}

"الطوفان" لعزمي بشارة: القانون الدوليّ والإبادة الجماعية (3/3)

جورج كعدي جورج كعدي 7 أكتوبر 2024

نصل بهذا الجزء الثالث إلى ختام قراءتنا لكتاب الدكتور عزمي بشارة القيّم "الطوفان ــ الحرب على فلسطين في غزة"، الصادر حديثًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وفيه بحث وتأمّل ومناقشة للحدث الكبير الذي لم يبلغ خواتيمه حتى هذه الساعة. وقد بلغت قراءتنا في هذا الجزء الأخير الفصل الثالث الذي يحمل عنوان "السياسة والأخلاق والقانون الدولي"، ويركّز فيه الباحث على جوانب عدة أبرزها موقف الولايات المتحدة من حدث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، "وانصعاقها وغضبها إلى درجة عدم الاكتفاء بتكرار الرواية الإسرائيلية بحذافيرها، وإنّما من خلال المشاركة أيضًا بالاستنتاجات المتعلقة بضرورة التخلّص من حركة حماس، على الرغم من معرفتها أن هذا يعني تدمير قطاع غزة، وقتل أعداد يصعب حصرها من المدنيين، وأن الضوء الأخضر الأميركي والتواطؤ في شن حرب شاملة يمكن أن يُستغلّا إسرائيليًا لارتكاب جرائم إبادة، وتنفيذ خطط تهجير قديمة" (ص131).
هذا تمامًا ما حصل، في رأيي، من إبادة للمدنيين يُنفذّ مثلها اليوم في لبنان، أيضًا بتواطؤ وضوء أخضر أميركيين، إن لم يكن في الحالتين تولٍّ أميركيّ لقيادة الفعلين الإباديين.
يرى الدكتور عزمي أن "التورّط الأميركي وصل إلى حدّ مشاركة رئيس الولايات المتحدة، ووزير خارجيته، شخصيًا، في اجتماعات مجلس الحرب الإسرائيلي التي مهّدت للحرب البرية على قطاع غزة" (ص132)، ويشرح الاستراتيجية الدولية التي بناها الرئيس بايدن في السنتين الأخيرتين من حكمه بالتركيز على التوسع الصيني، وتحجيم روسيا من خلال دعم أوكرانيا بحزم وثبات، وعدم التسامح مع أي تردّد تبديه الدول الأوروبية، بغية إعادة التماسك إلى حلف الناتو، بعد أن فرّق الرئيس الأميركي السابق (وربما العائد) دونالد ترامب شمله... والعمل على بناء محور إسرائيلي ــ عربي موالٍ للولايات المتحدة يمكنه ضبط "الأمن والاستقرار" في المنطقة، وإدماج إسرائيل طرفًا فاعلًا ومقبولًا في تصوّرات الأمن والاستقرار الإقليميين. ويرصد الدكتور عزمي اتخاذ سياسات بايدن مسارًا معاكسًا لسياسات ترامب عالميًا، باستثناء الشرق الأوسط، حيث استمرّ في سياسة سابقه نفسها بعد توتر موقت مع القيادة السعودية، والسبب هو وجود إسرائيل في المنطقة، وإخضاع أجندات الولايات المتحدة فيها لأجندة إسرائيل (ص132).
ماذا بشأن الدول العربية؟ سؤال يطرحه الباحث، لافتًا القارئ إلى أن "الدول العربية تنقسم إلى دول عربية مشاركة في المحور المذكور سابقًا، ومع ذلك غير قادرة على مواجهته، أو القيام بخطوات عملية بشأن قضية فلسطين، ودول تعاملت مع قضية فلسطين أداتيًا، ما أفقدها صدقيتها في هذا المجال تحديدًا، ودول منشغلة بصراعات داخلية ارتكبت فيها الأنظمة جرائم تقلّل من صدقيتها عند تناول جرائم الاحتلال الإسرائيلي (...) أمّا الدول المطبِّعة، فإنها شاركت إسرائيل والولايات المتحدة غضبهما في البداية، وربما أَملت أن تقضي الحرب على حماس، متحملةً ضرورة تغيير الخطاب السياسي موقتًا إلى خطاب تضامني مع غزة (مع نقد حماس ومواصلة مقاطعتها) إلى حين تنهي إسرائيل هذه العملية" (ص134). بذلك، يضع الدكتور عزمي بشارة العرب في قوائم متمايزة، فبعض الأنظمة تخلّت عن القضية الفلسطينية، وبعضها الآخر مطبّع يسير في الركب الأميركي ــ الإسرائيلي وينتظر هزيمة حماس، وبعض ثالث (الديكتاتوري المجرم في بلده) لا يَنتقد العنف الإسرائيلي كي لا يُنتقد عنفه. تصنيف دقيق لتلك الدول العربية التي إن أبدت تضامنًا مع الشعب الفلسطيني فإنما لا يكون تضامنها أكثر من تضامنٍ لفظيّ.




