام الإسكندر فبادره بسيفه وأصابه قبل أن يجهز عليه حرس القائد المقدونيّ. الجنديّ كان أكيدًا من استحالةِ نجاتِه، ولكنه أقدم على فعل (الفِداء) هذا لعيون غزّته وكرامة أهله وشعبه وحاضر وجوده ومستقبل هذا الوجود. دافع أهل غزة عن مدينتهم باستبسالٍ وفداء عزّ نظيره لم يختبر الأكبر مثيله، إلا في صُور المدينة الكنعانية الأُخرى.



مِثْلَ أي تطوّر بشريّ/ Human evolution آخر؛ جسديّ، أو معرفي، أو سلوكي، أو قيمي، تحققت تجليات الفِداء عبر مكابداتٍ وتشظياتٍ وتفاعلاتٍ وتجاربَ خاضتها شعوب الأرض وحضاراته الحيّة، وصولًا إلى الإيمان بقيمة الفِداء، ووصول الأفراد (كل فردٍ على حِدة) إلى قناعة يقينية راسخة أن الموت من أجل الأُسرة، أو العائلة، أو الجماعة، أو أبناء قرية، أو مدينة، أو بلد/ وطن، أو قوم/ قومية، هو، بشكلٍ، أو بآخَر، حياة، ليست حياته الشخصية، ولكن حياة من سوف يأتون من بعده، من دون أن تُرْجفه، أو تُقعده فكرة أنه لن يكون شاهدًا على قيمة فِدائه، ولن يتنعّم بجوائزِها، مكتفيًا بفكرة أن أبناءه وأبناء شعبه من الأجيال اللاحقة سوف يحصدون المقابل المرجوّ والمؤمّل من وراء تضحيته وفِدائه.

موروثٌ ووقائع
الأم في موروثنا تزغرد لابنها الشهيد رغم حزنها على فقدانها فلذة كبدها. وفي موروثنا نهتف أننا نحب الحياة ولا نعشق الموت، لكنه أضحى في ظل الاحتلال والاختلال سلّمنا للحياة: نُحِبُّ الحَيَاةَ إِذا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلا، وَنَزْرَعُ حَيْثُ أَقمْنَا نَبَاتًا سَريعَ النُّمُوِّ، وَنَحْصدْ حَيْثُ أَقَمْنَا قَتِيلا. الأم تزغرد والناس والأحزاب والفصائل (تزفّ) الشهيد و(تزفّ) خبر استشهاده لِباقي المجموع، وآلاف الشباب غيره ينتظرون دورهم في الشهادة، ليس، كما أسلفنا، زهدًا بالحياة، ولا "من دون أي أُفقٍ مُشجع"، كما يورد أحمد عبد الحليم في مقاله، ولا يمكن وصف ما يُقدم عليه الشهيد الذي يقتُل فيُقتَل "أنّه يقاوم من دون رهان سياسي"، كما في مكان آخر من المقال، فأولًا: يسبق الرهانُ التحرريُّ الرهانَ السياسي، وثانيًا لا تشبه حرب الوجود التي يخوضها الفلسطينيون ضد من يحتل وجودهم وتاريخهم ورموزهم وأرضهم وسماءهم وبحرهم وبرّهم، أيَّ صراعٍ سياسيٍّ بين أحزاب، أو جهات، أو دول، أو حتى قارّات. ثم من قال إن الفداء هنا من دون أفق سياسي؟ فمجرّد إبقاء جذوة المواجهة/ الصراع/ الحرب بين المحتل (الواقع تحت الاحتلال) والمحتل (القائم بفعل الاحتلال) متّقدة، هو، على المدى البعيد، فعل سياسي، وإرهاب المستوطنين الموجودين فوق أرضنا بسبب الاحتلال، وإبقاء شعورهم بالاستقرار قلقًا مضطربًا، وإيصال رسالة إليهم أن طمأنينتهم زائفة هو مطلب سياسي، حتى لو تحقّق كلُّ ما تقدّم بالحدِّ الأدْنى.
وفي موروثِنا، أيضًا، وأيضًا، حُبِّرت آلاف القصائد في مدح الشهيد وَتبجيلِ الشهادة، حتى إن بعض هذه القصائد تجعلُ مِن فعلِ الشهادة فتنةً تسرّ الروح وتبهجُ اليقين: "فَتَنْتَ روحي يا شهيد، علّمتها معنى الخلود/ شوّقتها إلى الرحيل، علّمتها معنى الصمود". وَجالت روايات وقصصٌ ومسرحياتٌ وأفلامٌ سينمائيةٌ وأعمالٌ تشكيليةٌ في آفاق الشهادةِ والشّهيد. كيف لا "ونفس الشريف لها غايتان ورودُ المنايا ونيلُ المـُنى"؟ كيف لا "وما العيش لا عشتُ إنْ لم أكن مخوفَ الجَناب حرام الحِمى"؟

