}

حين تجتمع السياسة والجغرافيا والفلسفة في السيرة

نبيل سليمان 30 يناير 2024

"إذا كان التاريخ السياسي لا يقول شيئًا، فقد أخذ الأدب السردي على عاتقه أن يكون مسرحًا لتناقض الأفكار وتصارع الرؤوس وتبدّل المصائر وصولًا إلى الانكشاف الأكبر لحقيقة الأمة".

"الزمن كائن شفاف، لا يخدع الناس".

"أدرس الجغرافيا من حيث أنها الجذر الأول للفلسفة. أليست هي التي حررت العقل البشري من الخرافة؟"

تلك نُبَذٌ من سيرة الكاتب السوري حسن صقر الذي رحل في مطلع السنة عن اثنين وتسعين عامًا. وقد صدرت السيرة منذ شهور تحت عنوان "دفاتر العزلة: حوار مع الزمن" عن دار الحوار للنشر والتوزيع. وهذه النُبَذ تؤشر إلى ما شكّل السيرة وهو يشتبك فيها، من دراسة الكاتب للجغرافيا وتدريسها زمنًا، ومن دراسة وترجمة الفلسفة واندغامها في حياته وكتاباته، وكذلك من السياسة في حياته وفي المجتمع والفكر والرواية، وأخيرًا أو أولًا: الرواية والروائي.

يرى حسن صقر أن المذكرات الشخصية شكل من أشكال القبض على التاريخ، وأن الذاكرة تكره الانضباط. أما السؤال الممضُّ فهو: هل نحن نكوّن التاريخ أم هو الذي يكوّننا؟ وقد تفاعل كل ذلك فيما كتب حسن صقر من سيرته، حيث يشبّه الكتابة بغانية متطلبة يهيم بها عجوز، كما يصفها بالمطلب البعيد المنال. ويعجّل الكاتب منذ هذه البداية إلى الإعلان بأن الكتابة هي ما أبعده عن الانخراط في الأحداث السياسية. كما يعلن أنه يميل إلى الحياة المتنكرة، رغبة منه في فهم مكر الواقع، حتى قيل عنه إنه غير سياسي، وبلا طموح للارتقاء اجتماعيًا. لكن هذا الرجل نفسه انتسب إلى حزب البعث عام 1948 وهو طالب في ثانوية البنين في اللاذقية على يد أحد مؤسسي الحزب: الدكتور وهيب الغانم. وفي الجامعة كان عضوًا في الفرقة الحزبية في كلية الآداب، كما كان مواظبًا على حضور محاضرات ميشيل عفلق عميد الحزب كل ثلاثاء في المدرسة الحزبية. وفي حديثه عن ميشيل عفلق يذكر أنه قرأ له مقالتين في مجلة الثقافة الدمشقية: واحدة عن مارسيل بروست والأخرى عن أندريه جيد. ويصف عفلق بأنه حدسي استبطاني رمزي، ينطلق من الميتافيزيك، ومعجب بالرسول، ومبشر بالصوفية القومية.

وفي وفد حزب البعث زار حسن صقر مدينة القدس وقلقيلية، كما سُجن مع 7 طلبة آخرين على عهد الرئيس السوري الأسبق وصاحب الانقلابات العسكرية أديب الشيشكلي، وكان أن استقال المفكر القومي ورئيس جامعة دمشق قسطنطين زريق احتجاجًا على اعتقال الطلاب. ويسجل الكاتب: "أعترف الآن بأن حزبيتي كانت دائمًا في حدها الأدنى". كما يصف تحزب أساتذته البعثيين (سامي الدروبي وحافظ الجمالي وبديع الكسم) بقوله: بعثيتهم خجولة، فهم مشغولون بمشاريعهم الخاصة. أما سليمان العيسى فينعته حسن صقر بصاحب "الشعر السطحي" الذي يمثل القسم الأعظم من التراث الروحي لحزب البعث، وله تأثير سلبي على أجيال الحزب المنطلقة نحو الثقافة. ويحدّد الكاتب سبب ذلك بأن قضية الإبداع ليست قضية الحزب. وغير بعيد عن ذلك ما يذكر الكاتب عن شقيقه وزير الإعلام الأسبق والمترجم أسعد صقر، عندما كان طالبًا في ثانوية البنين في اللاذقية مع أدونيس وحافظ الأسد وغازي أبو عقل. فقد نشرت حميدة نعنع في مجلتها - واسمها (الزاوية) فيما أذكر، وقد صدر منها في باريس عدد واحد فيما أذكر، ومنه نسخة تائهة في مكتبتي - حوارًا مع أدونيس يتحدث فيه عن أن أسعد صقر شتمه وهو وزير، وأنه هو من تصدر انتخاب لجنة الطلاب، وليس حافظ الأسد... وعلى أية حال، من اللافت أن حسن صقر يصمت عن حزب البعث بعدما تولى السلطة في سوريا عام 1963 حتى اليوم.