بالنسبة إلى إسرائيل، يرى الدكتور عزمي "أنّ أثر العملية العسكرية المباشرة هو انغلاق المجتمع الإسرائيلي وشعوره بعزلة إقليمية، وعودة المقاربات العسكرتارية، وعدم تحميل المسؤولية عمّا جرى في ذلك اليوم للاحتلال، ولا لسياسات إسرائيل، بل عزو الكارثة التي وقعت إلى إخفاق استخباري وعسكري" (ص135)، ملاحظًا أن "الانزياح الإسرائيلي نحو العسكرة مجددًا لا يعني تراجع هيمنة خطاب الصهيونية الدينية في قضية فلسطين، فالذين يتصدرون السياسة الإسرائيلية في استطلاعات الرأي هم القوميون المتطرفون، ومنهم متدينون، مثل نفتالي بينيت، وغير متدينين، مثل الجنرالات العلمانيين. والمشترك بينهم هو النزعة الأمنية العسكرية ورفض عناصر الحل العادل لقضية فلسطين. يهمّش هذا التحالف الأحزاب الدينية مرحليًا، وينشئ مركزًا جديدًا للخريطة السياسية لإسرائيل في المرحلة الراهنة" (ص136). أمّا السلوك العام الإسرائيلي فيتلخّص في نظر الباحث "بالتلاحم القبليّ بحثًا عن العزاء والأمن لتبديد الخوف، وذلك من أجل، أولًا وقبل كل شيء، استعادة التوازن وهيبة الردع بتنفيذ الانتقام الثأري من الفلسطينيين في قطاع غزة، وأيضًا في الضفة الغربية (...) وتبيّن في هذا الأثناء، مرة أخرى، أنّ مواطنة العرب في إسرائيل لا تقوم، في نظر الغالبية اليهودية، على أساس ديمقراطي، بل على تسامح المتفوّق، فالمواطنة، حتى من الدرجة الثانية، صالحة لأزمنة التسامح مع الآخر، ولكنها غير صالحة على الإطلاق حينما يشعر المجتمع الإسرائيلي بالتهديد (...) وقد انضمّت إسرائيل إلى قائمة الدول التي قد تؤدي فيها تغريدة إلى الاعتقال، أو قد يُطرد طلاب وأساتذة من الجامعة بسبب آرائهم التي يشتمُّ منها تأييد مقاومة الاحتلال أو التسامح معها" (ص136).

مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين في أدنبرة/ اسكتلندا في الذكرى السنوية الأولى للحرب على غزة (5/ 10/ 2024/Getty) 


