كما أن المفكر ليس مُحايدًا كذلك المسرحي، وفي مراحل شغله من كتابة النص إلى العرض المُنجز فوق الخشبة هو فاعلٌ ومنفعلٌ كونه أنا مُفكِّرة تذهب إلى تحقيق الفعل الذي سيُغيِّر أو يضيف وعيًا إلى وعينا. ومعظم العروض المسرحية العربية لعام 2023 جاءت ضمن مهرجانات محلية أو عربية، أو قُدِّمت ضمن "الريبرتوار" المحلي لكل بلد، وما شاهدناه منها إِنْ مباشرة، أو عبر (الميديا). وهي عروض مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي- الدورة 30 والذي كان قد تأسَّس عام 1988 وذهبت جوائزه: أفضل عرض لمسرحية "من أجل الجنة... إيكاروس" المصرية، وجائزة أفضل ممثل لخالد رأفت من مصر عن دور الأب في عرض "إيكاروس"، وجائزة أفضل نص مسرحي أو فكرة لعرض الكونغو "مايكل فابريس"، وأفضل إضاءة للعرض العراقي "ملف 12" لعباس قاسم، وأفضل ممثلة لأسماء الشيخ عن العرض الجزائري "نوستالجيا" للمخرج لخضر منصوري، وأفضل مخرج مسرحي لجيا ديمتري عن مسرحية "عطيل" من جورجيا، وشهادات تقدير للعرض الليتواني "أنتيغون"، والمصري "الرجل الذي أكله الورق". وكان المُخرج التونسي لسعد المحواشي قد أصيب بجلطة دماغية أودت بحياته بعد يوم من مشاركته في العرض التونسي "ما يراوش" ضمن المسابقة الرسمية للمهرجان.
وهناك عروض مهرجان أيام قرطاج المسرحية- الدورة 24، الذي احتفى بمرور أربعين سنة على تأسيسه عام 1983 ورفع شعار "بالمسرح نحيا... بالفن نقاوم" وتوزعت جوائزه: التانيت الذهبي لمسرحية "صمت" لسليمان البسَّام من الكويت، التانيت الفضي لمسرحية "شمس" للمخرج أمين بودريقة من المغرب، التانيت البرونزي لمسرحية "الفيرمة" للمخرج غازي الزغباني من تونس، أفضل ممثل للتونسي غازي الزغباني عن دوره في مسرحية "الفيرمة" من تونس، أفضل ممثلة للسورية حلا عمران عن دورها في مسرحية "صمت"، أفضل نص للمُؤلف الكويتي سليمان البسَّام عن مسرحية "صمت"، أفضل سينوغرافيا لمسرحية "الفيرمة" لغازي الزغباني من تونس.
ومهرجان الدن المسرحي بسلطنة عُمان؛ وهو مهرجان أهلي ابتدأ بتأسيس فرقة الدن عام 1994 وكانت أولى دوراته عام 2015، ويتميَّز هذا المهرجان عن باقي المهرجانات المسرحية العربية بأنَّ العروض المسرحية المشاركة فيه تضمُّ مسابقةً لمسرح الكبار، ومسابقة لمسرح الأطفال، ومسابقة لمسرح الشارع، وهذا ما تناسته معظم المهرجانات، إذ إنَّ خطابها موجَّهٌ للكبار، فيما يهمل الأطفال الذين من المفترض أن تنظر الحكومات وإدارات المهرجانات العربية ونخص بالذكر (الهيئة العربية للمسرح) وهي هيئة مستقلة عن الحكومات، إليهم وتبادر إلى إقامة مهرجان عربي سنوي خاص بمسرح الطفل بوصف المسرح فعالية ثقافية تنمي الشعور بالوجود. وقد حصدت الكويت مجموعة من الجوائز الأساسية في المهرجان فنالت مسرحية "الساعة التاسعة" لفرقة المسرح الكويتي جائزتي أفضل مخرج للفنان بدر الشعيبي، وأفضل ديكور لسارة العباد، فيما حصدت مسرحية الأطفال "الأرانب" جائزة أفضل عرض مسرحي للأطفال وجائزتي أفضل مؤثِّرات موسيقية وديكور.
وهناك مهرجان البحرين المسرحي وهو مهرجان محلي، وكانت دورته الأولى عام 2017، فيما دورته الأخيرة كانت في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، وحملت اسم الراحل. إبراهيم عبد الله غلوم، الناقد والمفكِّر المسرحي البحريني الذي أثرى المكتبة العربية بدراسات عن المسرح الخليجي وعدد من المسرحيات، وترأس الدكتور سامح مهران الذي يشغل منصب مدير مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي من مصر رئاسة لجنة التحكيم.
