}

عن الحب الذي لا يُستَنفد: لماذا أُحَبّ؟

فدوى العبود فدوى العبود 20 فبراير 2024
آراء عن الحب الذي لا يُستَنفد: لماذا أُحَبّ؟
قَلَب سقراط السؤال من "لماذا أحبّه" إلى "لماذا أُحَبّ؟"
كتبَ شوبنّهاور مرةً "تتأرجح الحياة كبندول الساعة يمنةً ويــُسرة من المعاناة إلى الملل". لكن لماذا يبدأ مقال عن الحب بذكر الملل! وما الذي يحتّم دعوة مايسترو التشاؤم الألماني إلى مقامٍ كهذا وهو الذي وصِفَ بأنه "لو اختار مسرحـًا للعمليات ليؤسِّس عليه معركته العظمى ضدّ الحياة لكان هو الحب". ربـّما من الأولى دعوة ابن حزم مثلًا، وأن نفتحَ الباب، يعني أن نلتقي في الممرّ بأعزب كونجسيبرغ كانط، "والذي اعتبر الحب مذهب أكل لحوم البشر واستهلاك متبادل". ولكن إذا كانت الفلسفة- وعلى اعتبارها عملًا ذكوريـًا- تجد مسوّغاتها في لاعقلانيّته ومجافاته للحقيقة؛ فلماذا يختار الأدب المصائر التراجيديـّة (أنا كارنينا، مدام بوفاري، آلام فرتــــر).

في كل الأحوال ثمـّة حـرب تُشـنُّ على الحب، من الطُهر والفُحش على السواء، كما أن السياق الاجتماعي يعكس حجم النبذ الذي مـــورِس على العشاق لصالح الانتظام الزوجيّ الذي يضمن استمراريـــّة الجنس البشريّ ولا يعادل القسر القبائلي الذي يجبر فتاة على الزواج ممن لا تهواه، إلاّ القهر السياسيّ الذي تقلقه اليقظة والفرادة.

والأنظمة الشمولية والاستهلاكية تسعى بدأب لجعل الناس أرقامًا. فالمرض الذي ألم بالرقم 503 في رواية "نحن" ليغفيني زمياتين هو المشاعر: "حالتك سيئة يبدو أنه تشكّلت لديك نفس، احذر لقد صار عندك قلب"، ويبدو النظام الاستهلاكيّ أشدّ ذكاء بحيث يَســوق وعبر جهاز فلسفي ونفسي وطبي متكامل المجتمع نحو خيارات - يتوهم فيها الفرد مدفوعــًا بجاذبية التحدي وإغراء حريته- إلى النقيض ومعتقدًا أنه يخرق نظامًا ما يقع في تبادليّة نفعية تبقيه على سطح ذاته. وما بين رومانسيــّة ساذجة وهلع لوكريس، الذي دعا "لإدمان العلاقات الجنسية المفتوحة هربـًا من خطر العاطفة المستمرة"، ينتهي الحال إلى "جيشٍ من الناقمين الذين يتقاسمون أروقة البغايـا أو أروقة الكنائس".

وإذا كان هدف الفلسفة تجليّ الذات في الوجود عبر تحقيق أفضل ممكناتها والوعي بها، فالواضح أنها وفي مجال فهم أثرِه ودوره في ذلك التّحقق لم تتقدم خطوة. بل ربما بإمكان راهبٍ بوذيّ في جبال الِتبت أن يــــُحدث تأثيرًا أعمق (نعرف ذلك من سِيـــِر الفلاسفة ورؤاهم). ذلك أن ما حكم الفلسفة الغربية إما خوف عميق من الآخر، وإما حب دون دفع ضريبة.

ومع الاتفاق على أن ماهيــّته تفلت من أي تأويل، فإن تصوّرات كثيرة صِيغَت حول هذه القيمة الإنسانيــّة، ويذهب ديوتيم أحد شخوص "المأدبة" لأفلاطون إلى أن كل إنسان يختار طريق خلوده. وهذا التصور يضاد الوعي السقراطيّ الذي يقوم على المعرفة لا الوهم. كما توغِل نظرية أريستوفان حول نصف البرتقالة في هذا الاتجاه. وهي نظريات جيدة طالما جذوته متّقدة؛ لكن الكارثة تقع لحظة النهاية فيولد جيش من العدميين الجدد. ومن الطبيعي أن تؤدي هذه المقدمات لتلك النتائج الفقيرة: "فالأشياء تعطينا ما نطلبه منها"...