يلحظ الدكتور عزمي بشارة أن كثيرًا من الدول والحكومات والمؤسسات الإعلامية، على الصعيد العالمي والعربي، راحت تردّد الرواية الإسرائيلية بحذافيرها بشأن السابع من أكتوبر، وتقرع طبول الحرب مع إسرائيل، وتدعم العملية العسكرية، وتتبنى الأكاذيب الإسرائيلية "وسرعان ما نشأت أجواء شمولية على مستوى الخطاب تذكّر بلفظ Gleichschaltung الألماني، الذي أصبح في مرحلة الحكم النازي يعني توجيه مجمل نشاط مؤسسات الدولة والمجتمع إلى خدمة الهدف نفسه، ما يتطلّب درجة عالية من السيطرة والتنسيق والانسجام الشعوريّ، والقابلية للانقياد أيضًا" (ص137). وثمة جانب من هذه الأجواء الشمولية تمثّل، على ما يلاحظ الباحث، في انضمام وسائل الإعلام الغربية إلى جوقة التحريض "متنازلةً عن أبسط قواعد الحياد، حتى الحياد السلبي، وكأنّها جزء من حملة منظمة (...) ودفع هذا الواقع بعضهم إلى التشكيك في قيم العدالة والحرية والمساواة وكأنّها مجرد نفاق (...) ولم ينجُ من هذه الأجواء مفكرون يعدّهم المعجبون بهم أصحاب قيم كونية، سواء أكانت يسارية أم ليبرالية، ومنهم هبرماس، وبن حبيب" (ص139). وقد مررنا في الجزء الثاني من قراءتنا هذه على ردّ الدكتور عزمي على كلّ من هبرماس، وبن حبيب.
بالانتقال إلى تعريف الإبادة الجماعية في المواثيق الدولية، يوضح الدكتور عزمي بشارة أنّه "خلافًا لما يُعتقد، لم يُنحَت مصطلح الإبادة الجماعية (Genocide) القانوني بناءً على كارثة الهولوكوست، بل بناءً على تصرفات قوات الاحتلال الألمانية في الدول الأوروبية عمومًا، أي بما في ذلك في وصف جرائم أقلّ من المحرقة النازية ليهود أوروبا" (ص140)، مستشهدًا بالتعبير الذي صاغه المحامي البولندي رفائيل ليمكين (1900 ــ 1959) للمرة الأولى وهو "الإبادة الجماعية" في كتابه "حكم المحور في أوروبا المحتلة" (Axis Rule in Occupied Europe) عام 1944، حيث كتب: "بشكل عام، جريمة الإبادة الجماعية لا تعني بالضرورة التدمير الفوري والمباشر لأمة {...}. وإنما القصد من هذا المصطلح الدلالة على خطة منسقة من أفعال مختلفة تهدف إلى تدمير الأسس الجوهرية لحياة الجماعات القومية، بهدف إبادة الجماعات نفسها. قد تكون غايات مثل هذه الخطة حلّ المؤسسات السياسية والاجتماعية، والثقافية، واللغوية، والمشاعر القومية، والدين، والوجود الاقتصادي للجماعات القومية، وتدمير الأمن الشخصي، والحرية، والصحة، والكرامة، وحتى حياة الأفراد الذين ينتمون إلى هذه الجماعات. الإبادة الجماعية موجهة ضدّ الجماعة القومية بصفتها وحدة (Entity)، والأعمال المقصودة موجهة ضد أفراد ليس بصفتهم الفردية، لكن بصفتهم أعضاء في هذه الجماعة"، ووفق الكاتب ليمكين "تنفّذ الإبادة الجماعية في مرحلتين: الأولى تدمير النمط الوطني، أو القومي للجماعة المضطهَدة، والأخرى فرض النمط الوطني للمضطهِد. ويمكن أن يتعرّض السكان المضطهَدون الذين يُسمح لهم بالبقاء لهذا الإملاء أو الإرغام، كما يمكن أن يُفرَض على الأرض وحدها بعد إبعاد السكان واستعمار المنطقة من المنتمين قوميًا إلى جماعة المضطهدين. نزع الصفة القومية (Denationalization) هي الكلمة التي استخدمت في الماضي لوصف تدمير النمط الوطني" (ص140 ــ 141). بالنسبة إلى الدكتور عزمي بشارة "هذا يعني أن المصطلح ينطبق تمامًا على نكبة الشعب الفلسطيني، كما لو أنّه صُمّم خصيصًا للدلالة عليها (...) فالكاتب حين يتحدث عن الإبادة الجماعية لا يقصد الجريمة التي ارتُكبت في حق اليهود فحسب، وإنما يقصد كذلك ممارسات ألمانيا في المناطق المحتلة عمومًا" (ص141).





تباعًا، يعيد باحث "الطوفان" التذكير بقراري الأمم المتحدة المتصلين بالإبادة في عامي 1946 (أسهم ليمكين في صوغه) و1948، ثم تعريف الإبادة الجماعية كما ورد في المادة السادسة من "نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية"، حيث تركز وثيقة "أركان الجرائم" التابعة لنظام روما هذا على تكرار البند الثالث المتعلق بالنوايا (أن ينوي مرتكب الجريمة إهلاك الجماعة القومية، أو الإثنية، أو العرقية، أو الدينية، كليًا، أو جزئيًا، بصفتها تلك)، فهذا البند على ما ينبّه الدكتور عزمي، "متكرر في جميع المواد، لأن القصد أو الغاية هما اللذان يفصلان في كون الجرائم تنضوي في فئة الإبادة الجماعية" (ص144). وفي يقين الباحث أنّ القصد واضح، في حالة إسرائيل، إذ "خططت لتهجير سكان القطاع، وظهرت دعوات علنية لتهجير سكانه والقضاء على الوجود الفلسطيني فيه، والتشبيه بما حصل في مرحلة النكبة التي لا تُعدّ في إسرائيل جريمة، ولا حتى بأثر تراجعي، بل يُحتفى بها بوصفها حرب تحرير واستقلال" (ص147).

