}

العجائبيّ في الرواية: الكلام في غيرِ الممكن

فدوى العبود فدوى العبود 20 أبريل 2024

 

ينعكس الواقع المُعاش في الروح بصيغ شتّى، وهو إذ يسير وفق قوانينه يُطبق على الإنسان مثل فخ، ومن الكتابة المخلصة لتفاصيله ينشأ الأدب الواقعي. ولكن الإخلاص للواقع الذي "يتنفّس بعدّة رئات"، كما يقال، قد يحدث بالضدِّ منه. وبما أن المفارقة والصُدفة واللاّمعقول تدخل في صميم تكوينه فقد تغيرُ المخيِّلة على مواقعه الأشدِّ تحصينًا، أو (ما نتوهم أنها كذلك)، فتعبث بالصدفة وتبتكر المفارقة، تبلوِر ما كادَ أن يتفتت وتقوّض ما كان يفترض به العكس.
كأن يبلغ إنسان الشيخوخة في يوم مولده، فـ"بيكاس" سليم بركات في "فقهاء الظلام" يكبر في كل ساعة ثلاث سنين، يصبح شابًا في الظهيرة، ثم عجوزًا سبعينيًّا مع منتصف الليلة الأولى لمجيئه إلى الدنيا. وريميديوس ماركيز تطير في انتهاك واضح لقوانين الجاذبيّة أثناء نشر الملاءات، ويتابع خيط الدم في "مئة عام من العزلة" تدفّقه قاطعًا آلاف الأميال حتى بيت الأم، وتعمل الذاكرة بالضدِّ من قوانين الفيزياء في "الحب في زمن الكوليرا". ويستيقظ يوهانس في رواية "صباح ومساء" لـ يون فوسيّه لحظة موته. تبث هذه الأعمال في نفس قارئها البهجة لكونها: إعلان انتصار المخيّلة على الواقع من دون أن تُراقَ قطرة دماء.
ومع أن كثيرًا منها قد تعطي شعورًا بغرابة عوالمها، وأن "انطباع الغرابة التي لا تقهر حجر زاوية في العجائبي"، لكنه ليس شرطًا كافيًا برأي بعضهم لتدرج ضمنه، وفي كل الأحوال يصعُب حصرُ هذه الأعمال لتنوع أساليبها ورؤاها، كما أنها ليست موضوعنا هنا، لكن ما يميّزها هو قدرتها على التقاط تردّدات الواقع الأكثر غموضًا. لذلك يمسخ كافكا بطله إلى حشرة، وفي رواية "القصر" يهشّم العاطفة الإنسانيّة عبرَ عدم المتلائم لغويًا وغير المتجانس واقعيًّا فيستحيل كل شيء إلى نقيضه.
ومن هذه المواقع المُتباينة سنحاول الدخول لعالم العجائبيّ من خلال روايتين هما مثال جيّد عن كيفية عمل المخيّلة.
تبدأ رواية "المسلخ رقم 5" (1969) للكاتب الأميركي كورت فونيجوت بهذه العبارة: ذهب بيلي للنوم وهو أرمل خَرِف واستيقظ في يوم زفافه، دخل من باب وهو في سنة 1955، وخرج من آخر وهو في سنة 1941، فعاود الرجوع إلى الباب الأول ليجد نفسه في سنة 1963.
وهي تروي دمار درسدن الألمانيّة في الحرب العالمية الثانية، والشخصيّة الرئيسة فيها، بيلي غريم، الذي وجد نفسه عالقًا في الزمن، وراح بعد تعرضه لحادث طائرة يتوهّم أنه خُطف من كائنات فضائيّة إلى كوكبٍ يصعبُ رصده من الأرض، ويدعى ترالفامادور.
في المقابل، تبدأ افتتاحية "الهؤلاء" (1976) للروائي المصري مجيد طوبيا: "بدأ كل ذلك عندما كنت أقرأ كتابًا بلغة ديار أيبوط المجيدة، التي كان من نصيبي أن أكون أحد رعاياها"، وهي تروي حكاية مدينة متخيّلة ينتشر فيها أشخاص يسجلون الأحاديث ويراقبون الناس ولا سيّما المثقفين، في بلد يحكمها الديجم، وتسودها الريبة والشّك، ورقابة الهؤلاء.
تنتمي كلتا الروايتين إلى الأدب العجائبيّ، وإذا كان الشرط الأول لهذا الأدب عند تودوروف "تردد القارئ وحيرته"، أو احتوائه عناصر فوق طبيعية، وإذا كان العجائبي "قطيعة أو تصدع للنظام المعترف به، واقتحام من اللامقبول لصميم شعرية الواقع"؛ فكلتاهما تحققان ذلك عبر المكان والزمان والحدث والانطباع الذي يُثار في المتلقي وفيهما "يوضع البطل في حضرة المستغلِق عن التفسير".
وبينما تنطلق الأولى من مدينة واقعيّة تعرضت للدمار إبان الحرب، فإن مدينة الهؤلاء مخُترعة وحاكمها متخيّل؛ لكن المفارقة أنّ درسدن تتحول إلى مدينة فوق واقعيّة، بينما تنقلب أيبوط إلى رمز واقعي ينطبق على كل مدينة عربية.