والتعرية التي يراها - على سبيل المثال بافيزي-لا تقبل بأقل من الموت، كما أن فكرة مونتاني "كان يعرفني أكثر من أي شخص آخر، حتى أعمق نقطة في داخلي"، لا تساعد على التقدم خطوة أبعد، وهي إذ تؤسِّس الحب على معرفة الآخر فإن سحب هذه المعرفة يحوله إلى نقمة (فقد عرفني وتركني ولم يعثر في داخلي على ما يستحق البقاء).

إن التصورات في هذا المجال مسكونة بالكمال، وفي الشرط الإنساني لا ينتج الكمال عن اجتماع اثنين، بل ربما يصدر عن النقص كما أن الفهم المتبادل والثقة في هذا المجال مشاعر قابلة للتعديل.

أدرك كيركجارد أن غياب حبيبته أشدّ أهمية من حضورها، وهي في هذا الغياب تغذّي شعلة الفكر لديه


وفي مقابل التصور الذي يرى الذات غابة مسكونة بالوحوش، والذي اختصرته الشاعرة إميلي ديكنسون بمواجهة مخيفة، ثمة اعتقاد يراها غرفة مقفلة. وهو في هذه التواصلية يكشفنا ولا شيء مضمونًا بنظرهم. فإضافة لكوننا نعثر ليس فقط على الأشياء التي ترفع الرأس بل والأشياء المخزية، فإننا نواجه خطر أن الرأس دخل الآخر إلى ذاتنا العميقة وهو سيفعل أحد أمرين: إما نهبُ هذه الغرفة أو إقفال الباب علينا إلى الأبد.

فالحميميّة بنظر هؤلاء خطيئة الذات، حين تفتح الباب دون مواربة، حيث اللقاء بين الذاتين يفضّل أن يتم في الفناء الخارجي والمحافظة على الأقفال. لكن ماذا إن كانت الروح فقيرة ولم يكن في الغرفة شيء لنهبه؟

إن سقراط قلب السؤال في "المأدبة" من لماذا أحبه، إلى لماذا أُحَبّ؟. وهذا يعني انعطافًا على الذات. وإذا كان تعميق المعرفة بالآخر عند كل من ماري ولانسولان عامل تعرية وانهيار متسارعٍ للحب، فإنا بخلافهما نعتقد أن هذه التعرية هي قدرته على استخراج أثمن ما فينا، وهذه هي الحاجة القصوى والحقيقيّة لكل إنسان (لا لكي يحَب بل أن يتحقق).

هنا تحتاج عبارة كيركجارد في هذا الخصوص "وحده من يفقد كل شيء هو الذي يجني كل شيء" إلى تقليب على نار الفكر الهادئة، بل إن كيركجارد الذي ترك حبيبته مثال جيد. فقد أدرك أن غيابها أشدّ أهمية من حضورها وهي في هذا الغياب تغذّي شعلة الفكر لديه (من خلالك سأكتشف ما أكون عليه). فالإنسان لن يعرف أبدًا جوهره الخفيّ، إلاّ في حضور الحب الذي يأتي ليلمس الجوهرة، وحتى حين يغيب المحبوب أو ينكسر حبنا فإن له قوة إيقاظ: "ذلك لأن العلاقة مع الآخر، تتمثل في غياب الآخر وهو ليس غيابًا محضًا وبسيطـًا، ولا هو غيابـًا من العدم المحض، ولكنّه غياب في أفقٍ قادم، وهو ما سميناه النصر الأكثر علوًّا على الموت". 