مسعفون فلسطينيون في محاولة لإنقاذ أحياء، أو انتشال جثث، بعد غارة من الطيران الإسرائيلي على حي الزيتون في قطاع غزة (5/ 10/ 2024/ فرانس برس) 


بليغ جدًا المقطع الذي يستهلّ به الدكتور عزمي محورًا ثالثًا من هذا الفصل الثالث تحت عنوان "أمثلة على النيّات المبيّتة"، إذ يقول: "إنّ الدليل الرئيس في رأيي على وجود نيّات للإضرار بالفلسطينيين جماعةً هو إدراك إسرائيل نتائج العقوبات الجماعية ضد السكان من الحصار والقصف العشوائي للأحياء السكنية والمدارس والمستشفيات والتجويع، وهي بإيجاز: قتل عدد كبير من الفلسطينيين غير المسلحين، والتسبّب في إعاقات دائمة لعدد أكبر، وتحويل قطاع غزة إلى مكان غير صالح للعيش، ما ينجم عنه هجرة قسرية. والدليل الآخر هو أن العقوبات الجماعية هي سياسة معلنة ذات أهداف انتقامية ثأرية وسياسية" (ص147). ويقدم أدلة إضافية عن ألسنة مسؤولين إسرائيليين، كدعوة وزير التراث في الحكومة الإسرائيلية، عميحاي إلياهو، إلى إلقاء قنبلة نووية على غزة (!)، ودعوة النائبة في الكنيست عن حزب الليكود، ريفيتال "تالي" غوتليف، الجيش إلى استخدام السلاح النووي ردًّا على هجمات حركة حماس، و"الانتقام العنيف"، و"استخدام أسلحة يوم القيامة بلا خوف ضد أعدائنا" (!)، و"سحق وتسوية غزة بالأرض بلا رحمة"، ودعوة وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، إلى القضاء على جميع المتعاطفين مع حماس، واصفًا إيّاهم بالإرهابيين، ويشمل ذلك "من يغنّون ومن يؤيّدون ومن يوزّعون الحلوى" (!) (ص147 ــ 148).
ختامًا لهذا الفصل ما قبل الأخير من كتاب "الطوفان"، يناقش الباحث مسألة حق الدفاع عن النفس في المواثيق الدولية، وفق المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة التي تُعرِّف "الدفاع عن النفس" على أنّه: "الحق الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء الأمم المتحدة، وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدولي. والتدابير التي اتخذها الأعضاء استعمالًا لحق الدفاع عن النفس تبلغ إلى المجلس فورًا، ولا تؤثر تلك التدابير بأي حال، فيما للمجلس ــ بمقتضى سلطته ومسؤولياته المستمرة من أحكام هذا الميثاق ــ من الحق في أن يتخذ في أي وقت ما يرى ضرورة لاتخاذه من الأعمال لحفظ السلم والأمن الدولي، أو إعادته إلى نصابه" (ص150). هنا يرى الدكتور عزمي أنّ ثمة "عملية تزوير وخداع واسعة النطاق باستخدام القانون الدولي لتصوير إسرائيل كضحية هجوم يبرّر الدفاع عن النفس. لكن هذا المبدأ القانوني الدولي لا ينطبق على إسرائيل بوصفها دولة احتلال للضفة الغربية وقطاع غزة، فقطاع غزة والضفة الغربية ليسا دولة قائمة بذاتها خارج إسرائيل وقامت بالاعتداء عليها. وقد حاولت إسرائيل في الماضي استخدام مبدأ حق الدفاع عن النفس لتبرير بناء الجدار العازل في الضفة الغربية (...)" (ص151). ويضيف باحث "الطوفان": "حتى لو وافقنا جدلًا على أنّ لإسرائيل حقًا طبيعيًا في الدفاع عن النفس، لأنّ مواطنيها تعرّضوا لهجوم أيًّا كان مصدره، وذلك ضمن حدودها الدولية المعترف بها، فإنّ هذا الحق الذي تنص عليه المادة (51) مقيّد بالقانون الدولي، ويجب أن يكون متناسبًا، وإضافة إلى ذلك يُفترض أنّ دولة الاحتلال مسؤولة عن أمن المواطنين تحت الاحتلال، وليس فقط مواطنيها هي، في حين تقوم بتعريض أمنهم للخطر باستمرار. إن استمرار استخدام حق الدفاع عن النفس في تبرير حرب إسرائيل على غزة، بعد أن اتضح حجم الجرائم التي ترتكبها، يتجاوز النقاش حول بند في ميثاق الأمم المتحدة إلى انحطاط أخلاقي من النوع اللازم توافره لتبرير قتل آلاف الطفال. ليست المسألة الأخلاقية مسألة نقاش فقهي على تفسير بنود في القوانين والمواثيق، بل قدرة على الحكم على الأفعال بموجب قوانين يسنّها ضمير الإنسان الأخلاقي لنفسه" (ص152).