خليل الحاوي لا يريد الموت رغمًا عنه 

لم ينفِّذ المصريان سليمان خاطر، ومحمد صلاح، والأردني أحمد الدقامسة، والسّوريون سليمان الحلبي، وجُول جمال، وخالد أكَر، والتونسيّ مَيلود بن نجاح، وغيرهم... وغيرهم، عملياتهم البطولية، ليس بدءًا من اغتيال كليبر قائد الحملة الفرنسية على مصر، ولا انتهاء بقتل جنود صهاينة يسرقون حدود بلادنا فلسطين، من باب التشاوُف، أو ضياع البوصلات، أو عدم القدرة على تحديد أواليات تعاملهِم مع أجسادِهم، وخياراتِ أرواحِهم.

بين الشهادة والانتحار
يتحدث عبد الحليم في مستهلِّ مقاله عن "الموت من خلال قتل النفس، أو ما يسمى الانتحار، احتجاجًا على المنظومة الحياتية التي وُضِع داخلها الإنسان التابع". ثم في مكان آخر: "قتْلُ النفس يدخل حسب عالم الاجتماع الفرنسي دوركايم، تحت مسمى الانتحار القدريّ/ Fatalistic suicide، وهو الذي يفضّل فيه الإنسان الانتحار على أن يستمر في وجوده داخل حياة اجتماعية متمثلة في "النظام والمجتمع" اللذين يراهما أدوات قمع وتسلّط".
والحقيقة، كما أراها، أن الانتحار ليس فرعًا من فروع الشهادة، والشهادة ليست اسمًا منمّقًا مجمّلًا للانتحار، والمنتحِر غير الشهيد، غيره تمامًا.
طبعًا، أنا لا أقصد الانتحار المعبّر عن موقف: انتحار الشاعر اللبناني خليل حاوي، على سبيل المثال، تعبيرًا عن رفضه الاجتياح الإسرائيلي لبيروت في عام 1982، وما من داعٍ للخوضِ في الروايات الأُخرى حول الدوافع العميقة (المُفترضة) لانتحارِه (قصة إصابته بالصّرع على سبيل المثال)، أو انتحار الروائي الياباني (الأشهر ربما) يوكيو ميشيما (كيميتاكي هيراوكا) عام 1970، على طريقة الساموراي بِبقر البطن، احتجاجًا على تبعية بلاده للإمبريالية الغربية، وفي مقدمتها أميركا (في حين عدّه آخرون "عملًا سخيفًا ومقززًا ويائسًا من مبدعٍ موهوب، لطالما كان مشاكسًا ومثيرًا للجدل، لم يتحمّل الكهولة وزحْفَ الشيخوخة وتراجُع موهبته وقدراته")، أو حتى انتحار التونسي محمد البوعزيزي (الذي تطرّق له عبد الحليم في مقالٍ له حمل عنوان "جسد مكان جسد... كيف تغيّرت نظرتنا إلى الموت؟"، منشور، كذلك، في ملحق "ضفة ثالثة" بتاريخ 3 أبريل/ نيسان 2022) بإضرامه النار في جسده (الجامِعَ انتحارُه بين يأسِ البطالة وانعدامِ الأُفق، وقوّة تبنّي موقفٍ نهائيٍّ في لحظةٍ فارقة)، وأمثلة أُخرى كثيرة.
على كل حال، لعلّ في مقولة "فتّشوا وراء كلِّ مُنتحِر" ما يجيب عن بعض أسئلتي وأسئلة زميلي حول موجبات الحياة ومآلات الدروب نحو الموت.




