}

مفارقات الفكر العربي المعاصر: الجابري والخطيبي والحوار المستحيل

فريد الزاهي 25 سبتمبر 2023
آراء مفارقات الفكر العربي المعاصر: الجابري والخطيبي والحوار المستحيل
عبد الكبير الخطيبي ومحمد عابد الجابري
حين تُرجمَتْ كتابات الخطيبي في مطلع الثمانينيات في دار العودة "النقد المزدوج والاسم العربي الجريح"، لم تترك تلك الترجمات، للأسف، ما كان ينتظر منها من استنبات وإخصاب وتلقيح. فقد كانت كتابات الخطيبي متقدمة بعقود طويلة عن محيط الثقافة العربية الذي كانت لا تزال تسكنه آنذاك أوهام القومية، وبقايا الماركسية، حتى في شكلها الألتوسيري (مهدي عامل، الطيب تيزيني، حسين مروة...). ولم يظهر أثر كتاباته إلا بشكل ضمني لدى أدونيس، خاصة في كتابه "الثابت والمتحول"، بالأخصّ لأن الرجلين كانا يعرفان بعضهما منذ بداية السبعينيات، ومواقفهما الفكرية تبدو متآلفة، بحيث أنهما أثبتا ذلك في السبعينيات، حين سافرا إلى اليمن، وأجريا حوارًا مع زعيم اليمن الاشتراكية آنذاك، عبد الفتاح إسماعيل، ونشراه في مجلة "مواقف". كما ظهر ذلك بشكل مغاير لدى أصدقائه العرب القلائل، كالروائي حليم بركات، وغيره.

ثقافة الممانعة
لقد أدرك أدونيس في نظرته الحداثية المتقدمة ما يحمله تفكير الخطيبي من جدة وجديد، سواء في نظرته لماركس في "المصارع الطبقي على الطريقة التاوية"، ومزجها بالفكر الآسيوي، أو في نظرته للتراث من منظور هايدغري وديرّيدي لم تكن الثقافة العربية قد تشرّبته بعد (بالرغم من الكتابات والترجمات القليلة التي كانت حينها قد ظهرت لهايدغر، عبد الرحمن بدوي). بيد أن علاقته الحاسمة مع رولان بارت، وجاك دريدا، كانت من العمق والجدّة بحيث لم يستوعبها مثقفونا آنذاك. ففي الوقت الذي اتجه فيه تفكير الخطيبي منذ الستينيات والسبعينيات إلى سيميولوجيا بارت وتحليله للعلامات والآثار وبلاغته للصور، كان مُجايلوه مبهورين بالتحليل الأيديولوجي للنصوص، لينتبهوا فجأة إلى أهمية البنيوية النصية المحايثة، التي لم يلبث بارت نفسه، سنوات بعد ذلك، أن تخلى عنها إلى مفاوز جديدة مرتبطة بفكره الشخصي.
لقد كان فكر الخطيبي استشرافيًا، في محيط ثقافي متكلس، وكان يمارس الممانعة على الهجْنة الفكرية التي كانت ديْدَن هذا المفكر. وحين ينفتح، فإنه ينفتح على النسقي الذي يستبدل به نسقًا آخر. من ناحية أخرى، كان تبنّي الخطيبي لبعض أفكار صديقه الفيلسوف جاك دريدا خطوة أخرى جعلته يبلور فكرًا ثاقبًا وجديدًا، لم تكن أمعاء الثقافة العربية آنذاك قادرة على استيعابه وتمثله وهضمه. ولا أدلّ على ذلك من أن مفهوم النقد المزدوج مثلًا لم يُكتب له أن يسري في جسد الثقافة العربية بالشكل الذي سرى به مفهوم الاختلاف، نظرًا لتعقد هذا المفهوم الذي يوحي بازدواجية كانت تهابها الثقافة العربية المبنية آنذاك على مفهوم الوحدة والانسجام والتناغم وتفادي التكرار والتناقض. لقد كان هذا المفهوم أساسًا ذا طبيعة نيتشوية من جهة، إذ يعلن عن القدرة على المواجهة، ومن جهة ثانية، ذا طبيعة مُجاوزة لجدلية هيجل (التي كان يمثلها عبد الله العروي)، التي كانت متداولة في الثقافة العربية في شكلها الهيجلي والماركسي. بيد أن مفهوم الاختلاف صار يجترح له في الكتابات الأكثر حداثية، والشبابية منها بالأخص، مجاري صغيرة غير أنها صارت فعالة.




