}

فلسطين بطفولتنا: بين خيمة أم سعد والطريق إلى صفد

فدوى العبود فدوى العبود 11 أبريل 2024
يوميات فلسطين بطفولتنا: بين خيمة أم سعد والطريق إلى صفد
(نبيل عناني)

"نمت متأخرًا جدًا، كان كاتب صيني اسمه سان تسي قد اجتذبني تمامًا وفكّك تعبي واصطاد انتباهي وكتب يقول إن الحرب حيلة. والانتصار هو أن تتوقع كل شيء وألا تدع عدوّك يتوقّع. كتب يقول إن الحرب مفاجأة. كتب يقول إن الحرب سطوة المعنويّات. كتب يقول...

"ولكن ذلك كلّه خارج الموضوع"...

حين قرأت عالم الدوس هكسلي غير المألوف، العالم الذي يُتخم فيه الإنسان بكمٍّ هائلٍ من المعلومات، والتي تجعل منه كائنًا سلبيًّا لا مباليًا ضمن نظام زائف مبني على الخداع الأخلاقي والسعادة الكاذبة تشوّش ذهني، واحتجت وقتًا لاستيعاب المفارقة الساخرة التي يحملها العنوان "عالم جديد شجاع". مع أن عالمي يتفوّق على عالم الأخير، ليس بكونه كذبة بصريّة فاحشة، تتفوّق بلا أخلاقيتها على أسوأ فيلم بذيء، ولا بكونه العالم الذي فقدت فيه العين مصداقيتها، وصارت السخرية من الضحيّة منهجًا؛ لكونها - متوهّمةً عالمًا يساندها- تتصرف كدون كيخوته، وكان الأجدى لها أن تتصرف بعقل براغماتي حتى لا تخسر حصتها من معونات الأمم أو علب العدس.

وفي عالم لا يتوقف عن إبهارنا بشجاعة مواطنيه العالميين والمعولمين يسأل أحدنا نفسه: "كم من الشجاعة يحتاج المرء حتى يقبل بما يحدث أو يتآلف معه. كم من اللامبالاة واللاإنسانية يحتاج!".

وفي الحقيقة أني- وحالي حال كثيرين- عذرنا معنا، ونحن الذي انتمينا لزمن الحدود الواضحة والمنطق الأرسطي ربما - أقول ربما- أفسد عقولنا وأرواحنا. فقد كنا أرسطيين حتى قبل أن نقرأ أرسطو.

كانت الأشياء واضحة في الذهن واللغة، لم تكن القنابل ذكية، ولا يسمّى فعل قتل أطفال ونساء عملية جراحية دقيقة. ولم يكن الناس أرقامًا، فلهم اسم وهوية وملامح مميزة وعائلة وبيت. وكان مقدمو البرامج يرتكبون الخطأ تلو الآخر ويبكون أمام الشاشات إذا ما اضطر المرء. ومع أن الدروب تظل موحلة لكن يمكن لبذرة سقطت من يد طفل صغير أن تصبح شجرة. ومع أنّا مشينا حفاةً للمدرسة لكن جراح الطريق كانت أساتذتنا في الإصرار.

لا نشرات جويّة للتنبؤ بالطقس فيحبس الناس في بيوتهم كالدجاج في الأقفاص، ولا أجهزة ذكية تعطب المخّيلة. وما دمنا في عالم الحدود الواضحة فقد كان أستاذ اللغة الإنكليزية متهاونًا معنا بخلاف أستاذ اللغة العربية الذي يبدأ كل حصة بنشيد "فلسطين داري ودرب انتصاري". 

كان التهور حدًا بين (الشجاعة والجبن)، والسفه بين الذكاء والغباء، والكرم وسط بين التبذير والبخل. فمن خلط الحدود بين الضحية والجلاد ومن أفسد عجينة أرواحنا، ومن عبث باللغة!

كنت قد نمت متأخرة، حين وجدت نفسي بمريولي المدرسيّ وحقيبتي القماشية أقف على بعد أمتار من والدي وهو يتناول شتلات الفليفلة والباذنجان من سلّة ثم يغرسها في التربة.

السلام الذي أحاط بعالمه امتد ليغمر روحي بينما كان يتابع حملها والتربيت عليها بهدوء ثم يسقيها من مرشة في يده، متيقنِّا أن لكل شيء روحًا (حتى الحجر التي تفلت من جبل تحن إليه).

كنت أتأمل يديه حين رفع رأسه باتجاهي ثم قال: "الطريق إلى صفد وعرة تستعصي على الماعز".

لم تحتفظ ذاكرتي الطفولية من حياة المدرسة سوى بصورتين: وقوفنا ونحن نردّد قصيدة "فلسطين داري ودرب انتصاري"، ثم نصفق لأنفسنا ونختم: الشاعر سليمان العيسى، وكنا نمطّ العييييييييييييسى بجذل طفولي، وحصة القراءة حيث تروي لنا الآنسة قصة منصور الذي يصر خاله وأخوه قاسم على وصفه بالصغير والذي كان يغذُّ خطاه تحت الشمس تلاحقه تحذيرات خاله ومتحدّيًا وعورة الطريق المعبّد بالدوريات الإنكليزية:

"وحين وصل مرّت بجانبه سيارة، وأشار أحدهم: ها هو ذا فلاح يريد أن ينقذ صفد. إنه يحمل عصا.

-عصا تنزل على جنبك".