على أن الشهادة أَمْر، والانتحار أمرٌ آخر، ناهيكم عن الانتحار المنهزِم الذي يروّج له، على سبيل المثال، من يعارضون حماس في غزة، تحت ذريعة انعدام آفاق العيش، فما بالكم بالحياة؟ والشعور بالضغط الخانق بسبب خضوعهم لحكمِ جهةٍ مقاومةٍ تفترضُ قيافةً ما، وموقفًا ما، وإرادةً ما، ممّن يقيمون معها في قطاع محاصر (مع تأكيد رفضي لكلِّ ما يدخل في نطاق التدخّل في خيارات الناس السلوكية والقيمية المنْدرجة في إطار حرياتهم الشخصية وطبائعهم المتباينة، وهذا غير المحاولات المُستميتة، من جهة بعينها، لإظهار عبث المقاومة ولا جدوى الفِداء، ولعلّكم تتذكّرون في هذا السياق عبارات من مثل: الصواريخ العبثية، والعملياتُ العبثية، والصمودُ العبثيّ، و"أنا مسامح بصفد، ومتنازل عن حقوقي بفلسطين"، والتنسيق الأمنيّ، وما إلى ذلك).
مثالٌ آخر يتعلّق بالانتحار الجبان الذي يُقدم عليه جنود الاحتلال ممّن يصابون بالرعب لمجرّد فكرة أنهم قد يُرسَلون إلى مدن الضفة الغربية، من دون إسقاط احتمالية تبنّي بعضهم، بانتحارِهم، وجهةَ نظرٍ حول مشروعية (دولتهم). على أن الشهادة/ الفِداء/ المقاومة أمرٌ والانتحار أمْر، وهل من (عبثٍ) تطلق الأدبيات العسكرية لقب (انغماسيّ) على من يتسلّل خلف خطوط العدو ويفجّر نفسه؟ ثمّة فارق جوهريّ؛ نفسيّ وميدانيّ وأخلاقيّ وموضوعيّ ومعتقديّ وتقييميّ ولُغويّ ودلاليّ، بين قولِنا: "عملية استشهادية"، وقولِنا: "عملية انتحارية".
الشهيد ليس تابعًا، بل متْبوع (يركّز عبد الحليم في كثير من مقالاته على الإنسان التابع)، وليس عن وهنٍ وانكفاء ويأسٍ وانطفاءِ جذوةِ حياةٍ اختارَ دروبَ الشَّهادة.

