}

الغضب الساطع: فلسطين في الفنّ الرحباني

باسم سليمان 1 يناير 2024
آراء الغضب الساطع: فلسطين في الفنّ الرحباني
فيروز تتسلم مفتاح القدس عام 1968

لم تغب قضية فلسطين عن فيروز والرحابنة، بل رافقت نهوضهم، وأغنت مشوارهم الإبداعي، وأصبحت إحدى العلامات المتفرّدة في تجربتهم الفنيّة، حيث ضمّخوها ببصمتهم المميّزة، وشكّلوا منها نسيجًا خاصًا قائمًا بذاته، تتجاوز غيرها من التجارب التي قاربت المأساة الفلسطينية، فقد كان لهم قصب السبق في إخراجها من أسلوب الشكوى والنواح، إلى مدارات الأمل والثورة، عبر ثيمة الحنين إلى الأرض، وحتمية العودة إليها. وتأتي شهادة محمود درويش دليلًا دامغًا على جوهرية الفنّ الرحباني بالنسبة لقضية فلسطين: "إنّ الشعب الفلسطيني لم يبدع أغنيته الوطنية كما أبدعتها له وللعرب الظاهرة الرحبانية. لقد أشهر الفلسطيني هويته الجمالية بالأغنية الرحبانية العربية، حتى صارت هي إطار قلوبنا المرجعي، هي الوطن المستعاد، وحافز السير على طريق القوافل الطويل".
ترجع علاقة فيروز والرحابنة بالقضية الفلسطينية إلى السنوات الأولى من نشاطهم الفنّي، فلقد ذكر منصور الرحباني بأنّه كان مع عاصي وفيروز في زيارة إلى مصر بناءً على دعوة جاءتهم من راديو (صوت العرب) من القاهرة عام 1955، حيث سجّلوا مجموعة من الأغاني. وقد عرض عليهم مدير الإذاعة في ذلك الوقت، أحمد سعيد، أن يستقلّوا طائرة إلى غزّة، لكي يستمعوا إلى الأغاني الفلسطينية من أفواه أهلها. لكن خوف الرحابنة من ركوب الطائرة منع تلك الزيارة إلى غزّة، فأحضرت التسجيلات إلى مبنى إذاعة العرب، حيث استمع إليها الأخوان رحباني مع فيروز، فلم يجدوا فيها إلّا نواحًا واستجداءً وشكوى. وقد علّقوا على تلك الأغاني، بأنّ: "قضية فلسطين لا تعالج هكذا، لا يسترد فلسطين إلّا الفلسطينيون، لا ابن القاهرة، يموت عن القدس، ولا ابن الشام، ولا ابن بيروت". ويكمل منصور بأنّهما لحنّا أغنية: "راجعون" تعبيرًا عن قناعتهما بأنّ الحقّ لا يسترده غير أصحابه. تقول كلمات الأغنية، ونختار منها هذا المقطع الذي يعبر عن رؤية رحبانية تتجاوز الشكوى والاستجداء والحزن: (بلادي أطلّي قليلًا فإنّنا راجعون/ في هدأة السكون في رهبة الحصون/ أصحابنا على الطريق الرحب يهتفون/ في الأمطار راجعون في الإعصار راجعون/ في الشموس في الرياح في الحقول في البطاح/ راجعون راجعون راجعون/ بالإيمان راجعون للأوطان راجعون/ في الرمال والظّلال في الشعاب والتلال/ راجعون راجعون راجعون). من خلال تأمّل كلمات الأغنية نرى الشعور الثوري، الذي أخذ يتّضح في الأغاني التي كرّسها الرحابنة لفلسطين، بعيدًا عما ترتب على نكبة 1948، والخطابات السياسية الفارغة من قبل القادة العرب الذين هُزمت جيوشهم شرّ هزيمة، فقد أسّس الرحابنة لرؤية فنيّة ستندمج مع العمل الثوري الفلسطيني في ما بعد. وتعليقًا على هذه الريادة المشهودة للرحابنة في مقاربة القضية الفلسطينية فنيًا، يقول الناقد اللبناني نزار مروة عام 1986 عن أغنية (راجعون) في ندوة تلت رحيل عاصي: "... ينهض حوار مؤثّر بين جموع الشعب الممثّل بالكورال، وبين ضميرها في الصوت المتفرّد؛ فيروز". فهذه الأغنية تظهر لنا ذلك الحوار؛ حيث الجوقة هي الشعب الفلسطيني المشرّد، وفيروز ضميره. حيث تتكرّر هذه العلاقة وتتوضّح في أغنية (القدس العتيقة)، فتغنّي فيروز: (يا صوتي ضلك طاير زوبع بهالضماير/ خبرهن ع للي صاير بلكي بيوعى الضمير). إذًا، فيروز أصبحت حاملة الأمانة الفلسطينية، التي تشبه المزهرية السريعة العطب والكسر، إنْ هي سقطت من ضمائر الفلسطينيين والعرب، لذلك اختارتها تلك السيدة الفلسطينية، لتكون هدية لفيروز، لكي تعرّفها مقدار المسؤولية التي أصبحت على عاتقها بعد زيارتها للقدس: (حكينا سوا الخبرية وعطيوني مزهرية/ قالوا لي هيدي هدية من الناس الناطرين).