بل إن مفهوم "الغريب المحترف" الذي بناه في الثمانينيات، ظل مجهولًا تمامًا. فقد صاغه الخطيبي في قراءته للأدب الفرنسي، وخاصة في تحليله لتجربة فكتور سيغالان، ذلك الكاتب الرحالة الفرنسي الذي استكشف اليابان بطريقة جدّ طلائعية في بداية القرن العشرين مُبلورًا مفهوم الغريب exote، الذي جعل منه الخطيبي استراتيجية للهجرة الدائمة، فيما وراء مفهوم الوطن الوحيد واللغة الوحيدة والهوية العمياء والاختلاف الوحشي(1). إن جدة هذا المفهوم تكمن أولًا وقبل كل شيء في مراجعة مفهومي الهوية والوطن باعتبارهما وحدة ميتافيزيقية مُتعالية لا تقبل الاختلاف والانشطار والانزياح. فلقد اختار الخطيبي منذ بدايته أن يستوطن المغرب، ويجعله منطلقًا وموئلًا لرحلاته ولاستقراره. كما أنه جعل من المغرب (والمغرب الكبير) أفقًا للفكر وللوجود في نص أشبه ببيان للاختلاف. فالخطيبي ظل يسكن لغتين، ويعيش التعدّد في الموطن والذاكرة من غير أن يتنكر أبدًا لذاكرته الثقافية العربية والإسلامية والأمازيغية... وكأن الخطيبي أراد أن يبرهن أن الكتابة بلغة الآخر لن تمنعه من الغوص في أعماق الثقافة المحلية بأفق فكري مفتوح، هو الذي عشق بلاده، ولم يفكر أبدًا في الاستقرار خارجها حتى وفاته.

الجابري والخطيبي: تفاوت غير مُتناسب


الغريب في الأمر هو أن كاتبًا مغربيًا آخر، محمد عابد الجابري، قد وجد له في المشرق مكانًا أكبر بالرغم من أنه لم ينتج مفاهيم جديدة، سواء في كتاباته، أو بالسجالات التي دارت بينه وبين مثقفين مشرقيين منذ نهاية السبعينيات (حسن حنفي، وجورج طرابيشي...). فمفهوم "العقل العربي" هو ضرب من التوفيق بين عروبة لم تنتج عقلًا، وعقل لم ينتج عروبة. ولعلّ تصنيفه "الباهر" (الذي لا يخلو من عسْف) للفكر العربي إلى بيان وبرهان وعرفان كان سبيلًا له إلى طرد العرفان من بنية "العقل" العربي، متجاهلًا عمدًا أن "العقل العرفاني" لدى ابن عربي والسهروردي أعمق في كثير من المناحي (فلسفيًا ومعرفيًا) من كثير مما أضفى عليه صفة العقلانية(2). فمعرفة السهروردي، مثلًا، بالمنطق والفلسفة اليونانية مشهودة، ومعرفة ابن عربي بها لا تخلو من عمق(3). والخطيبي في دراساته القليلة للإسلام، ولشخصية النبي، يُبين عن تحليل لا نجده لدى الإسلامولوجيين. إنه تحليل أقرب إلى الفينومينولوجيا والفلسفة والتحليل النفسي، يتابع عناصر في التجربة الدينية في انفتاحها على اللغة والموت. وهو كان منذ البداية حساسًا لعمق التجربة الصوفية، بحيث أنه يعد نفسه "متصوفًا من غير حقيقة قائمة"(4).
ربما كانت هذه المفارقة تعود، فيما تعود إليه، إلى أن الجابري يكتب بالعربية والخطيبي باللغة الفرنسية، بحيث لم يكن الأول في حاجة إلى الترجمة، بينما كان الثاني في حاجة إلى ترجمة ذكية لم تكن تتوفر لدى كثير من مترجمينا. وقد يعود ذلك أيضًا إلى أن الأول متخصص في الفكر العربي الإسلامي، فيما الثاني عالم اجتماع متفلسف ومتأدب. كما قد يعود ذلك أيضًا في الأساس والأخص إلى طبيعة الكتابة والفكر لديهما؛ فمقابل الحداثة المنفتحة والكتابة المفكرة اليقظة التي تمنح للهامشي واللاعقلاني والمنفلت مكانته في الفكر، ثمة فكر استراتيجي يبني مشروعًا منتظمًا مبنيًا على مفهوم العقل والعقلانية.
كتب الجابري في آخر حياته تفسيرًا للقرآن، يكاد يقلب نظرتنا لفكره "النقدي" رأسًا على عقب. فالتفسير كما نعلم يفترض إضافة إلى الإيمان الأكيد معرفة عميقة تجعل من كل متنطع له مطالبًا بالتفقه في علوم كثيرة متنوعة ومتعددة من بينها المقاصد والنحو والبلاغة والفقه والحديث، وغيرها كثير من العلوم الفقهية. إن الجابري وقد تحول إلى فقيه قد خالف الفلاسفة الذين درسهم، والذين تفصلهم عنه قرون طويلة. فلا الفارابي، ولا ابن سينا، ولا ابن رشد، تركوا لنا تفاسير للقرآن، بل لقد أثثوا مكتباتنا بشروح للطبيعة، وما بعد الطبيعة، وللنفس... أما الخطيبي فقد نشر ست سنوات قبل رحيله رواية بعنوان "حجُّ فنان عاشق"، يحكي فيها رحلة فنان صانع تقليدي من المغرب إلى مكّة طلبا للحج. لقد جعل الكاتب من هذه الرحلة جُماع فكره وعشقه للفنون التقليدية العربية وحضارتها، كما جعل من بطل روايته "الرايس" أشبه بمرآة لقراءته للحضارة العربية الإسلامية عرضيًا. لقد غاص الأول في موضوعه وميتافيزيقاه الأصل، متخليًا عن المسافة الفلسفية التي تفصله عنه، فيما استمر الثاني في مساءلة ذلك الأصل في امتداداته الكائنة والممكنة.