وهناك كذلك مهرجان بغداد الدولي- الدورة الرابعة، وأقيم تحت شعار "لأنّ المسرح يُضيء الحياة" ما بين 10 وحتى 18 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، وفازت مسرحية "مكبث زار" من إيران بجائزة أفضل عرض متكامل وهي الجائزة الكبرى للمهرجان، فيما ذهبت جائزة أفضل أداء جماعي إلى العرض الإيطالي "روميو وجولييت"، وفاز العراقي أنس عبد الصمد بجائزتي أفضل إخراج وأفضل سينوغرافيا عن عرض "بيت أبو عبد الله"، وحصل كاميران رؤوف على جائزة أفضل ممثل عن مسرحية "الملك لير وساحرات مكبث"، وذهبت جائزة أفضل نص مسرحي إلى عرض "أمل" من العراق إخراج جواد الأسدي، فيما فازت أسماء الشيخ من الجزائر بجائزة أفضل ممثلة عن دورها في عرض "نوستالجيا".
مهرجان أيام قرطاج المسرحية- الدورة 24 احتفى بمرور أربعين سنة على تأسيسه عام 1983 ورفع شعار "بالمسرح نحيا... بالفن نقاوم" |
وهناك المهرجان الوطني للمسرح المحترف بالجزائر، ومهرجان الكويت الدولي للمونودراما، ومهرجان الكويت المسرحي وكانت دورته الأولى عام 1989، وهو مهرجان محلي سنوي يقيمه المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.
وفي الأردن هناك أكثر من مهرجان ومجموعة من الفرق المسرحيّة مثل فرقة طقوس المسرحية ومهرجانها عشيات طقوس المسرحية الدولي، وفرقة المسرح الحر ومهرجانها ليالي المسرح الحر الدولي، وفرقة الفوانيس ومهرجان أيام عمَّان المسرحية الدولي، ومهرجان المسرح الأردني وقد عقدت دورته الأولى عام 1991.
وكان هناك مهرجان الرياض المسرحي الأوَّل الذي أقيم يوم 14 كانون الأول/ ديسمبر إلى 23 منه والذي يهدف كما جاء في التعريف إلى تفعيل المشهد المسرحي في المملكة ودعم الإنتاج المحلي عبر استقطاب المواهب وتطويرها وفازت مسرحية "بحر" بجائزة العرض المسرحي المتكامل، ومهرجان بصمات الدولي للمونودراما في دورته السابعة بالمغرب، مهرجانات وعروض أعتقد ومنذ أوَّل مهرجان مسرحي - مهرجان دمشق 1969، لم تستطع أن تخفِّفَ أو تدفعَ عنَّا السأم والشقاء والفقر والبؤس، فنحن إمَّا مع شخصيات شريرة أو شخصيات خيِّرة- لا شخصيات واقعية بصفتها قابلة للتغيير، وقادرة على التأثير لدرجة صرْتَ تُفضِّل كمتفرِّج أن تُصغي لقصص الجن والخرافات أكثر ما تشاهد عروضًا مسرحية. فما من شخصية في المسرحيات التراجيدية وكذلك الكوميدية تثير فينا الخوف أو الرعب أو الشفقة. صحيح أنَّنا نتفرَّج على المسرحيات، ولكننا نبقى نعيش في عزلة سوداء، ونبقى نعيش ضياعًا مأساويًا، وحالنا هذه هي بحد ذاتها جزءًا من مأساة إنسانية؛ مأساةٌ أن تبتلع الهزائم والنكسات وقسوة الحاكم المستبد- والأرض مليئة بالاستبداد، ولا تقدرُ تقاومُ أَوْ ترُد- مثلنا مثل "غاليليو" لمَّا يقبض على الحقيقة يتراجع خوفًا من المقصلة، ولا يفيده قوله لاحقًا (ومع ذلك فإنَّها تدور)، هذه التي يمسك بها المسرح العربي.
