}

بعد النكبة الثالثة لا بد من الوحدة

راسم المدهون 28 يناير 2024
آراء بعد النكبة الثالثة لا بد من الوحدة
يبدو التدمير الهائل لقطاع غزّة وكأنَّه "نكبة ثالثة" (Getty)
فوق الردم والدمار وأشلاء البشر والبيوت، يبدو الفلسطينيون كل مرَة "على حافة اليأس"، وكأنهم يحارون في اجتراح بداية ما تقربهم من "وصل ما انقطع"، من سيرورة شهدت منذ النكبة الكبرى تحولات ميدانية كان لها تغييرها العميق في الحياة الفلسطينية ذاتها. في أعقاب نكبة 1948، كانت المسألة الوطنية الأهم ـ إن لم نقل الوحيدة ـ الحفاظ ما أمكن على وحدة الشعب الفلسطيني، وبقاء وجوده على أرض وطنه، والبحث المضني عن "أدوات" سياسية، أو "مؤسسات" يمكنها تأطير هذا الوجود وتوحيده.
نتحدث هنا عن المرحلة بين زمني اللجوء والتبعثر، وبين مرحلة تأسيس "منظمة التحرير الفلسطينية" (1964)، وانطلاقة حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" (1965)، وكانا عنوانًا لحضور "الكيانية الوطنية الفلسطينية"، وتجسيدها للمرة الأولى منذ النكبة. في تلك الأيام، شهدت الساحة الفلسطينية (أو الساحات بالأدق) نشاطًا سياسيًا كثيفًا صفته الأبرز والأهم موضوعات لم تزل إلى اليوم هي العنوان الأهم، وفي مقدمتها الوحدة الوطنية الفلسطينية. أتذكر في هذا السياق سلسلة من الندوات الجماهيرية عقدها "أركان اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية"، وبالذات الراحل الدكتور حيدر عبد الشافي، خصوصًا في ندوته في تلك الأيام في مخيم خانيونس، والتي تحدث فيها بإسهاب عن الوحدة الوطنية، وبتركيز على التنوع، واحترام أدوار الأطراف السياسية الفلسطينية كافة. وأتذكر أن تلك الندوة شهدت نقاشات عاصفة، لكنها مفيدة وإيجابية عكست تمسك مختلف الأطراف بفكرة الحوار والصراع في إطار الوحدة.
تلك الروح الإيجابية، والتي انطلقت من فكرة التنوع والتعددية، وجدت نفسها بعد "النكبة الثانية"، وأعني هزيمة الخامس من يونيو/ حزيران 1967 أمام ما أطلق عليه الراحل أبو عمار "ديمقراطية غابة البنادق"، أي التعدد في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، والتي شارك الكل الفلسطيني في تكريسه بعد ذلك كـ"ممثل شرعي وحيد" للشعب الفلسطيني من خلال مؤتمرات القمة العربية، في الجزائر، وفي الرباط.
الدور الذي لعبته المنظمة كممثل للشعب الفلسطيني صار بارزًا، بل محوريًا، منذ أن رفعت شعار تحقيق الدولة الفلسطينية المستقلة في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، وحق اللاجئين في العودة إلى مدنهم وقراهم التي أجبروا على مغادرتها في النكبة الكبرى الأولى، وقد بات واضحًا منذ ذلك الوقت الأهمية الكبرى والاستراتيجية لدور المنظمة، وحتمية التمسك بها باعتبارها أداة التمثيل، ولكن باعتبارها أيضًا الوطن المعنوي والسياسي للشعب الفلسطيني، وقد تجسد ذلك في "اتفاق أوسلو" الذي اعترفت خلاله إسرائيل بالمنظمة بصفتها التمثيلية بعد دهر طويل من الإنكار والنفي. بهذا المعنى صار من أسس الوطنية الفلسطينية واجب الانخراط في صفوف المنظمة، باعتباره ضرورة، وليس اختيارًا ترفيًا، وذلك لا ينفي حقيقة أن تقوم القوى السياسية الفلسطينية ما بإعادة تجديد المنظمة على أسس أكثر حيوية تقوم على مبدأ الإنتخاب الحر الديمقراطي من القاعدة إلى القمة، أي من إعادة انتخاب أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني (برلمان المنظمة)، ثم انتخاب أعضاء "اللجنة التنفيذية"، وفي الوقت ذاته أن يتوافق الكل الفلسطيني على برنامج سياسي واقعي نراه في التوافق على "البرنامج المرحلي" بشعاره الهام والشهير، أي الكفاح من أجل تحقيق هدف الدولة المستقلة على حدود الرابع من يونيو/ حزيران 1967، وحق العودة للاجئين، وتلك في رأيي مسألة بالغة الأهمية كي لا تتبعثر النضالات الفلسطينية بسبب التناقض في الأهداف والغايات، والتي تجعل التأييد العالمي لحقوقنا واضحًا ومحددًا، ويمكن له أن يكون قاعدة تواصل بيننا وبين الآخرين.