خَلْطٌ مُؤْذٍ
لا بد أن يترك وجعًا ما خلطُنا، في مقال واحد، وتحت عنوان واحد، بين الشهيد والشهداء والشهادة، وبين من يتعرّون على مواقع التواصل لإثبات الذات، أو يقتلون أنفسهم على الهواء الافتراضيّ مباشرة للسبب نفسه. يقول الزميل في المقال: "في عصرنا الحالي (عصر الثورة المرئية) يحاول الموت من أجل الذات أخذ نصيب من تمثلات قتل النفس. وهذا بعد اجتياح وسائل التواصل الاجتماعي الأشخاص والعلاقات، الفضاءات العامة والخاصة. الجميع الآن موجود، يعرض ذاته، عبر الصور، الفيديو. الجميع في انتظار تقييم الآخر له. الامتنان والإعجاب والانبهار لما يقدمه. هذه المشاعر المُوجهة للذات تُكملها، لا سيما الذوات التائهة التي في حاجة إلى الاعتراف بها، عبر مديحها، أو أي تعبير يدلّل أنّها مرئية وموجودة". ويتحدث في السياقات نفسها عن "الذات الناقصة"، والتعرّي لإثبات الذات، وتسويق الذوات التائهة لنفسها، وعن "الاضطراب النفسيّ والمشاعريّ"، و"اللهاث وراء كل شيء، بهدف إعجاب الآخرين"، ويقول في الجزء الأخير من مقاله: "ساعتها تُفكر الذات (خصوصًا في حالة إن كانت مُشوهة ومُضطربة وتتعرض للنَبذ والرفض)، في قتل نفسها، الخلاص من الذات، التضحية المُطلقة. وقتها هذه التضحية المُطلقة، والتي ستحقق تفاعلًا كبيرًا من الآخرين، كثير من الحب والتعاطف والرثاء لذات لم تجد حاضنًا آمنًا لها، وهذا، ربما، يكون دافعًا قويًا للذات المُضطربة والشاعرة بالنبذ لقتل نفسها، أو دافعًا لعرض عملية قتل نفسها على مرأى الجميع، مثلما فعل بعض المُنتحرين، في عرض قتلهم لأنفسهم في بثٍ مباشر على مواقع التواصل الاجتماعي"! متطرقًا، مرّة ثانية، لـ"الفردانية" (علمًا أنه، في مقال آخر له، يحمل عنوان "في التفكيك الناعم للمقاومة"، منشور في "ضفة ثالثة" بتاريخ 4 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، يصف هذه الفردانية أنها: "مظهرٌ من تمظهراتِ الحداثة الغربية التي جاءت بطريقة، أو بأخرى إلى منطقتنا العربية، أهم تلك الطرق كانت في بزوغ عصر النيوليبراليّة، والانْفتاح الاقتصادي المُعولَم"). كل هذا، وغيره، يورده أحمد عبد الحليم بعد أن يستهلّ بضرب أمثلة المقاومين الفلسطينيين، والبطل المصري محمد صلاح، ما يؤسّس لسوء فهمٍ منطقيٍّ بسبب خلطهِ هذا. سوء فهم لا يُؤاخَذ عليه الواقعينَ به، بل مُسبّبه.
المفارقة أن الزميل، وللإنصاف، يتبنّى في مقال له استشهد به في مقاله موضوع حوارنا، رأيًا حول ما أسماها "هبّة القدس" وتخلّصها من (الفردانية)، يختلف عمّا يتبنّاه من تفكيك في مقاله هُنا، يقول هُناك: "معركة هبّة القدس، وفي القلبِ منها مقاومتها والوحدة الداخلية والخارجية التي شُوهدت، كانت بمثابة إحياء كامل للقيم التحرريّة، والرجوع إلى تطهير أرواحنا من السكون تحت قيود الفردانيّة" (عبد الحليم، "في التفكيك الناعم للمقاومة").

تراكميةُ مفهومِ الشَّهادة
بعيدًا عن "المُجالِد" gladiator في الحضارة الرومانية، وقريبًا من تمجيد المسيحية للشهداء، ووضعهم بمصاف القديسين، تمامًا كما فعل الدين الإسلامي بحسب ما تؤكد ذلك عشرات الآيات، ومنها: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا} (سورة النساء، آية 69)، حيث الصدّيقون في الوعي الإسلامي يعادلون القديسين في الوعي المسيحي، وليس بعيدًا عن ليونيداس الأول ملك إسبرطة السابع عشر، وابن الملك أنكسندرداس الثاني الذي يُعتقد أنه من أسلاف هرقل، حيث واجه ليونيداس ومعه نخبة من جنده آلاف الجنود الفرس، وواصلوا دفاعهم عن يونانهم حتى قضوا (استشهدوا) جميعهم في معركة "الثرموبايلي"، بعيدًا، وقريبًا، من مختلف ما تقدَّم، تراكَمَ مفهوم الشهيد، وتدرّجت قيمته، على مدى آلاف الأعوام الماضية.
على وجه العموم، تفيد المصادر التاريخية والأنثروبولوجية أن مفردة (شهيد) اُستخدمت من البهائيين والسّيخ والهنْدوس، وغيرهم من أبناء الحضارات والدّيانات والطّوائف المختلفة، للدّلالة على من قُتِلوا من أبناء هذه الجماعات البشرية، دفاعًا عن معتقداتهم. كما استُخدمت المفردة من التونغمينغهوى والكومينتانغ الصينية، للإشارة إلى من قُتل من أتباعهم خلال ثورة شينغهاي.
كما اسُتخدم مصطلح "شهيد"، بحسب أصحاب الاختصاص، في سياقات غير دينية للإشارة إلى شخص قُتل بسبب قضية سياسية، أو اجتماعية، أو غيرها من القضايا.