الفصل الرابع والأخير من هذا البحث الشامل والعميق يحمل عنوان "الحرب على غزة وأسئلة المرحلة"، ويلاحظ فيه الدكتور عزمي بشارة "تحوّل كارهي اليهود سابقًا"، ويقصد بهؤلاء الغرب الأوروبي "إلى محبّي إسرائيل حاليًا، وامتلاكهم الجرأة الكافية لاتهام المدافعين عن حقوق الإنسان في فلسطين باللا سامية" (ص154)، عادًا أن العدوان على غزة "يطرح تحديات جديدة على مستويات القضية الفلسطينية كلّها، وأيضًا على صعيد العلاقات الدولية والإقليمية، والأبعاد السياسية والثقافية والقانونية التي تتداخل معها (...) وكشفت الحرب، على نحو أوضح في أي وقت مضى، الطبيعة الاستعمارية الاستيطانية، لا للعلاقة بين الحركة الصهيونية والشعب الفلسطيني فحسب، وإنما لطابع دولة إسرائيل ذاتها أيضًا" (ص154).
يشرح الباحث الواقع العربي الذي يصفه بالمرير، غير واجد بالمطلق أي مبرّر لعدم تحدي الحصار المفروض على قطاع غزة بالإغاثة والدعم الإنساني، ويسبق كلامه هذا سؤال "لماذا نستمرّ إذًا في التوقّع والتطلّع اللذين يليهما الشعور بالإحباط والغضب؟" (ص158) ليتبع سؤاله هذا بالقول: "ربما يغضب بعضنا لأنه يعتقد أنّ دولًا عربية تتصرّف خلافًا لمصلحتها الحقيقية حين تطبّع العلاقات مع إسرائيل، فيحزنه أنها لا تعرف مصلحتها ويجب إرشادها إليها (...) وقد يكون سبب الأمل الذي لا شفاء منه هو أن الرأي العام العربي عمومًا متضامن لا مع فلسطين فحسب، بل مع فعل المقاومة أيضًا، وهو رافضٌ لأيّ تطبيع مع إسرائيل" (ص 158).
أمّا أسئلة المرحلة التي تطرح ختامًا فمن أبرزها: "إذا وجدتَ نفسك أمام واقع شعب فقد وطنه قبل 75 عامًا، ويقطن جزء من لاجئيه في قطاع محاصر منذ أكثر من عقد ونصف، وتعرّض للحروب أربع مرات، وخرجت عمليات مقاومة وردّت عليها إسرائيل بحرب إبادة، أين تقف؟" (ص165) ليختم الكتاب بنداء إلى المثقفين الفلسطينيين تحديدًا: "إنّ أجدى ما يمكن أن يقوم به المثقفون الفلسطينيون اليوم، في ما عدا ما يقومون به أصلًا كلٌّ من موقعه ووفقًا لقيمه، هو التضامن الوطني والإنساني لتخفيف معاناة الناس في غزة، والعمل على التصدّي لدعاية حرب الإبادة الإسرائيلية وافتراءاتها، والضغط على القوى السياسية الفلسطينية المركزية لكي تأتلف في قيادة موحدة في إطار منظمة التحرير، بحيث تمنع ذهاب هذه التضحيات هدرًا بفعل استثمارها لصالح تمرير ترتيبات ما يسمى اليوم التالي من دون حل عادل لقضية فلسطين يضمن عدم تكرار مثل هذه الجرائم الإسرائيلية" (ص167).
إن أيّ بحث مستقبليّ حول السابع من أكتوبر والإبادة في غزة لا يمكن أن يستغني عن كتاب "الطوفان" مرجعًا شامل الإحاطة بالوقائع والبعدين السياسيّ والأخلاقيّ والتقاطعات الإقليمية والدولية بشأنه. إنه مرجع وافٍ، عميق النظرة والتحليل، ولا يخلو رغم علميّته وموضوعيته وجدليته من نبرة وجدانية رفيعة لا قيمة لأيّ نصّ تحليليّ من دونها، ومؤلف "الطوفان" معروف بعلمه وإنسانيّته على سويّة واحدة معًا.

٭ ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.