تجلّت القضية الفلسطينية في الأغنية الرحبانية بثيمات عدة، كانت أهمّها مفهوم العودة والرجوع إلى الأرض المحتلّة، حتى لا تكاد تخلو أغنية لهم عن فلسطين من الأمل في الرجوع والحضّ على العودة، والذي كثيرًا ما كان يظهر في عناوين تلك الأغاني، منذ أغنيتهم الأولى (راجعون)، وما تلاها: (سنرجع يومًا ـ سيف فليشهر ـ جسر العودة).
تمتاز هذه الأغنيات بنبرة رومانسية عاطفية مليئة بالحنين، لكن على الرغم من تراجيديتها، إلّا أنّها تشعّ بالأمل الواثق، فما تقوله الطبيعة الأبدية في أغنية (سنرجع يومًا) لا بدّ متحقّق: (هنالك عند التلال تلالٌ/ تنام وتصحو على عهدنا... سنرجعُ خَبّرني العندليب/ غداة التقينا على منحنى)، فإذا كان البشر يأخذهم النسيان، فعناصر الطبيعة محصّنة ضدّ ذلك، فالتلال الخالدة ستبقى تردّد صدى العهد الذي قطعه الفلسطينيون على أنفسهم بالعودة، وتذكّر كلّ نسّاء. وكلّ عندليب يفقس في عشٍّ بُني على غصن شجرة في فلسطين، سيكرّر لحن العودة، ككلّ العنادل التي مضت، والتي تغرّد الآن، والتي ستفقس من بيوضها مستقبلًا. وفي أغنية (سيف فليشهر) نجد تأكيدًا على مقولة الطبيعة في أغنية؛ سنرجع يومًا: (الآن، الآن وليس غدًا/ أجراس العودة فلتقرع) فمستقبل العودة يُصنع من خلال المعركة مع المحتل. ومع أغنية (جسر العودة) تتغيّر الأسماء مع الأمل الصاعد من بئر القهر والحسّ الثوري الذي بدأ يتشكل رويدًا رويدًا، ممّا يشرعِن للفلسطيني تبديل الأسماء مع حالته الراهنة، فإذا كان جسر الهزائم الذي أودى بهم إلى النزوح سمّي: جسر الأحزان، فلقد أصبح مع فيروز جسر العودة: (يا جسر الأحزان، أنا سمّيتك جسر العودة)، هكذا تستكمل فيروز النبوءة التي نراها الآن عيانًا في غزّة، حيث يكبر طفل المغارة ليصبح فدائيًا: (وبليلة عتمٍ أبيض كالأُولى للميلاد/ مَلْآى بغموض الآتي وبفرح الأعياد/ يأتي من صمت الأشجار/ طفلٌ في سن العشرين/ يحتفل اليوم بميلاده/ عَيّده العيد برشّاش/ فمضى يتصيّد ويقيم/ في أرض أبيه وأجداده).
تقتضي حتمية الرجوع إلى الأرض في الأغنية الرحبانية الاستناد إلى ثيمة المكان، فتغنّي فيروز: (يا ربوع بلادي يا أحبّ الربوع)، وقد استحضر الرحابنة مفردة (ربوع) لما تحمله من دلالات تراثية وآنية على أنّ فلسطين، هي أرض الجدود وأرض الأبناء، هذا من جهة. أمّا من جهة ثانية، فكلمة (ربوع) تومئ إلى فصل الربيع، وما يدل عليه من قيامة الطبيعة من مواتها في الشتاء. وكأنّ أرض فلسطين ربيع دائم. فيما نجد في أغنية (يافا) ذلك الميناء الجميل في فلسطين، أمثولة عن صراع البحارة/ الفلسطينيين مع العاصفة، وكأنّنا مع الإله بعل الكنعاني في مواجهة يم. تحدثنا فيروز عن ذكريات يافا، وكيف واجه البحارة عاصفة هوجاء، حتى قال الناس: (إنّنا ضائعون/ إنّنا هالكون/ في الأبد البارد)، لكن في النهاية عادوا: (عدنا مع الصباح/ جئنا مع الرياح/ كما يجيء المارد) تمتلك كلمات الرحابنة إيحاءاتها الخاصة، فالمارد هو الذي يحقّق الأماني، والبحارة هم الشعب الفلسطيني، وسيعودون محقّقين الأمنيات: (الناس الناطرين) في كلمات أغنية (القدس العتيقة). هكذا تختم فيروز الأغنية بالمقول الأبدي للفلسطينيين: (وسنرجعُ نرجعُ يا يافا)؛ لأنّ ملاعب الطفولة هي الرحم الذي ينمو فيه حبنا للأوطان، تأتي أغنية (بيسان) ممثّلة هذا الحلم: (أذكرُ يا بيسان/ يا ملعب الطفولة/ أفياءك الخجولة/ وكل شيءٍ كانْ).