يكتب حسن صقر ممتدحًا أنطون سعادة، مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي، فيراه باعث نهضة حقيقية لا تساوم على هويتها العلمانية، ومؤمنًا بالأسطورة السورية المبدعة. والشاب البعثي الذي يذكر أنه كان ورفاقه كثيرًا ما يقضون الليل في مكتب الحزب في اللاذقية، حيث تتوفر الكهرباء والماء، يتذكر الانقلاب العسكري الأول الذي قاده حسني الزعيم، ويصف قائد الانقلاب بالبغيض السوقي، وبالطاغية ذي الوجه اللحيم الخالي من أي تعبير إنساني. كما يتذكر هاشم الأتاسي، رئيس الجمهورية السورية الأسبق، وأنه قابله مع شباب من حزب البعث بعدما عادت إليه الرئاسة وتولّى سلفه أديب الشيشكلي، فيصف الأتاسي بأنه فاقد الأهلية، وبدا في اللقاء لا يعرف ما يدور حوله بسبب مداركه المتهالكة، وكان ابنه عدنان الأتاسي بجانبه يصرخ في أذنه لينقل إليه ما يدور. ومن قبل، على عهد أديب الشيشكلي الذي أبقى في بداية سيطرته على السلطة على هاشم الأتاسي رئيسًا للجمهورية، يكتب حسن صقر أن الأتاسي كان رئيس جمهورية عجوزًا أو ضعيفًا في نظام عسكري.

وفي هذا السياق (السياسي) تأتي ذكريات الكاتب عن عمله لشهرين مدرّسًا في إعدادية البعث الخاصة - غير الحكومية - في القرداحة براتب شهري قدره مائة وخمسون ليرة سورية. وكان زميله في التدريس وشريكه في السكن أحمد صدقي الدجاني، الذي سيصير المفكر والمؤرخ الفلسطيني وأحد مؤسسي منظمة التحرير الفلسطينية. ويتذكر حسن صقر أنه كان في حارة العيلة من القرداحة، وحيث إعدادية الشريف الرضي، بيتان لآل الأسد، أحدهما لعلي سليمان الأسد والد حافظ، والثاني لعزيز سليمان الأسد. ونقرأ أن الشاب حافظ الأسد كان يأتي في الفرصة إلى المدرسة، ويتبادل المزاح والحكايات الطريفة مع الجميع إلى أن يقرع الجرس فينصرف، وكان ينتظر نتيجة قبوله في الكلية الجوية، بينما كان حسن صقر يتنظر نتيجة قبوله في المعهد العالي للمعلمين في دمشق. وحول أصل آل الأسد يكتب حسن صقر أن ما يهمه كجغرافي هو حركة النزوح من القرى الجبلية إلى ما دونها بسبب المجاعات أو الصراعات. ويرجح أن يكون جد آل الأسد قد جاء نزوحًا من إحدى القرى الجبلية إثر حادث ما، وبعد ذلك استقر في القرداحة، إذ يدل موقعهم فيها على "أن المرء ضمن الشيء وخارجه في وقت واحد".

تحدّث صقر في روايتيه "شارع الخيزران" و"طائر الرحيل" عن مسؤولية الأنظمة التي تسببت بهشاشة البنى الاجتماعية والسياسية. بل إن ما جاء في هاتين الروايتين عن سورية بعد 2011 يتناقض مع ما جاء في خاتمة سيرته، إذ لا تصمت الروايتان عن مسؤولية النظام


نشأ حسن صقر في قرية عين شقاق قرب جبلة، وحيث ضريح العقيد محمد ناصر (1914-1950) الذي كان قائد سلاح الطيران، واغتيل في 31/7/1950 في عهد الشيشكلي. ويذكر صقر أنه نشأ في ظلال من التحالف بين طبقتي الإقطاع ورجال الدين، واللتين كانتا تتخوفان من التعليم، درءًا لضياع النفوذ. وكان رجال الدين بخاصة يصفون الشباب الذين تعلموا ولم يعودوا يسترون رؤوسهم بأنهم دهريون. وقد دخل الكاتب اللاذقية لأول مرة عام 1945، وكانت تضم تلكلخ ومصياف وجسر الشغور وكل محافظة طرطوس الحالية التي فصلت عن اللاذقية عام 1966. ويذكر من أساتذته في الإعدادية والثانوية الشاعر والمترجم عبد المعين ملوحي، الذي نُقل من مدينته حمص لأنه شيوعي، وكان يدرّس قصيدته (بهيرة)، والتي اشتهرت بتجديفها. كما يذكر الكاتب أستاذه الحمصي أيضًا عبد البر عيون السود، الذي كان يؤمن بأن الفلسفة، وبخاصة منها الألمانية، يمكن أن تكون شرارة لإذكاء فكرة القومية العربية. وقد نصح الأستاذ الطالبَ بقراءة "هكذا تكلم زرادشت" بترجمة فيلكس فارس. ومن عهد الكاتب بالجامعة يتذكر بمرارة حرية الاختلاط بين الطلاب والطالبات، كما في المعهد العالي للمعلمين، والعريضة التي وقّع عليها طلاب من مختلف الأديان والطوائف، يعترضون على تحديد دين رئيس الدولة بالإسلام.

