}

عن غسان كنفاني وعن "ما تبقى لكم"

راسم المدهون 18 فبراير 2024
آراء عن غسان كنفاني وعن "ما تبقى لكم"
تقبض أحداث "ما تبقى لكم" على قضية وطنية
ليس بلا مغزى عميق أن يختار الكاتب الشهيد غسان كنفاني لبطل روايته الشهيرة "ما تبقى لكم" أن تكون "رحلته" من غزة إلى الضفة الغربية هي مساحة الصراع مع عدوه: هناك، وتحديدًا في منطقة "النقب" الاحتلال الأول، والتجسيد الواقعي للنكبة، وهو في الوقت ذاته الحاجز المدجج بأسلحة الموت والتدمير، الذي يفصل غزة عن الخليل وأخواتها من مدن وقرى ما بات يعرف منذ تلك الأيام باسم الضفة الغربية، وهو واقع حمل إلى جانب مغزاه السياسي حقيقة انقسام العائلات الفلسطينية. أتذكر من تلك الأيام عشرات الحكايات عن رحلات كانت "تنظم" لفتيات من غزة للضفة، أو العكس، من أجل إتمام أعراسهن بمرافقة الوالد، وأحد البدو، الذي كان يلعب دور الدليل، والذي يعود كل مرة بصحبة الأب إلى المكان الأول الذي جاءت منه الرحلة.
هي "رحلات" حملت كثيرًا من المخاطر، وراح ضحيتها في بعض المرات ضحايا من الفلسطينيين سقطوا شهداء، أو أسرى، خلال سعيهم لتحقيق التواصل مع نصفهم الآخر هناك في الضفة الغربية، أو بالعكس في غزة، وهي "رحلات" لم تكن تقف عند تلك الحالات من الزواج، بل تمتد إلى حالات أخرى ذات طبيعة وأسباب سياسية كان يقوم بها رجال للهروب من ملاحقة الشرطة في الضفة الغربية، أو غزة.
"ما تبقى لكم" هي رواية غسان كنفاني الثانية بعد روايته الأولى الأشهر والأهم في تقديري "رجال في الشمس"، التي قدم خلالها تجاوزًا فنيًا استفاد من تقنيات كتابات روائية عالمية، وخصوصًا الكاتب الأميركي وليم فوكنر. ونجح فيها كاتبنا في الاستحواذ على وعي القارئ، بل ومشاعره، من خلال التركيز على التفاصيل الصغيرة والجزئية، ومن خلال جعل "الساعة" و"الصحراء" تلعبان دورًا رئيسيًا في الرواية يتجاوز دوريهما كأدوات مادية إلى حضور كثيف الدلالة وله تأثير المباشر في الحدث.




تقبض أحداث "ما تبقى لكم" على قضية وطنية، ولكنها تراها وترى جزئيات حدثها في المشاعر الشخصية، وحتى في التكون الفكري والسياسي لأبطالها، مثلما تتحرك خلالها الأحداث على إيقاع الحقائق الوطنية الكبرى. هنا بالذات تبدو براعة كنفاني وموهبته الكبرى في استقصائه البليغ للتفاصيل الشخصية، وما يعتمل في الروح الفردية من أحداث وتناقضات، وحتى من غرائز نراها تأخذ طريقها إلى دراما كبرى تمتحن نفسها في جحيم التراجيديا الفلسطينية، تؤثر فيها وتتأثر بها على نحو سنراه لاحقًا في رواية غسان كنفاني بعد هزيمة الخامس من يونيو/ حزيران 1967، وأعني رواية "عائد إلى حيفا". والروايتان تناوشان روح الفلسطيني، إذ تعاني آلام التحولات الكبرى التي خلقتها النكبة وجعلتها حقائق "موضوعية" لا بد من مواجهتها والوقوف أمامها بوعي مختلف ومشاعر مختلفة. في "ما تبقى لكم "تدهشنا موهبة الكاتب الشهيد في القبض على "النكبة"، غول الألم ومنبعه، ومعه القبض على ما أنتجه ذلك الألم العظيم من آلام لا تحصى، ولا يمكننا تجاهل آثارها في نفوس أبطاله من شخصيات الرواية، بما هم أبطال يواجهون الصعب، ولكن بما هم أيضًا ضحايا لتلك التراجيديا الوطنية. يكتب غسان فيرسم صورة بطله، ويرسم في المقابل صورة "الخائن" في القضية الوطنية، وفي الحب أيضًا، وسنتابع رهافة ريشة كنفاني في تقديم صراع البطل مع عدوه هناك في الصحراء والظلام معًا، وسنحس معه بوجع الوقوف في "منتصف المسافة"، حيث الصحراء والعدو، وحيث يبتعد جناحا الضفة الغربية وقطاع غزة وكأنه يهتف بنا أن وصل ما انقطع بين الجناحين غير ممكن إلا باستعادة الجسد المسروق كله، والعودة به وبالجناحين كي يمكن عندها للطائر أن يحلق عاليًا. هي رحلة استقصاء في ما يشبه المستحيل الذي وجد الفلسطينيون أنفسهم محاصرين به بعد حرب النكبة عام 1948، حيث وطنهم أجزاء ثلاثة متباعدة ومنفصلة، وحيث أهل تلك الأجزاء معزولون كل في مكانه، ما جعل الأماكن جزرًا مثقلة بقيود لا تعد ولا تحصى.
يروق لي كثيرًا أن أقارن دائمًا بين "ما تبقى لكم"، وقبلها "رجال في الشمس"، وبين "عائد إلى حيفا"، خصوصًا في تناول الرواية الأخيرة لمسألة المولد والانتماء. ولا أبالغ إذ أقول إن مفتاح الضوء لمصائر كل أولئك الأبطال الروائيين والإنسانيين قد وضعه غسان في روايته "أم سعد"، حيث هناك بالذات روح المقاومة ووهجها، وحيث هناك "خيمة عن خيمة تفرق"، وحيث الكتابة تحديق بصير في أرواح الأبطال الروائيين بوصفهم بشرًا حقيقيين من لحم ودم.
أعتقد أن أهم ما في تجربة غسان كنفاني الروائية (والقصصية أيضًا) هو بالذات الوفاء لما أسميه عادة "منطق الشخصية"، أو بشكل أدق "ديمقراطية" التناول الإبداعي من خلال "حيادية" المؤلف. ولعل شيئًا من هذا كان حاضرًا في حوار صحافي أجراه صحافي من إحدى الدول الإسكندنافية مع غسان، وسأله الصحافي سؤالًا ذكيًا: هل تتفق معي أن أبطال رواياتك وقصصك يتقدمون عليك؟
ذلك السؤال الذكي والبارع استدرج جوابًا رائعًا من الكاتب الراحل الذي قال: أوافقك تمامًا، فأنا في الحياة قد أدافع عن مواقف حزبي الذي أنتمي إليه، لكنني في القصص والروايات أترك أبطالي على طبيعتهم.
ما تبقى لنا قد يبدو قليلًا، ويدعو إلى اليأس في وجه من وجوهه، ولكن على العكس تمامًا مما يبدو، إنه ميراث تلك التراجيديا الإنسانية الكبرى، وشغف مبدعيها الكبار في التعبير عنها في كل مرحلة، بل في كل يوم، ويبقى لنا أن نصغي لتلك الهتافات التي أتتنا من أعمق رجال كبار لعبوا أدوارهم في الحياة الحقيقية، واستقصى مشاعرهم وأحلامهم "فتى الرواية" الفلسطينية وشهيدها غسان كنفاني.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.