لن تكتمل جغرافيا الأرض الفلسطينية بأغنيات الرحابنة، إلّا بذكر حجر العقد، أي القدس، لِما تحمله من معان ورموز، من الديني إلى السياسي، ولِما تشكّله من جوهرية للقضية الفلسطينية، لأنّها زهرة المدائن، وبهية المساكن، ومدينة الصلاة. زارت فيروز والرحابنة القدس مرتين، ترافقت الثانية مع زيارة البابا بولس السادس للقدس في كانون الثاني عام 1964، حيث مشت على درب الآلام، ورافقت ترتيلاتها خطوات البابا في حجّه إلى الأماكن المقدسة المسيحية في القدس. أنتجت هذه الزيارة أيقونتين غنائيتين صدحت بهما فيروز: (زهرة المدائن... والقدس العتيقة). وكما رأينا الأمانة/ المزهرية التي أعطتها المرأة المقدسية لفيروز في أغنية (القدس العتيقة)، نجد في أغنية (زهرة المدائن) أن الغضب الساطع يتفجر، لتشرق هذه الأمانة صبحًا يفلّ ظلام ليل المحتل، فالغضب الساطع هو نهر الأردن الذي اغتسل فيه السيد المسيح، وهو سواعد الثوار: (الغضب الساطع آتٍ وأنا كلي إيمان/ الغضب الساطع آتٍ سأمرُّ على الأحزان/ من كلّ طريق آتٍ بجياد الرهبة آتٍ/ وكوجه الله الغامر آتٍ آتٍ آتٍ). هنا ننتقل مع الرحابنة من موضوعة الحنين إلى الأرض السليبة، وخاصة بعد حرب حزيران/ يونيو 1967، والهزيمة المدوية للعرب، وسقوط القدس كلية تحت سطوة الصهاينة، إلى مواجهة ثقافية مع المحتل، فهذه الأغنية تأتي كردّ على المقولة الصهيونية بأنّ أرض فلسطين هي الأرض الموعودة لهم، لتقول بأنّ تلك المقولة مجرد وهم، وسينقضها الغضب الساطع الذي يشبه وجه الله الغامر، ولأنّ من أسمائه السّلام، فالقدس هي مدينة السلام، وبها سيهزم وجه القوة، وتُمحى آثار القدم الهمجية: (الغضب الساطع آتٍ بجياد الرهبة آتٍ/ وسيهزم وجه القوّة/ البيت لنا والقدس لنا/ وبأيدينا سنعيد بهاء القدس/ بأيدينا للقدس سلام آتٍ)، فيعمّ السّلام وجه الأرض.




لا يستطيع الفنّ إلّا أن يحلم بتغيير الواقع، وهذا الحلم هو ما يصنع الأمل؛ وخاصة عندما لا يكون فنًا تخديريًا تسويفيًا، بل يكون التزامًا أخلاقيًّا وإبداعيًا. وهذا ما فعله الرحابنة عندما تناولوا قضية فلسطين، لذلك ظلّ فنهم المعبّر الأصدق عنها، ومَن كتبوا مسرحية: (ناطورة المفاتيح) حملت فيروزهم مفتاح القدس: (لن يقفل باب مدينتنا، فأنا ذاهبة لأصلّي/ سأدقّ على الأبواب وسأفتحها الأبواب). ولا ريب في أنّ ما يحدث الآن في غزّة هو أغنية فيروزية عنوانها: "ولعت"، لتتحقق مقولة الرحابنة: لا يحرّر فلسطين غير أهلها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.