وبخلاف مورافيا الذي كتب وكأنه هوية ثابتة: لا يوجد بيني وبين نفسي أي فراغ يتسع لشخص آخر؛ فإن ثمة فراغًا والذات تحتاج لقفزه نحو الجوهري فيها، إننا نتعامل معه بعقلية السوق: أنا ذاهب للمساومة أعطيك الحب وتبادلني إيّاه. لذلك يظل عاجزًا عن مسّ جوهرنا، أو على طريقة الأبيقوري لوكريس الذي "أراد الاستمتاع دون دفع فدية".

على أحد جدران سانتياغو كُتبت عبارة "أحببنا أنفسنا". وعلى جدار مقابل كتب: "كيف استطاع هذا السبب الرائع أن يؤدي إلى نتيجة رديئة إلى هذه الدرجة؟". يمكن قلب العبارتين: (لأننا أحببنا أنفسنا). وعكس ذلك فإن التوجه بكليتك نحو الآخر هو إعادة اكتشاف تمثلها عبارة توني موريسون في رواية "محبوبـة" بالرغم من أنها كتبت في سياق الهوية لكنها تؤدي الدلالة ذاتها: "أُريـدكَ أن تمسّني في ذلك الجزء الداخليّ مني وتدعــوني باسمي"، إنها هويـــة شبح يريد التحقق، الذات التي تريد التبلور والتجسد. بأن يناديها المحب باسمها لكي تعي هويتّها وموقعها من الوجود.

إنه "النظير الروحيّ" لا بمعنى الشبيه، بل بمعنى التضاد أحيانـــــًا وهو ليس اختراعـــًا ماورائيًّا" إنه ذاك الذي يمسّ أعمق ممكناتِنــــا ويبرزها. فالحب لا يعرينا إلا لكونه شرارةً للوعي بمن نكون، ولا يمكنه أن يضئ أثمن ما في الذات "إلاّ إذا تواصل شخصان من مركز وجودهما".

ألا يحق له أخيرًا أن يهتف: أنا مولّد أرواح!  لذلك سيتجرع السم بعد أن تنتهي مهمته على غرار (الحكيم سقراط).

إن هناك شخصًا يُنيرنا وقد نلتقيه مرةً واحدة، ولكن لقاءه لا يضمن أننا لن نفقده وفي ضياعه أيضًا يحدث كشف، وهذا يعتمد علينا.

في رواية "ألعاب العمر المتقدم" يقول الشيطان لغريغوريو أولياس: "فالحب حسب مراقبتي لك جعل منك شاعرًا، أما أنا فحوّلني إلى فلكيَّ".

يقابل الإنسان في رحلته آلاف الوجوه، ثم وفي وقت لا يتوقعه ولا ينتظره يأتي وجه ويغيّره، ذلك شبيه بأن تقرأ على مدار حياتك الكثير من الكتب وتراكم المعرفة كمن يبني أسوارًا؛ ثم يأتي كتاب أشبه بـ صعقة أو ريح تهدم الجدار، كتاب يكشفك لنفسك. كتاب واحد يحدث لك هذه (الصدمة/ الرجة!) وهو لن يحرض في جوهرك إلا ما كان يحتويه هذا الجوهر (القاتل أو القديس الفلكي أو المبدع الشرير أو الخائف الهلِع). وهذا وجه الحب.

المحبوب علامة على الكون وإشارة إليه، أما نهايته فهي مجرد قرار يتعلق باختيار الإنسان وهذا لا ينبع من حريته وحدها، بل من عمق جوهره. فنحن لا نحب بدافع الملل ولا للتخفيف من المعاناة.

وإذا كان الوجود ممّلًا فإن ذلك يعني أننا ما زلنا على السطح الهش للأشياء وكأننا منها، ولأنّ الحب يقظة فنحن نريده وإن كان كابوسًا وفيه يرتبط الوجود الذاتي (بالمعنى السارتري) بالوجود الكليّ الذي قصده هايدجر حيث تتصل الأنا بالعالم وتغيـّره.

إحالات:

- الفلاسفة والحب (الحب من سقراط إلى سيمون دي بوفوار)، ماري لومونييه، أود لانسولان، تر: دينا مندور، 2008.

- الزمن والآخر، إيمانويل ليفيناس، تر: منذر عياشي، دار نينوى، 2015.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.