نقول ذلك ونحن أمام ما خلقته "النكبة الثالثة"، وأعني التدمير الشامل والكامل لقطاع غزة، وما يفترضه من إعادة إعمار، ومن قرارات وجهود لإنقاذ مليونين وربع من الفلسطينيين الذين يجدون أنفسهم اليوم هائمين على وجوههم في العراء، وفي حاجة لأبسط الحقوق والحاجات اليومية، بدءًا من الطعام والماء، مرورًا بالمستشفيات والمدارس، وليس انتهاء بالمدارس والمراكز التعليمية والعلمية. هي حقيقة واقعية تفترض أن نقف جميعًا أمام هذه الحاجات باعتبارها أساسيات وطنية تحتاج إلى تكاتف الجميع على نحو غير مسبوق يليق ويتناسب مع حجم المأساة الإنسانية التي يعيشها قطاع غزة اليوم، والذين تحتاج نكبتهم الواقعية لاستعدادات واقعية مماثلة بعيدًا عن الشعارات الكبرى وبلاغتها وطنينها، والنزول عن تبادل المناكفات، وعن فكرة تحميل المسؤوليات وتبادل الاتهامات. ذلك يعني بالضرورة العمل الجاد والفوري على ردم فجوة الانقسام واستعادة وحدة الضفة الغربية وقطاع غزة من جديد في ظل حكومة وحدة وطنية ترعى الجميع ويتمتع الجميع فيها بمواطنته الكاملة والمتساوية مع الآخرين.
ذلك لا ينسينا أهمية الخروج من "نفق" الاتهامات والتخوين بكل ما حملته من فداحة الفرقة والتشرذم، والذي ساد في العقود الماضية، وهي حالة عامة جعلت النضال الفلسطيني يبدو في كثير من الأحيان غير مفهوم، بل غير منطقي، وأقرب إلى التنافر والتباعد، ولا يليق بمستوى المسؤولية الوطنية.
نقول هذا وننتبه لأهمية استثمار التأييد الدولي والإنساني الواسع للقضية الوطنية الفلسطينية التي بات تأييدها اليوم المسألة الأخلاقية والسياسية الأولى في العالم، وهو تأييد يفترض أن نعمل على تنميته ومراكمته ليمكن لنا ترجمته في الواقع إلى مكتسبات ملموسة لقضيتنا العادلة وحقوقنا المشروعة. لقد كانت نتائج العدوان الراهن على غزة بدايات جدية لإعادة حقائق قضية فلسطين أمام العالم كله باعتبارها قضية عدوان شامل وغير مسبوق تم خلاله السطو على وطن الشعب الفلسطيني وتحويله إلى دولة لمن لا يستحقون ولا يملكون حقًا في ذلك، وهو انكشاف تم بفضل كفاح الشعب الفلسطيني خلال محرقة غزة وما قدمه من عشرات آلاف الشهداء والجرحى والمعوقين، ومن خلال افتضاح الدور الاستعماري للدولة العظمى الأولى التي رعت العدوان، وظلت تصر على استمراره تحت شعارات وحجج كاذبة كانت تتساقط تباعًا خلال الحرب. إنها مرحلة جديدة تمامًا، وأعتقد أن أهميتها ودقتها تتجلى في كون قضية فلسطين كانت ولم تزل قضية رأي عام عالمي بامتياز، وهي لذلك تحتاج سعيًا فلسطينيًا دؤوبًا لنسج أوثق العلاقات مع كل القوى الشعبية التي تساندنا في العالم، والتي باتت اليوم ترى في محاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين في محكمة العدل الدولية فرصة لإحقاق الحق، ونوعًا من إعادة الاعتبار لأسس السلام العالمي، العادل والشامل، والذي لا يجوز له بعد اليوم أن يقفز على حقوق الفلسطينيين ووجودهم الحر المستقل في وطنهم. ومن يتابع ردود الفعل العالمية على محرقة غزة سيلحظ أن من يؤيدون المحرقة والحرب هم اليوم من "المعادين للسامية"، الذين هم في الوقت نفسه من المعادين للمهاجرين واللاجئين الذين يوصفون عادة باليمين المتطرف.
هذه مسألة على درجة عظيمة من الأهمية، فالكفاح الفلسطيني من أجل التحرر يواجه اليوم أعداءه الجدد ـ القدامى في حالة وحدة مع المكافحين ضد هذا "اليمين المتطرف"، وهي مسألة تضع كيان العدوان الصهيوني في حالة توحد وتكامل مع من يمثلون خطرًا على الحريات في أوروبا، وهو ما يجعل العداء للشعب الفلسطيني وكفاحه كفاحًا لقضية الحريات العالمية وحقوق الإنسان فعلًا وليس قولًا.
نحن في معركة كبرى تخوضها الإنسانية ويقف الشعب الفلسطيني في مقدمة صفوفها لبناء عالم متحرر من التطرف والعنصرية، وعلينا تشديد التحالف مع كل القوى الديمقراطية، وأنصار الحرية في العالم.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.