تجلو "دفاتر العزلة" هيام صاحبها بالثقافة الألمانية، بالفلسفة والأدب الألمانيين، فيما يتذكر سنوات دراسته في ألمانيا، ومنها زمالته لناجي نجيب المصري الذي سيقيم في ألمانيا ويصبح ناقدًا كبيرًا. وفي صميم ذلك الهيام تأتي الفلسفة والجغرافيا، وهو الذي يراهما قد انطلقتا من أصل واحد هو فضول الإنسان ورغبته في البحث. وقدوته في ذلك هو الفيلسوف كانط الذي درّس الجغرافيا قبل الأستاذية في الفلسفة. كما يصل الكاتب بين الرواية والجغرافيا، وينفي أن يكون ثمة تناقض بين العمل السردي والبحث الجغرافي، فالعمل السردي يحتاج إلى ارتياد آفاق مجهولة في الطبيعة وفي النفس البشرية.

حفظ حسن صقر في ألمانيا "فاوست" غيبًا، وهو يعدّها تراجيديا كونية من أعظم ما قدمته الحضارة الغربية في الشعر والفلسفة والمسرح. والرجل متيّم أيضًا بـ "هكذا تكلم زرادشت"، لكن جبران خليل جبران خيّبه في "النبي".

يستفيض الكاتب في التأرخة فيما كتب عن برلين وميونيخ وهامبورغ، وعن هيغل وماركس وريكله ونيتشه وغوته وكانط وبيتهوفن وتوماس مان وبرامز وشبنغلر... وعبر ذلك يبدو حسن صقر متيمًا، وليس ذلك ببعيد عن ترجماته، ابتداءً بمسرحية غوته (إفجينيا في تاوريس)، وبعدد من الكتب منها لنيتشه أيضًا (مقاتل من أجل الحرية) ولجوزيف كامبل (وجه قوة الأسطورة) ولهابرماس (الدين والعقلانية – الخطاب الفلسفي للحداثة) ولماكس فيبر (الأسس العقلانية والسوسيولوجية للموسيقى)، وهو الكتاب الذي نال عنه المترجم جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي في قطر. على أن رهان حسن صقر لم يكن على الترجمة ولا على تدريس الجغرافيا ولا على السياسة، بل على الرواية، وعلى القصة أيضًا، فترك فيهما: الضوء الخافت – البحث عن الظلام – جبل الشوح - الوجه الآخر للسقوط – الموت في المدينة – امرأة قرب التمثال – وردة الشمال – رجل الذهب – شارع الخيزران، وآخر رواياته كانت: طائر الرحيل.

نحتْ روايات وقصص حسن صقر نحو الكلاسيكية بامتياز. وهو يكتب في سيرته "دفاتر العزلة: حوار مع الزمن" أنه كان له "طموح غريزي" نحو الرواية، لكنه كان يخشاها. وفي السيرة مقولات عديدة تتصل بفن الرواية وبتجربته في كتابتها. فالناس العابرون في الشوارع هم المادة الأولية التي تحبل منها الرواية، ويشبه ذلك بقصب السكر الذي يشكل المادة الأولية لاستخلاص السكر. ونقرأ: "إذا كنت مهمومًا بعمل سردي فليس لي إلا الشارع". ويتصل بذلك ولعه بالجلوس في المقاهي في اللاذقية، ومنها مقهى البستان بصحبة المسرحي والوزير السابق مصطفى الحلاج، وزميل الدراسة عام 1950 اللواء المتقاعد والكاتب والمترجم غازي أبو عقل. أما الركن الأساس فهو مقهى السويس، بصحبة الياس مرقص الذي يصفه بالمفكر السياسي والماركسي الأصولي المتقشف ذي التأثير داخل وخارج سورية. ويذهب حسن صقر إلى أنه ربما لم يكن لالياس مرقص صديق "لأنه يريد منك أن تصغي إليه". ويقول أيضًا إن الياس "يتألف" مع الفكر السياسي، بينما يتألف هو مع الأدب.