فرطنا من الضحك، وشعرنا بالانتصار وبث فينا هذا الصغير نشوة التحدي، وأدركنا أن كل منا يحمله في داخله وأن وعورة طريقنا تحتاج هذا الرد لكل متخاذل ومتلاعب باللغة والمفاهيم والصور. بل رحنا نتوهم أننا منصور الصغير فنصرخ في وجوه المارّة: عصا تنزل عاجنبك ثم نهرب ضاحكين.

ولم نكن لنخفي إعجابنا بابن السابعة عشرة المدفوع بقوة الإرادة التي نستمد منها القدرة على مغالبة طرقاتنا الموحلة وصقيع الشتاءات وليالي السهر والدراسة. وكم خجلنا من– سلوك أمهاتنا- حين قرأنا "أم سعد" التي تلد وفلسطين تأخذ "واللاتي يخفن علينا من لفحة برد".

ولكن إذا كان العالم -الذي يريد من منصور أن يقف في طابور ليتلقى علبة حساء ومن أم سعد أن تطهو الحجارة فوق موقد في العراء فتوهم أطفالها بأنها تعدّ لهم طعام العشاء لعلّ النعاس يغلبهم فينامون إلى يوم آخر – قد تغيّر فلا شك أن الكتب يجب أن تتغير!

بدأت بالهذيان وعلى غرار سارد كنفاني كنت نصف نائمة، "أحيانًا تأتيني هذه النوبات، خصوصًا حين أكون متعبًا، وأعجز عندها عن تصديق عيني، أنظر إلى الناس وأتساءل: أيمكن أن تكون هذه هي وجوهنا حقًّا؟ كيف استطعنا أن ننظفها بهذه السرعة من الوحل الذي طرشه حزيران فوقها".

/كيف استطعنا أن ننظفها مما تركته غزة فوقها/

بين خيمة أم سعد والدروب الوعرة التي سلكها منصور، تشكلت مخيلتنا الطفولية. صحيح أننا سرنا لمدارسنا بأحذية مثقوبة، لكن برؤوس مرفوعة، واثقين بأساتذتنا وبعالمنا الذي تكون فيه الشمس شمسًا والظلام ظلامًا. كانت المسألة ببساطة: إيمان بأن الأشياء فيه وعلى غرار البشر تعرف طريق البيت، "كان كل رجل في القرية، كل طفل، كل امرأة، يعرفون أن هذا المفتاح هو مفتاح دار جابر بل كان ثمة أناس في القرية المجاورة يعرفون ذلك أيضًا، فإذا ما سقط أو ضاع يعود إلى الدار من تلقاء نفسه".

إنها الذاكرة التي "لا تتذكر لأنها بالطبع لا تنسى" بل الحاضرة على الدوام في المكان الأول فهو نقطة البدء. ومنه فقط يمكنها النمّو والتّبرعم. وكما اخضرّ الغصن الجاف الذي زرعته أم سعد أمام باب الدار تجذرّ هذا العالم الأول داخلنا.

"ولكن ذلك كلّه خارج الموضوع".

كان والدي يتابع عمله بهدوء وأدركت أنه ميت فصرخت: الحمد الله يابا أنك متّ قبل ما تشوف.

سرت مبتعدة أخوض في وحل الطريق. فسمعت صوته قويًا وهادئًا: إن ولدًا مثلك سوف يموت في الشول قبل أن يقطع نصف المسافة.

أردت أن أصرخ: أنا لست ولدًا.

لكن رنين الهاتف أيقظني، وأمام المرآة اكتشفت أن شعري أبيض. كان الهاتف يرن بإصرار حين همس غسان: كان ذلك زمن الاشتباك. أقول هذا لأنك لا تعرفين: لا أحد يطالب بالفضيلة... سيبدو مضحكًا من يفعل... أن تعيش كيفما كان وبأية وسيلة هو انتصار مرموق للفضيلة. حسنًا. حين يموت المرء تموت الفضيلة أيضًا أليس كذلك؟

ونظرت إلى الهاتف، لأني أعرف أنه دائمًا- وفي كل زمن- سيكون هناك أحدهم على الطرف الآخر من الخط. وسيكون مرحًا فخورًا ليس في طيّات صوته أي شعور بالذنب، رجل يصحو باكرًا. لا شيء يشغله بالليل. رجل جديد يضحك ويسخر من منصور ومن أم سعد، رجل لا تقلقه لا ليلة ممطرة وراعدة ولا تؤرّقه عاصفة لأنه ينام في سرير مريح.

رجل لا يشغله لا الرجال الذين يزحفون تحت العتمة ليبنوا لنا شرفًا نظيفًا غير ملطخ بالوحل، لأنه يفهم ماذا يعني أن يولد المرء في عالم لا شرف له، رجل لا تعنيه تلك اللطخات والخرق البالية المرميّة فوق سهوب الوحل والغبار والتي ترفّ مثل رايات هزيمة. ولا يؤلمه صبي يبيع كعكًا بعد الدوام لأنه لو كان يجد ما يطعم به نفسه لانبثق منه نابغة.

وهذا الرجل على الطرف الآخر من الهاتف سيتصل دومًا ليقول: "لديّ فكرة، سنجمع ألعابًا للأطفال ونرسلها إلى النازحين في المخيمات... أنت تعلمين هذه أيّام أعياد"...

(ولكن هذا كلّه، أيضًا، خارج الموضوع)...

إحالات:

- عن الرجال والبنادق، غسان كنفاني.

*كاتبة سورية. 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.