وبالرغم من أن الخطيبي لم يكن إسلامولوجيًا، فقد كتب نصوصًا ذات عمق باهر عن الإسلام والنبي والجنس في القرآن في كتابه "المغرب المتعدد" لم نتمثل بعد محمولاتها ومؤدياتها. كما أن اهتمامه بالتصوّف بدا واضحًا أيضًا في روايته الرائدة "كتاب الدم". واليوم، نحن في حاجة بشكل ما إلى إعادة قراءة الفكر العربي الإسلامي في ما وراء مقولة العقل وتصانيف الجابري، ولم لا انطلاقًا ـ أيضًا ـ من مقولات الخطيبي، ومن الانفتاحات التي تمكّن منها. إنها فقط مساءلات للمصائر الداخلية لثقافتنا العربية المعاصرة، ولنوابضها الداخلية، ومفارقاتها المحْرجة، التي تنْكتب من الداخل كنسيان مجْحف أحيانًا، وكإكبار مُبالغ فيه أحيانًا أخرى... ألا يذكرنا ذلك بما قاله ابن عربي وهو يرى رفات ابن رشد على بهيمة في جانب، وكتبه في الجانب الآخر؟

الجابري ونقد العقل العربي


حين أصدر محمد عابد الجابري كتابه "نحن والتراث" (1980)، لم يكن القارئ والمهتم والمتخصص إلا ليحسوا ببذرات مشروع طويل النفس يروم تقديم نظرة متكاملة عن الفكر العربي الإسلاميّ. فقد كانت تلك الفترة تموج بالمشاريع التي تبتغي تأويل التراث العربي الإسلامي وفق تصورات ومناهج جديدة. وكان الرهان حينئذ يتمثل في الانزياح عن النظرات الاستشراقية القديمة منها والجديدة، من ناحية، وتلقيح المشاريع القومية والحداثية بامتلاك جديد للتراث يواكب التحولات والمشاريع السياسية والأيديولوجية ويمدّها بأداة فاعلة في بناء مشروع مجتمعي حداثي، من ناحية أخرى.
لقد جاء مشروع الجابري (إذ يتعلق الأمر بمشروع)، في وقت كان فيه المفكرون والفلاسفة العرب يدركون جيدًا أن المجتمع العربي، في غيبة تحولات وثورات جذرية، وفي ظل تبعات نهضة مهادنة وإصلاحية، يعيش مراوحة إشكالية بين الاستمرار التاريخي للدين الإسلامي وسلطته الشرعية والسياسية والفكرية على الأفراد والمجتمعات ونظم الحكم، مهما كانت توجهاتها اشتراكية ويسارية، وبين التأثيرات الغربية الناجمة عن الاستعمار وامتداداته وعن التقنية وسيطرة أنظمتها الاجتماعية والاقتصادية. هذه الشروخ التاريخية جعلت من قراءة التاريخ العربي وتراثه مهمة استعجالية ملحة لا في المستوى السياسي فقط، وإنما في المستوى الثقافي والفكري.
هكذا وجد هؤلاء المفكرون والفلاسفة العرب أنفسهم يتماوجون بين تصورات نظرية تسعى للبحث عن المناطق المنيرة والمستنيرة في هذا التراث (محمد عمارة، حسن حنفي...)، وفي تأويل ذلك التراث من الداخل والدعوة ليسار إسلامي (حسن حنفي)، أو في البحث عن النزعات المادية، وإعادة الاعتبار للفكر "الثوري" في الإسلام (حسين مروة، والطيب تيزيني)، كما في البحث البنيوي عن بنية الفكر العربي في تجلياتها الثابتة والمتحولة (محمد أركون)... والحقيقة أن هذا السياق هو ما يمنح لمشروع الجابري الطموح فرادته وحدوده في الآن نفسه، باعتباره استجابة لضرورات مرحلية، من جهة، وسعيًا للتوفيق بين البحث العلمي ومعضلات الآفاق المنتظرة النابعة من النظرة للحاضر والمستقبل، من جهة أخرى.
إذا كان الكلّ يتفق على وجود تفكير فلسفي عقلي في الفكر العربي الإسلامي، نابع من استيحاء التراث الفلسفي اليوناني، فإن ذلك كان يندرج دومًا في ثنائية صارت كلاسيكية هي العقل والنقل، وهي صيغة موروثة ومحوَّرة عن الصيغة الرشدية الشهيرة: الحكمة والشريعة. بيد أن الجابري يحدد منطلقه البحثي بعيدًا عن هذه الإشكالية ورهاناتها التوفيقية، وبعيدًا أيضًا عن مفهوم الفكر الإسلامي السائد لدى الباحثين، الذي يعده الجابري ضربًا من الأيديولوجيا. إن "مفهوم العقل العربي، كما سنتناوله بالتحليل والفحص (...) ليس شيئًا آخر غير هذا "الفكر" الذي نتحدث عنه: الفكر بوصفه أداة للإنتاج النظري صنعتها ثقافة معينة لها خصوصيتها، هي