يوكيو ميشيما والانتحار الغاضب 

فهل يعقل أن يخلّد لنا المؤرّخون التُراقيّ (الهندو ـ أوروبيّ) سبارتاكوس/ Spartacus، بوصفه أشهرَ مُجالِدٍ في التاريخ، كان يتسلّى القياصرة والأباطرة خلال فترةِ عبوديّته بمُجالداته ونزالاتِهِ المُميتة التي كانت تقام، حتى تمرّده وفرارِه، من باب التسليةِ وتزْجية وقت الجمهور المتعطّش للدم المُنساب ببشاعةٍ فوق الحَلَبات؟
نأتي، الآن، لِمن يرهنونَ أجسادهم وَأرواحهم، وَعموم أنفسهِم، من أجل قضية، لعلّها اليوم من أعدل قضايا العصر، ألا وهي القضية الفلسطينية، لِنرجمهم بالموت (العبثيّ) الفاقد لسياقاتهِ السياسية والقِيَمية. هُم، وحتّى لو نفذوا عملياتهم البطولية تحت عنوان "الذئاب المُنفردة"، جزءٌ من سياقٍ عام يرى خلالَه أبناءُ شعبِهم أن القوةَ والنّزالَ والمواجهةَ والمُجالدة، هي السبلُ الوحيدةُ للنصر والتحرير: تحرير الأرض والإنْسان.
في سياق تجليّات مفردة شهيد Martyr في اللغة الإنكليزية، فهي تحمل معاني عديدة، ومنها، أولًا: الشخص الذي يعاني من الموت طوعًا بدلًا من التخلي عن دينه a person who willingly suffers death rather than renounce their religion. وثانيًا: الشخص الذي يُقتل نيابةً عن معتقد، أو مبدأ، أو سبب، كأن نقول: لقد جعلها موتها شهيدةَ قضيةِ العدالة الاجتماعية a person who is put to death or endures great suffering on behalf of any belief, principle, or cause: Her death has made her a martyr to the cause of social justice. وثالثًا: في وصف الشخص الذي يقضي بعد معاناة ممتدة من مرض عضال، أو حتى صداعٍ مُزمنٍ، أو غيره a person who undergoes severe or constant suffering: The patient was a martyr to severe headaches.
وفي سياق استخدام المفردة بوصفها فعلًا يُستخدم مع المفعول به، فإن الشهيد بحسب تصاريف اللغة الإنكليزية، ومتوالياتِ وعيِها، هو الشخص الذي يُعدم بسبب دعمه معتقدًا ما، أو قضية to persecute for supporting a belief or cause, especially by putting to death. كما يمكن استخدامها (مفردة شهيد) لوصف نهاية فردٍ ما بعد معاناتهِ من عذاب وجوديٍّ قاتل (نفسيٍّ أو جسديّ)، وفي حالة موت أحدهم تحت التعذيب: to torment or torture؛ (شهيد العذاب، أو شهيد التعذيب).
الشهداءُ السوريون (وقد بلغوا مئات الآلاف) كانوا على وعي أن حرية بلدهم وخلاصهم من جلّادهم سيعقب موتهم، ولن يكونوا شهّادًا عليه، ولكنّهم رضوا، رغم ذلك، أن يكونوا شهداء من أجل الحرية المُقبلة، والكرامة التي سوف تأتي، والخلاص المُنتظَر.
بقي أن أقول إن تطوّر وسائل الاتصال والتواصل (ثورة تكنولوجيا المعلومات)، وإتاحة المعارف حول تاريخ الدول والحضارات والجماعات بين يديّ الناس، كل الناس، على امتداد البَسِيطة، أنتجَت أجيالًا قادرةً على أن تكون قائدةَ نفسِها، راعيةَ مواقفِها، وحيدةَ خياراتِها وشكل خلاصها وحياتها ومماتها؛ مُستشهدة، أو مُنتحرة، أو معلّقةً جرسَ أسئلة لا تنتهي في مسيرة نضال لا ينتهي إلا بانتهاءِ أسبابِه. وأن تتجلّى بوصفِها جداولَ بحثٍ عن شجرٍ سريعِ النموّ، تزرعه شعوبنا الجريحة حيثما حلّت، وأيْنما ارْتحلت.
الشهادة ليست "كبسولةَ موتٍ رحيم"، ولا حلًّا يائسًا للخلاص من الجسدِ الصامدِ فوق أرضِ الحق، وتاريخِ الحقيقة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.