إنَّها تدور، مسرحنا في بداياته حاول أن يدوِّرها، لكن الموظفين الذين تسللوا إلى جسد وعقل المسرح شلوا قواه وتركوه عاجزًا عن فرز وتكوين إنسانيات علمية/ مسرحية جديدة، لقد دارت مع مهرجان دمشق المسرحي الذي كان أبو المهرجانات العربية- تأسَّس عام 1969 استجابة لتوصيات مؤتمر المسرحيين العرب المقام في القاهرة في آذار/ مارس من نفس العام، وأقيمت الدورة الأولى في أيار/ مايو 1969 بمبادرة من نقابة الفنانين وبالتعاون مع وزارة الثقافة السورية، فجاءت مهرجاناتٌ بعده وراحت مهرجاناتٌ، ولعلَّ أكثرها ندًا لمهرجان دمشق والذي جاء من حماسٍ واندفاعات ثورية إنسانية كان المهرجان الوطني للمسرح المحترف الجزائر، الذي أسَّسه الكاتب والممثل والمخرج المسرحي أمحمد بن قطاف في عام 2006 وتحوَّل خلال سنوات إلى واحدٍ من أهم المهرجانات المسرحية الذي حوَّل الجزائر إلى عاصمة ثقافية للمسرح العربي: عروض محلية وعربية، مسابقة رسمية، ورشات: تمثيل وكتابة ونقد وسينوغرافيا وندوة فكرية مركزية، ولكن بعد رحيل أمحمد بن قطاف عام 2014 تحوَّل إلى مهرجان محلي. ربَّما سعى "مهرجان المسرح العربي" الذي تقيمه الهيئة العربية للمسرح في الشارقة - والذي يدعمه الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة وهو كاتب مسرحي- دوريًا كل سنة في عاصمة عربية، ليلعب دورًا أكبر لتوطين المسرح في الحياة الاجتماعية العربية، والذي انطلقت دورته الأولى عام 2009 في القاهرة واستُهِلَّ بمسرحية "شمشون" للشيخ الدكتور القاسمي، وكانت دورته الأخيرة 13 في المغرب/الدار البيضاء 2023، وتوجت مسرحية "رحل النهار" لفرقة مسرح الشارقة الوطني بجائزة أحسن عمل مسرحي عربي تأليف إسماعيل عبد الله إخراج محمد العامري.
عروض وعروض، وضيوف وضيوف، بعضهم وربَّما أغلبهم صاروا ثوابت/ أعمدة في كل مهرجان، إذ لا يُستغنى عنهم، إمَّا لأنَّهم زينة، وإمَّا لأنَّهم أصحاب مهرجانات يتبادلون ويردون الدعوات لبعضهم، وهذه تسبَّب مقتلًا لأيِّ نهضة مسرحية عربية. عروض، مهرجانات يُفترض أن تكشف عن مبدعين، لا أن تعيد تكرار مقولاتها كمن يخضُّ الماءَ ولا سمن، فنُسَاهِمُ مع عَدوِّنا في محو تاريخ أمَّتنا وهرس عقلها فنصير نهلوس. وما جرى مؤخَّرًا بعد عملية (طوفان الأقصى) 7 تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023 لحركة حماس التي ردَّت عليها إسرائيل باجتياح غزَّة برًا وبحرًا وجوًا، وموت/ استشهاد ما يزيد على عشرين ألف إنسان أغلبهم من الأطفال والنساء يؤكِّد ذلك؛ فالكلُّ يتفرَّجُ ويسمعُ ولا مَنْ يقاتلُ عن فلسطين.
محو وكتابة، إسرائيل تمحونا وبسخرية تراجيكوميدية، وتُلقينا في صندوق قمامة التاريخ، لتكتب تاريخًا وقد قشَّرته وفكَّكته وصبغته بألوانها. أهكذا نبني وعينا، أهكذا نرسمُ أو نقيمُ خطًا فلسفيًا بين المسرح والواقع؟ لتكُن المهرجانات، فما من دولةٍ في التاريخ أقامت مهرجانات مثل اليونان؛ مئات المهرجانات والأعياد على مدار السنة، ولكنَّها مهرجانات تنتقد وتنقد السفالة والنفاق والمرتشي والنذل والديوث والخائن وحتى الحاكم، ولمَّا يموت البطل في المسرحية، فإنَّ موته هو بعثٌ للأمل واستمرارٌ للصراع، ولمَّا نتفرَّج على عذابات البطل فلأنَّ المؤلِّف والمُخرج والممثلون يريدون أن نتأثَّر، وإذا ما فُرِضَ علينا الموت كما يجري لغزَّة فنذهبُ إليه بثقة وجرأة.
لا تراجيديا تشبه هذه التراجيديا التي تقيمها إسرائيل اليوم ولأشقائنا في غزَّة، لا في تراجيديات الإغريق ولا في تراجيديات شكسبير أو إبسن أو لوركا أو.. ما هذه الإسرائيل التي تؤمن بقوتها وقدرتها الذاتية في القتل، ولا قوَّة في العالم قادرة أن تقف في وجهها فتردعها أو تمنعها؟!. أسئلة أمام المسرحيين العرب للسنة الجديدة 2024، فنحن هنا وهناك لسنا في سباق مع الموت، ولا في سباق ضدَّ الموت، المسرح يُعيدُ للموت موته، وللحياة حياتها، لأنَّه مشروعٌ إنسانيٌ نبيل وبطولي، والمشتغلون فيه فرسان فِكْر، ورسل سلام وحقٍّ وخيرٍ وجَمَالْ.