}

أطياف محمد الغزي

نبيل سليمان 1 مارس 2024
آراء أطياف محمد الغزي
محمد الغزي
ما أكثر ما أنعمت عليّ القراءة في التاريخ وفي التراث بأطيافٍ لمدن وشعراء وبحارٍ وفنانين وصحارى وكتّاب...
هكذا كانت النعماء بمدينة القيروان وبابن رشيق أثناء الدراسة الجامعية. وظل الأمر كذلك إلى ربيع عام 1985، عندما تلقيت دعوةً للمشاركة في الدورة السادسة لملتقى ابن رشيق النقدي، والذي انعقد في مدينة المسيلة الجزائرية قرب الحدود التونسية، بمشاركة جزائرية تونسية سورية.
تكاثرت عليّ يومئذٍ محاسن الصدف، فقد جمعتني بأستاذي الجليل وشيخ الأدب الأندلسي جودت الركابي. ولأول مرة اجتمعت بالشاعر الجزائري محمد صالح حرز الله، واصطحبني بسيارته العجيبة التي قطعت 250 كم من العاصمة إلى المسيلة، حيث كان قد وصل الوفد التونسي بالحافلة، قاطعًا مئات الكيلومترات، وساعات عشرًا، ورهقًا ألجأ إلى السرير من هم أكبر سنًا: العروسي المطوي ومصطفى الفارسي، بينما كان الشباب من بقية الوفد يتسامرون: محمد الباردي ورضوان الكوني واحميدة الصولي و ... من أيضًا؟
لأن ابن رشيق هو من جمعنا، أقبلت أتقرّى له أثرًا في المسيلة حيث ولد. ولا أذكر في يد من رأيت ديوان (كتاب الجمر كتاب الماء) للشاعر محمد الغزي، ابن مدينة القيروان، فأقبلت أتقرى أثرًا لابن رشيق في المدينة التي سيمضي من المسيلة إليها، وبالنسبة إليها سوف يشتهر: ابن رشيق القيرواني.
بعد شهور من ذلك الملتقى سألتقي محمد الغزي في زيارتي الأولى لتونس، حيث جمعنا مهرجان قابس في ندوته الأدبية الأولى (الخطاب الروائي بين الواقع والأيديولوجيا) أيام 25-28 تموز/ يوليو 1985، وشارك فيها الفرنسي التونسي جاك فونتان ومحمود أمين العالم وعبد الرحمن منيف وعبد الرحمن الربيعي ويمنى العيد، ومن تونس توفيق بكار وعروسية النالوتي وفرج الحوار ومحمد طرشونة وحسين الواد وعمر بن سالم، ومن سيسكنون الروح: محمد الباردي وصلاح الدين بوجاه ومحمد الغزي.
إلى القيروان سأسرع بصحبة القيروانيين بوجاه والغزي. وسأعود إليها في أغلب زياراتي إلى تونس، وما أكثر ما زرتها خلال تسع وثلاثين سنة مضت.
هكذا ما عاد صاحب (العمدة في محاسن الشعر ونقده وآدابه) وصاحب (أنموذج الزمان في شعراء القيروان) وسواهما بعيدًا جدًا، على مسافة ألف سنة، بل صار صديقًا من مدينة الأغالبة التي وصفها ابن خلدون بعاصمة أفريقيا، مدينة الثلاثي الذهبي. محمد الغزي وصلاح الدين بوجاه والمنصف الوهايبي. ومن زيارة إلى زيارة أضفتُ إلى ابن رشيق ابن الرقيق القيرواني الذي وصفه ابن خلدون أيضًا بمؤرخ أفريقيا والدول التي كانت بالقيروان.
في حضرة الغياب – كيلا أقول في حضرة الموت – تهمي الصور والذكريات، يوحدها ويتخللها ويذرّرها محمد الغزي، فأرى غضبةً مضمرة من (الزحفة الهلالية) على المدينة التي توحّد بها فتوحدت به: القيروان التي دمّرها الهلاليون، فـ "أحرقوا البساتين والمكتبات، وشنقوا الأعيان والعلماء، واغتصبوا النساء أمام أزواجهنّ والعذارى أمام آبائهنّ".




