}

هل اختفت الكتابة المسرحية من مكتبة الأدب؟

رشا عمران رشا عمران 22 سبتمبر 2023
آراء هل اختفت الكتابة المسرحية من مكتبة الأدب؟
(Getty)
لا أظن أن نوعًا من أنواع الكتابة الأدبية ترك أثره بي أكثر من سلسلة المسرح العالمي التي كانت تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون في الكويت خلال سبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن الماضي. كانت نسخ السلسلة تصل إلى بيتنا بشكل دوري (لا أعرف السبب حتى الآن)، وكنت أول من يتلقاها وأشرع في قراءتها، ولا أتوقف حتى أنتهي منها؛ كان يضاف إليها ما يصل إلى بيتنا من متفرقات مسرحية صادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية، وتلك الصادرة عن وزارة الثقافة السورية، ومتفرقات مسرحية أخرى كانت تضاف إلى رصيد مكتبة البيت عبر إهداءات شخصية لوالدي. كنت، وأنا أقرأ المسرح، أعيش كنجمة حقيقية، إذ لطالما تخيلت نفسي أجسد شخصية استثنائية من الشخصيات التي أقرأها: أقف على خشبة المسرح، أؤدي دور واحدة من الشخصيات التي أعجب بها (دائمًا كانت هي البطلة)، ثم أنحني أمام الجمهور الذي يصفق بقوة ويحييني ويلقي عليّ الزهور. لم يحدث هذا طبعًا، لم أتعلم التمثيل، ولم أعمل كممثلة، ولم أصبح نجمة، لكنني احتفظت بشخصية درامية رافقتني طيلة حياتي، ولم تفارقني حتى اللحظة، واحتفظت بوهج لطالما تخيلت أنه يحيط بي ويمنحني مسًا من بريق ذاكرة من أبدعوا شخصيات المسرح العظيمة؛ وربما أيضًا ترك ذلك أثره على كتابتي الشعرية، خصوصًا في العقد الماضي، بعد الثورة السورية وما حدث فيها، حيث تتجلى الدراما مع العبث، وحيث تحولت الوحدة والعزلة عندي إلى شخصية فنية وشعرية بكينونة لها مواصفات بالغة الخصوصية: درامية ومتوحشة بقدر ما هي مؤنسنة ويومية، وموغلة في القدم بقدر ما هي آنية وعابرة. ولعل هذا ما لفت فيها انتباه مخرج مسرحي فرنسي اشتغل عليها وحولها إلى عرض مسرحي جعلني واحدة من مؤدياته على خشبة المسرح؛ كما لو أنه يحقق لي حلمًا قديمًا لم أسع يومًا إلى تحقيقه بنفسي؛ لكن من قال إن الأحلام تموت وتفنى؟ هي فقط تختبئ في مكان ما لا نعرفه أصلًا لتعاود الظهور حينما يحرضها أحد على ذلك.

أين اختفت الكتابات المسرحية في العالم؟ أتساءل دائمًا وأنا أرى الكم الهائل من الروايات العالمية التي تترجم سنويًا إلى اللغة العربية، وبشكل أقل الكتب الشعرية والفكرية؛ لماذا بات من النادر جدًا ترجمة أعمال مسرحية عالمية حديثة إلى لغتنا العربية؟ لماذا أساسًا توقفت الكتابة المسرحية العربية؟ وأين النصوص المسرحية الهامة؟ لماذا لا يوجد في وقتنا الحالي، عربيًا على الأقل، أسماء تكتب النص المسرحي بحضور لافت؟ ولماذا انتهي ذلك مع رحيل سعد الله ونوس، آخر المسرحيين العرب المعتد بهم؟ وهنا نتحدث بالتحديد عن النص المسرحي المكتوب والمطبوع، لا عن المشخص على الخشبة، حيث يتميز منه في وقتنا الحالي المسرح التجريبي. وربما يمكننا القول هنا إن مفردة تجريبي لم تعد تعبر عن ذاتها بعد أن أصبح هذا النوع من المسرح هو السائد عربيًا تقريبًا في مقابل عروض مسرحية تقليدية ركيكة، أو كوميدية ممجوجة، لا تتمتع بأية رصانة فنية، أو إبداعية.




في تاريخنا العربي الحديث، ظهرت أسماء مهمة ومؤثرة تختص بكتابة المسرح، أو تميزت به، إضافة إلى تميزها بكتابة أنواع أخرى من الفنون الأدبية، مثل توفيق الحكيم، ويوسف إدريس، وجورج أبيض، ويعقوب صنوع، وسعد الله ونوس، وطبعًا أبو خليل القباني، رائد المسرح العربي. يضاف إلى من سبق كثير من الأسماء العربية الأخرى التي كتبت للمسرح نصوصًا جيدة، لكن لم يكتب لها الانتشار كسابقيها. وحتى اليوم، لم تتوقف المكتبة العربية عن تقديم كتب في الفن والنص المسرحي، غير أن الترويج لها لا يعول عليه (هل لأن الإنتاج المسرحي المكتوب أقل في الجودة عن باقي الأنواع الأدبية؟)، وشهرتها وشهرة كتابها أقل بكثير من شهرة كتاب الرواية والشعر. طبعًا، ينبغي القول إن عدد كتاب المسرح كان وما زال أقل بكثير من عدد الروائيين والشعراء العرب، وهذا يعود إلى أن الذائقة الجمعية العربية ليست معتادة على المسرح، الجديد نسبيًا لدى العرب، فالعرب لم تعرف المسرح إلا في العصور الحديثة. لا ذاكرة عربية قديمة عن فن المسرح؛ ذلك أن التشخيص في الدين الإسلامي كان محرمًا، والمسرح هو فن التشخيص (قبل أن تصبح السينما كذلك).