الثقافة العربية بالذات، الثقافة التي يحملها تاريخ العرب الحضاري وتعكس واقعهم، أو تعبّر عن طموحاتهم المستقبلية، كما تحمل وتعكس وتعبّر، في الوقت ذاته، عن عوائق تقدمهم وأسباب تخلفهم الراهن"(5). إنه حسب تصنيف لالاند العقل المكوِّن la raison constituante، أي مجمل المبادئ والقواعد التي تقدمها الثقافة العربية لمن ينتمون له أساسًا لاكتساب المعرفة، أو بالأحرى تفرضها باعتبارها نظامًا معرفيًا. يحمل هذا التحديد في ثناياه عناصر النظرة الألتوسيرية الداعية إلى دراسة شروط ووسائل إنتاج الفكر، كما تتقاطع من ناحية أخرى مع نظرة أركون البنيوية، وبشكل غير مباشر مع نظرة عبد الله العروي العقلانية الدارسة لأسباب تخلف العرب.
ما الجديد الذي يقدمه لنا مشروع الجابري هنا؟
يرى الرجل أن جدَّة مسعاه المنهجي تكمن في مجاوزة التحاليل الأيديولوجية السابقة عليه إلى ممارسة البحث الإبستمولوجي، أي البحث في البنيات المعرفية، وعدم إصدار الأحكام. بيد أن المفارقة التي نجد أنفسنا نعيشها مع توالي إصدارات الجابري تكمن في توسيع مفهوم العقل ليشمل أغلب حقول الثقافة، سانكرونيا ودياكرونيا، وكأننا به يكاد يتحدث عن "العقل الثقافي العربي" بالرغم من أنه يؤكد على هذا الترابط أكثر من مرة. والحقيقة أن هذا المنظور، إنْ مكّن الجابري من النظرة الشمولية للتراث العربي التي تستخدم التاريخ لمقاصد بحثه، وتعمد إلى التصنيف لأغراض تملك الموضوع، وتنصاع للتأويل انطلاقًا من رؤية عقلانية حداثية، إلا أنه في الآن نفسه يفصح عن مفارقاته الداخلية: بين الحاضر والماضي، وبين التراث والحداثة، وبين العقل واللاشعور...
أين يعثر الجابري على هذا العقل، وأين تتبدى له معالمه وبنيته؟ وهل هو عقل ينصاع لعقلانيته؟ لا يمكننا الإجابة على هذا السؤال إلا بتطبيق تصوّر الجابري على اختياراته، ومن ثم قراءة مشروعه من الداخل والخارج. الأكيد أن ما قاد الجابري إلى سؤال العقل العربي هذا هو بالضبط قراءته لابن خلدون(6)، وابن رشد من جهة، والتصور العقلاني الحداثي الذي يتبناه منذ البداية. ينتهي الجابري إلى تصنيف العقل العربي، أو لنقل بالأحرى الثقافة العربية، إلى بيان وبرهان وعرفان. فالبيان يشمل الثقافة الأدبية والبلاغية والكلامية، والبرهان يشمل الإرث الفلسفي، والعرفان التراث الصوفي. ومع أن الباحث "الإبستمولوجي" يؤكد في كل مرة على الموضوعية، وعدم إصدار الأحكام، فإن تصنيفه للعقل العربي يبني ثنائية "العقل الحاضر" و"العقل المستقيل" ليطرد التصوّف من الباب الأوسع، وبسجالية تذكرنا بصورة واضحة بسجالية العرب القدماء (السنيين منهم بالأخص)، ويرده في مجمله إلى التصورات الشيعية وإلى الهرمسية. وقد انتبه جورج طرابيشي إلى ذلك قائلًا، بسجالية أكبر: "هكذا وبشخطة قلم، ينسف المعماري [أي الجابري] عمارته، ويردم المنقب الإبستمولوجي حفرياته. فناقد العقل العربي، الذي طالما حذّر من قراءة تراثية للتراث مؤكدًا على ضرورة "القطيعة الإبستمولوجية مع رواسب الفكر التراثي"، والذي بدا عليه كأنه يوظف بالفعل مفاهيم باشلار وغرامشي وفوكو وبياجيه وليفي ستراوس، ويمارس "حفريات المعرفة" (...)، ما زاد، باعترافه، على أن تبنى "التصنيف الثلاثي الذي كان رائجًا معمولًا به في الثقافة العربية، أي التصنيف إلى بيان وبرهان وعرفان"، الشيء الذي يعني في محصلة الحساب أنه لم يفعل أكثر من أن يقرأ تراث القدماء بمفاهيم القدماء"(7). بيد أن هذا النقد وإن كان وجيهًا في العمق، يغفل أن تصنيف الجابري، إن هو توافق مع تصنيف القدماء، ذو طابع إجرائي وتاريخي في الآن نفسه، لكنه يمكّن من ناحية ثانية من خلق تراتبية في البناء المعرفي العربي يجعل البرهان في المقدمة، والبيان بعده، ويضع العرفان في حضيض الثقافة العربية.