وأرى غضبة أخرى، لكنها ليست مضمرة من النقاد المشارقة الذين يأخذ عليهم أنهم لا يقدرون الشعر التونسي حق قدره. ولن يشفع لي أنني نادرًا ما كتبت عن الشعر، ولا أنني كتبت كثيرًا عن الرواية التونسية، ولا أنني عرفته شاعرًا قبل أن نلتقي. لكن غضبته هذه ستتلاشى عبر السنين. وثمة غضبة ثالثة له، شهدتُها بعد سنوات من الثورة التونسية، صبّها على الكثيرين الذين دفعتهم الحماسة إلى التطبيل والتزمير – هذا بلغتي، والاحتفاء بلغته – لكن من تدافرت كتاباتهم الثورجية – هذا بلغتي، والثورية بلغته – دون أي اعتبار للجمالي والفني. وزاد غضبًا ما حدثته عنه من الفيض غير الحميد في الروايات بخاصة، وفي الكتابة عمومًا، بعد الثورة/ الزلزال في سورية عام 2011، حيث تقدمت الشعارية والراهنية على حساب الجمالي والفني.
وثمة غضبة رابعة لمحمد الغزي صبّها على إرث محمود المسعدي وعلى تأبيد أدبه في الشهادة الثانوية (البكالوريا) هادرًا: "أدب المسعدي كُتب لأجيال مضت وانقضت"، ونافيًا أية علاقة للقارئ المعاصر بلغة المسعدي الغريبة وأسئلته الوجودية القديمة.
أما غضبة محمد الغزي التي أعرفها فقد صبّها على أدونيس حين اتهمه بالسطو في كتابه (ديوان البيت الواحد في الشعر العربي) على كتاب خليفة التليسي (قصيدة البيت الواحد). ولم يهدئ من غضبته ما قلت له – وربما قاله غيري – من أن تطابق المحتوى بين الكتابين لا يكفي وحده للحكم بالسطو، لأن المصدر واحد والمدونة واحدة، عدا عن أن أدونيس أورد ما لم يرد في كتاب التليسي. والحق أن غضبات محمد الغزي هي الغضبات الوديعة لهذا الشاعر والكاتب والناقد الوديع، وهي أقرب إلى المعارك الثقافية التي يحكمها الوعي الثاقب والموقف الدقيق.
على هدي من قراءاتي لشعر محمد الغزي، ومن معرفتي الشخصية به، أظن أنه كان الشاعر المحكِّك لشعره، بأكثر مما كان شعره محكَّكًا. وقد كان ما بين شعره وبين الطبيعة يفتنني. وما أكثر ما تردد صوته في سمعي – وأنا بين أشجار التين في حديقة بيتي الريفي – هامسًا: "أصغي لانعقاد التين".  وما أكثر ما استوقفني ما للجبال في شعره، وهو المسكون بالقيروان المسترخية في "منبسط من الأرض" والجبال بعيدة عنها.
بديوانه الجديد (الجبال أجدادي والأنهار إخوتي) ودعنا. ومن قبل كتب مخاطبًا المعتمد بن عباد: "يا بن ماء السماء/ استجب إن دعتك الجبال/ فثمة ينعقد البرق/ ثمة تولد كل يوم الغيوم". وحين كنت أسأل عن حكايته مع الجبال كانت ابتسامته الرضية هي الجواب، ثم يستعيدني ما كنت قد حدثته به عن بيتي الريفي على ارتفاع 700 متر، وسط سلسلة جبلية، وحيث لا تزال تُسمع أصوات الثعالب في الليالي، بعدما اختفت الضباع والخنازير البرية، كما أوشكت الغابات أن تختفي.



مثل الجبال هو الماء في شعر وفي روح محمد الغزي، وحسبه أن الماء كان عنوانًا: (كتاب الجمر كتاب الماء) و (وجوه النرجس مرايا الماء) و(سليل الماء)، فهل هي أسطورة ولادة القيروان على شفا بئر ماء؟ ما الذي كان يعنيه من نظرِ كارل غوستاف يونغ للماء كرمز أمومي وأنثوي أكثر قدمًا وقدامة؟ ولكن مالي ولهذه الأسئلة؟ ألا يكفي أن يقول محمد الغزي: "أنا كائن من ماء وعشب"؟
عليّ الآن، بل لي الآن، أن أغمض عينيّ لأكون بين محمد الغزي وصلاح الدين بوجاه في سوق العطارين، أشتري البخور الذي سأهديه إلى أمي، أردد أنغام المطارق الدقيقة السابحة من سوق النحايسية القيرواني إلى سوق النحاسين الدمشقي. وللذاكرة ما تشاء من رابعة المدن المقدسة: القيروان بعد مكة والمدينة والقدس: جامع عقبة بن نافع أو جامع ابن خيرون أو مقام سيدي الصاحب أو مقام أبي زمعة البلوي أو بئر البرّوطة وهذا الجمل الذي يدور لتُسحب دلاء الماء، أو سوق الربع أو باب الجلادين أو فسقية الأغالبة أو... أو (لازمنا نحليو) وهذا هو عبق المقروض، ولا يكفي محمد أو صلاح أنك لا تشبع من هذه الحلوى، فيحملانك إلى بلادك أحمالًا.
إذا كانت الطبيعة واسمةً كبرى لشعر محمد الغزي، وتميل به إلى الرومانسية، فالصوفية هي واسمته الكبرى أيضًا، حيث ما أدعوه بالتشذير المقطّر غالبًا. وتذهب الإشارة بخاصة إلى ديوان (كثير هذا القليل الذي أخذت). وشعر الغزي كثيرًا ما ينبض بوعي الذات الموصول بوعي العالم، ووعي الشعر.
إلا أنه الموت الذي لم يطرق حياءً حين أتى إلى الشاعر الذي كتب: "إذا جاءني الموت مستخفيًا/ ورآني في زرقة الليل محتفلًا/ أستزيد نداماي بعض الشراب/ سيطرق مستحييًا/ ثم يخرج مرتحلًا ويغلق بابي". إنه الموت الذي كتب الشاعر أنه سوف يستمهله إذا ما جاء فجرًا "فعلى الأرض خمور لم أذق أطيبها/ وذنوب لم أقترف أجملها". لكن الموت عاجله، ولا أحد يحير جوابًا على سؤال الشاعر سواه هو والموت: "إذن ما الذي سوف يغنمه موتنا/ إن جاء/ غير هذا القليل". 

مقالات اخرى للكاتب

استعادات
15 أبريل 2024
يوميات
31 مارس 2024
آراء
15 مارس 2024
آراء
1 مارس 2024

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.