سعد الله ونوس 

إضافة إلى أن الأداءات المسرحية ارتبطت في الحضارات القديمة بالمعابد الكبرى، وبعد ظهور الإسلام اختفى بناء المعابد بمسارحها ومدرجاتها الحجرية المفتوحة لصالح مساجد ودور عبادة مغلقة تصلح للسجود وراء الأمام الواقف على ذات المستوى من الأرض مع المصلين خلفه. أما ما تبقى من المعابد من العصور السابقة فقد تحول إلى مساجد، أو إلى تراث أثري عالمي استخدم بعضه في العصر الحديث لإحياء الحفلات الموسيقية والغنائية والرقص. هذا كله جعل من الفن المسرحي عمومًا، ومن الكتابة المسرحية خصوصًا، فنًا نخبويًا وخاصًا بالمهتمين فقط، فالقراء من العامة نادرًا جدًا ما يقرأون كتب المسرح، (الرواية طبعًا هي الأكثر شعبية ورواجًا، يليها الشعر ثم الكتب الفكرية السياسية والاجتماعية والفلسفية؛ طبعًا نستثني هنا الكتب الدينية، ذلك أن قراءها هم الأكثر عددًا لدى العرب، لكن لا يمكن تضمينهم للقراء، حيث أن غالبيتهم يعتقدون أن الكتب الأدبية تحرض على الفتنة ويتبعها الغاوون فقط)، خصوصًا مع تراجع دور النشر الكبيرة عن إصدار وطباعة الأعمال المسرحية، ما يجعل من فرصة اكتشاف كتاب مسرحيين جدد يعتد بهم فرصة نادرة، وهذا أمر يحرم القراء العرب من فن أدبي يطور المخيلة ويفتحها على احتمالات شخصية، نفسية وقيمية، وعامة جمالية، لا تتاح بالقدر نفسه مع باقي أنواع الأدب.
والحال إن تراجع الكتابات المسرحية وعدم رواجها كما ينبغي، عربيًا وعالميًا، سببه الرئيسي، حسب ما أرى، يعود إلى اقتصاد السوق الذي يعتمد على الإعلان بوصفه وسيلة ترويج رئيسية. وهو ما ليس مقبولًا لوجستيًا في المسرح، بينما يمكن للسينما وللقنوات والمنصات التلفزيونية والإلكترونية أن تشكل بيئة مناسبة جدًا له. ما يجعل منها هدفًا مباشرًا للكتاب وفي مقدمتهم كتاب المسرح الذين يمكنهم بسهولة تحويل منهجهم  الإبداعي نحو كتابة سيناريوهات للسينما، أو للتلفزيون، أو للمنصات الجديدة، بدلًا من النص المسرحي، ذلك أنهم يمتلكون الأدوات اللازمة لها: اللغة والتقنية والخيال والمرونة والمران؛ فهم بذلك قد يضمنون أن نصوصهم سوف تجد إنتاجًا مناسبًا لها في سوق الإنتاج السينمائي والدرامي؛ بينما يندر أن يوجد منتج للنص المسرحي خارج عن المؤسسات الرسمية في عالمنا العربي، أو عن المسارح الكبيرة ومؤسسات المجتمع المدني المعنية بالشأن الثقافي في الغرب.
وبسبب هذا التغير، لم يعد الأدب العربي، على الأقل، ينتج نصوصًا مسرحية مؤثرة ومهمة، وهو ما جعل من العروض المسرحية الكلاسيكية تغرق في رطانة الأداء والإخراج، وتبتعد كثيرًا عن المعاصرة والتجديد؛ وفي الوقت نفسه استطاع المسرح التجريبي أن يلغي دور المؤلف المسرحي، حيث يكون العرض محمولًا على أكتاف المخرج الذي يكتبه في خياله، ثم يضع خطوطه الرئيسية وينجزه في أثناء التدريبات مع الفرقة التي تعمل معه. هكذا يستعير المخرج دور الكاتب المسرحي الذي هو أيضًا يستعير دور كاتب السيناريو السينمائي، أو التلفزيوني. في هذه الأثناء، يختفي هذا النوع من الكتابة الأدبية، الممتعة والمحفزة، شيئًا فشيئًا، بحيث قد تؤول ذات يوم قادم إلى تراث عالمي، كما تحولت كتب الأساطير والملاحم الشعرية والشعبية الكبرى.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.