(يتبع)...

هوامش:
1- هما مفهومان يبلور من خلالهما الخطيبي إقصاء الآخر والغريب من مجال الأنا.
2- يرى الجابري أن ابن سينا هو المدشِّن الفعلي لمرحلة الجمود والانحطاط، وأنه عمل على تكريس لاعقلانية صميمة في الفكر العربي الإسلامي تحت غطاء عقلانية موهومة (الجابري، نحن والتراث، دار الطليعة، بيروت، 1980، ص. 131). أما موقفه من العرفان ومن ابن عربي في كتابه "بنية العقل العربي" فيكشف عن عقلانية بدائية تبدو كأنها خارجة من حضن ديكارت.
3- أنظر ترجمتنا لمقدمات كوربان للسهروردي، منشورات الجمل، بيروت، 2012.
4- Hassan Wahbi, La Beauté de l’absent. Entretiens avec Abdelkébir Khatibi, op. Cit., p. 35.
5- الجابري، "تكوين العقل العربي"، مركز دراسات الوحدة العربية، ط. 1، 1984.
6- نشير هنا إلى القراءة المميزة للخطيبي عن ابن خلدون في كتابه: Khatibi, Maghreb pluriel, op. Cit., p. 63 et supra.
7- جورج طرابيشي، "نقد نقد العقل العربي"، إشكاليات العقل العربي، دار الساقي، 2002، ص. 199.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.