يختم حسن صقر سيرته بالمفاجأة الكبرى، وربما غير السارة بالنسبة لي، وربما لرهط من أصدقائه وقرائه، وذلك حين يتحدث عما اشتُهر بالربيع العربي في سورية سنة 2011 وما تلاها، فيجزم أن ذلك الربيع كان حربًا عبثية، وغايته تدمير البنى الاجتماعية والسياسية الهشة للبلاد العربية، وقد لا تكون إسرائيل بعيدة عنه، وسيكون علينا الانتظار لزمن لا بأس به حتى تتكشف خيوط اللعبة المحكمة بقصد تدمير سورية التي صارت بلد الضغائن والأحقاد والشر والآلام. كما يصف الكاتب (الربيع العربي) بالشتاء السيبيري مرة، وبالصيف الرمضاني للصحراء الأفريقية مرة، ويكتب أنه ظل نصف عام مشتتًا معرضًا عن كل ما له علاقة بالثقافة من القراءة والكتابة: "أجدبت حياتي".

قبل 2011 بسنوات كانت اللاذقية قد شهدت ظاهرة ثقافية فريدة في سورية، عُرفت بسهرة الثلاثاء، وناف المشاركون بها عام 2011 على الثلاثين من كتاب وشعراء ومحامين وأطباء ومهندسين، وبينهم أكثر من سجين سياسي سابق. وفي سنة 2011 كان يحضر من إدلب خطيب بدلة وتاج الدين الموسى وعبد العزيز الموسى وأبونا إبراهيم، كما كان يحضر آخرون من طرطوس وجبلة. وفي أكثر من سهرة حضر أدونيس وعادل محمود وسواهما، ولم يكن بين الثلاثائيين من هم في سن الشباب.

تحدث حسن صقر في سيرته عن هذه السهرة التي كان من قدامها، فقال إن هذا (التجمع الثقافي العفوي) تبدد حين حل الربيع العربي "كضيف ثقيل على اللاذقية وعلى المنطقة العربية"، وكتب: "بطرفة عين صار الناس كأن أحدًا منهم لا يعرف الآخر". وفي هذا القول مجافاة للحقيقة، إذ استمرت (الثلاثاء)، وبالطبع باختلاف الآراء والمواقف، حتى غادرتها مجموعة منها وفيق خنسة وأسامة الفروي وصلاح صالح. ونظم أولاء سهرة خاصة بهم، بينما استمر حسن صقر مع الباقين - وأنا منهم - حتى نهاية العام، عندما غادرها هو مع عصام سليمان، وكان قد توقف من يحضرون من خارج اللاذقية بسبب الأوضاع الأمنية، كما غادر آخرون البلاد (منذر حلوم مثلًا)، وغيّب الموت آخرين. وعلى الرغم من ذلك تابع من تبقى من الثلاثائيين لقاءاتهم، بينما أخذت تتكون مجموعة جديدة عُرفت بالأحديين، لأن لقاءاتها كانت تنعقد في الأحد. ومن هذه المجموعة من كان من الثلاثائيين مثل كاتب هذه السطور، ومنهم من لم يكن مثل عبد الله هوشه ومنذر مصري.

لم يكن لحسن صقر في سهرات الثلاثاء إلى أن غادرها مثل الآراء التي كتبها في خاتمة سيرته. أو على الأقل، لم يكن فيها مثل هذا الصمت عن مسؤولية النظام – الأنظمة، سواء في أسباب الانتفاضة السلمية الشعبية، أو في مآلاتها. وها هو في تلك الخاتمة يتحدث عن "البنى الاجتماعية والسياسية الهشة". وما أكثر ما تحدث في لقاءات الثلاثاء، ثم في روايتيه "شارع الخيزران" و"طائر الرحيل"، عن مسؤولية الأنظمة التي تسببت بهشاشة البنى الاجتماعية والسياسية. بل إن ما جاء في هاتين الروايتين عن سورية بعد 2011 يتناقض مع ما جاء في خاتمة سيرته، إذ لا تصمت الروايتان عن مسؤولية النظام، وعلى نحو يبدو معه الأمر كله كأنه مؤامرة عالمية إسرائيلية، وبالرطانة التي علت زمنًا: مؤامرة كونية وحرب كونية.

مقالات اخرى للكاتب

استعادات
15 أبريل 2024
يوميات
31 مارس 2024
آراء
15 مارس 2024
آراء
1 مارس 2024

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.