وكلتا الروايتين ترصدان هذا التوتر للعجائبيّ الرابض في قلب اليوميّ، عبر تحطيم قانونية الواقع بإبراز مفارقاته. سواء كانت تتعلق بحدث عنيف، كإعدام المسكين إدجار ديربي رميًا بالرصاص بتهمة سرقة إبريق شاي (في رواية المسلخ)، أو تهمة بطل الهؤلاء بتغيير عقارب الساعة كي تتآلف مع دوران الأرض، ما يعد تجاوزًا على قوانين مدينة الديجم، واتهامًا لها بالتأخر عن الزمن.




فالحدث هنا ممكن الوقوع، وهو على غرائبيته، لا يخرق قانونية الواقع، ولا يفارقه، ويبدأ العجائبي في رواية "المسلخ رقم 5" بالطبيعة الشخصية لـ بيلي غريم، الذي، وبخلاف الفطرة البشرية، لا يبذل أي جهد لإنقاذ نفسه؛ فلا يحرك ساكنًا أمام احتراق معطفه، ولا يفرق بين النوم واليقظة، ولا بين الوقوف والمشي. فالحدث الذي تمرّ به شخصيته يتعلق بمشكلة في القوى العقلية، وإزاء هدوء الأخيرة تنتقل عدوى التردد والحيرة للقارئ؛ الذي يتابع رحلات الأخير بين الأزمان المتعددة. ومع أنه أقرب للخبل، لكن هذه القفزات كانت تكشف عن الفظاعات التي ترتكب في الحروب.
أما شخصية السارد في "الهؤلاء" فهي أكثر اتزانًا، رغم إثارتها لمشكل يبدو تافهًا، لكنها تعجز عن استيعاب قوانين عالم الديجم، وسلوك سكان أيبوط. ومع أن القارئ يدرك أن المدينة متخيلة، لكنه لا يشك لحظة بأن كل ما يتحدث عنه السارد موجود بصيغة جديدة في واقعه.
يعتقد كثيرون، ومنهم تودوروف، بأن شرط العجائبي يتمثل في "أن نقبل قوانين جديدة للطبيعة، أما إذا ظلت قوانين الواقع غير ممسوسة فنحن نبقى في إطار الغرائبي، كما أن الأخير مرتبط بأحاسيس الشخصيات، بينما العجيب مرتبط بحادثة مادية فوق طبيعية"، وهذا يجعل كثيرًا من النصوص تقف عند عتبات الغرائبي، فلو تأملنا في رواية المسخ (أو الحشرة كما وردت في ترجمات كثيرة) فإن شعور ك في أنه تحول إلى حشرة لا يعد دليلًا كافيًا في نظر بعضهم ليدخل في إطار العجائبي؛ كما أن معاملة أخته وعائلته له وفق هذا التحول لا يعد دليلًا قاطعًا (فقد يكون وهمًا تعيشه الشخصية وتنقله لنا وهو باطني في داخلها). فمن شروط العجائبي تحطيم القانون (الزمان) كما في رواية المسلخ، أو المكان، كما في الهؤلاء بحيث نتعرف إلى فظاعة الحرب في الأولى، وعسف السلطة والقمع والخوف في الثانية.
ومع أن تودوروف رفض التفسير الأليغوري للعجائبي، بل ورأى أن من شروطه "عدم السماح للقارئ بإعطاء أي تأويل للأحداث فوق الطبيعية"؛ إلا أنه يبدو أن إحدى صيغ النص العجائبي هي أن "الكلام فيه عن شيء يعني الكلام عن شيء آخر"، وبدلًا من أن يصف ماركيز هروب ريميديوس مع حبيبها، أو مقتلها، فقد فضل أن يجعلها تفرّ بالملاءات. وفي الثقافة الشعبية، تكون العجائبية طريقة البحث عن مخرج لمأزق الواقع. وكيف يمكن تفسير هذه الرحلات المكوكية لبيلي الذي يعيش بشكل متزامن "في ألمانيا سنة 1944، ويركب سيارته الكاديلاك في 1967"، أو فهم هذه الانتقالات الزمنية بين كوكب الترالفامادور، وحروب الجبهة، وقطار الأسرى، وبين جناح المرضى العقليين. (سوى في صيغة أنه لا شيء يمكن أن يقال عن مجزرة سوى العجائبي).
في حوار معها، ذكرت سوزان سونتاغ أن "الفانتازيا هي أن يلقي المرء نفسه خارج ذاته"، وإن السؤال لماذا يريد الإنسان أن يلقي نفسه خارج ذاته؟ يجد إجابة في الأدب الذي يخرق معقولية الواقع. وبالعودة إلى رواية "الهؤلاء"، فإن ولادة نص تحوي بطبيعة الحال شروطًا موضوعية لا تقل أهمية عن أخرى ذاتية، فحين تكون في مدينة فيها لكل شخص عشرة حراس، حيث تسمع أفكارك، وتراقب أوضاعك الحميمة مع حبيبتك، سوف تخترع مدنًا يتبعك فيها الرجل المضغوط، وآخرون بعيون جاحظة.
وسواء كان الحدث تافهًا، كفكرة دوران عقارب الساعة، أو إعدام إنسان من أجل حفنة شاي، أو التحول إلى حشرة ضخمة، أو التهام أحدهم لذراعه؛ فإن الواقع يسبق المخيلة، لكنه لا يستطيع توقع جموحها.
فالنص العجائبي يحفزنا لمعرفة آلية عمل المخيلة، وقد تنطبق عليه العبارة التالية بعد تحويرها "نحن، وعندما نرى عمق الأشياء دفعة واحدة، تنتج لنا صورة للحياة جميلة ومفاجئة وعميقة، لا توجد أي بداية ولا نهاية، لا أخلاقيات ولا أسباب ومسببات ولا نتائج".
وإذا كان الأدب العجائبيّ، على ندرته، يحتاج إلى خيال، ولغة، من درجة مغايرة، فإن القارئ أيضًا يجب أن يكون لديه خيال مواز في القراءة. وإذا كان أرسطو قد ميّز بين الممكن وغير الممكن من دون أن يسميّه، فيمكن أن نضيف: وحين يتعذر الكلام في الممكن، فإن غير الممكن مهرب خلاّق، وهو لا يقل قوة عن الواقع، بل إنه لا يولد إلاّ لتقويض سلطة الأخير ومعقوليّته الزائفة.

إحالات:
ــ مدخل إلى الأدب العجائبي، تزفتان تودوروف، ترجمة: الصديق بو علام.

* كاتبة سورية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.