}

الاغتصاب... جريمة متعددة الزوايا

سميرة المسالمة سميرة المسالمة 26 فبراير 2024
آراء الاغتصاب... جريمة متعددة الزوايا
(Getty)

 

تردد كثيرًا قبل أن يطلق العنان لكلماته قال: نعم، الاغتصاب إحدى وسائل التعذيب، هو سكين يخترق الضحية، تنال منها عميقًا أكثر من جسدها، تتوزع هالة الكره الذي تحيط بالجسد المقبل عليك، حتى تكاد تغمر روح المكان، لا شيء يضاهي ذلك الألم الذي يفقدك حواسك جميعها، لا يعود اللمس خشنًا أو ناعمًا، أو أنه يصبح حارقًا، أو باردًا، كل ما في الأمر أنك تتلاشى، تأخذ روحك خطوة إلى الوراء، تتقوقع قبالتك، تحاول استحضار موتك المتعنت، الجاني يضاجع جثة، لا يميز أنفك بين رائحة تعفن القلب وقطرات العرق الموبوءة، والكلمات أصوات بلا معنى، وأنت تدفن القادم من أيامك، وفي لحظة نشوته العارمة، حين يُلبسك المجتمع عار جريمته، ويجعل منك مخزيًا، مهزومًا، تنتهي عندك إنسانية البشرية.

اعتراف أحد ممارسي العنف الجنسي ضد النساء المعتقلات في سورية، كان أحد محاور روايتي "نفق الذل" التي صدرت عام 2014، فسر خلالها كيف يتحول بعض عناصر الأمن إلى آلات يتم تدجينها والتحكم بها، وبمشاعرها، بعضهم يبقى في عالم ما تحت الأرض، ينفذون المهمات الموكلة لهم، من التعذيب الجسدي إلى العنف الجنسي، وبعضهم الآخر يرتقي بالمناصب الرسمية، فيكاد المرء لا يميز بين مسؤول وآخر إلا بالأسماء والأشكال، في الوقت الذي يؤدون جميعهم على اختلاف شرائحهم الوظيفية، المهام بذات الطريقة ولنفس الهدف، وبما يضمن للسلطة العليا الولاء الأعمى لها.

الأمر الغريب الذي استوقفني آنذاك، قدرة الرجل على وصف جريمة الاغتصاب، ومراحلها النفسية، عند كلا الطرفين (الضحية والجاني) والغاية منها، ما يدلل على أن العنف الجنسي - قد يكون- أحد الوسائل المتبعة على بعض المتدربين أنفسهم، في عمليات التدريب للانتقال بهم من حيّز الانتماء إلى المؤسسة، إلى حيّز الاستعباد التام لهم، أي أنهم من منظور ما هم ضحايا تحولوا إلى جناة، إما بالإكراه أو الابتزاز، وهذا يعود إلى طبيعة مجتمعاتنا التي بقيت معظمها حتى وقت قريب تنظر إلى الرجال الممارس عليهم العنف الجنسي على أنهم مدانون أو منحطون اجتماعيًا، في الوقت الذي هم فيه ضحايا بالتساوي مع النساء أو الأطفال التي ترفع المنظمات الحقوقية والاجتماعية شعارات الدفاع عنهم دون لحظ وجود ذات المخاطر على الرجال وخاصة في زمن الحروب والصراعات وتحت مظلة الأنظمة القمعية.

ضمن ذلك السياق، واعتمادًا على بوحه الذي قال فيه: "إنه محاولة لتطهير روحه"، كان بطل روايتي أحد منتقدي النظام ممن دخل إلى معتقلاته معارضًا لسياساته، وخرج منها مناصرًا له، بل مدافعًا شرسًا، وناقمًا على كل شرائح المجتمع، وتنقل بين المناصب واحدًا تلو الآخر، إلى أن أصبح اسمه رمزًا لآلة التعذيب السلطوية، الخارجة عن كل القوانين، والتي استباحت أمن وسلامة المجتمع السوري بكل جوانبه، وقد تحولت إحدى ضحاياه إلى واحدة من أهم ممارسي تجارة الدعارة والوساطة بآن معًا.

اعتراف أحد ممارسي العنف الجنسي ضد النساء المعتقلات في سورية، كان أحد محاور روايتي "نفق الذل"


وهكذا فإن الحديث عن الاغتصاب كجريمة وحالة فردية بداية، يمكن النظر لها من زوايا عدة، وبدايات مختلفة، وهي أخذت حيزها في الإعلام والأدب والفنون جميعها، وكانت موضوعًا أساسيًا في السينما والدراما عمومًا، ولعل الدراما التلفزيونية التي دخلت إلى البيوت وصارت تحاكي الناس في يومياتهم بكل أزماتها، كان لها الدور الأكبر في تسليط الضوء على هذه الجريمة، وضرورات التشدّد في أحكامها لتكون رادعة ومانعة لتكرار مثيلاتها، كما أظهرت "السيناريوهات" في كثير من الأفلام والمسلسلات مخاطر التعاطي معها على أنها يمكن أن تصلح مقدمة لبناء أسرة يكون أحد طرفيها الجاني، والطرف الآخر المرأة أو الضحية، وترفع القبعات لأفلام ومسلسلات تناولت القضية ومخاطرها وحيثياتها سواء كانت الضحية امرأة أو رجلًا.

إلا أنه في ذات الوقت يمكن الحديث عن جوانب أخرى، وأثرها السلبي في بعض مجتمعات المراهقين على وجه التحديد، فحيث احتياجات الدراما لمستلزمات التشويق والإثارة والإطالة - قد ينتج عنها في بعض الأحيان- رسائل سلبية خلال العرض المطول لحلقات المسلسلات، كتلك التي توحي بإمكانية الإفلات من عواقب مثل هذه الجرائم، أو التي تمنح بعض المراهقين تخيلات عن مشاعر وملذات تجنى من خلالها، أو أن يكون العوض المالي هو إحدى وسائل التكفير عن هذه الجريمة، سواء ارتكبت بحق النساء أو الأطفال.

عادة يعاقب القانون المجرمين على جرائمهم وفقًا لنوع الجريمة وأثرها وحجم أضرارها، وتتوافق المجتمعات المحلية في أحكامها على الأفراد مع قرارات المحاكم، أو حتى الملاحقات الجنائية لهم، إلا أنه في جريمة الاغتصاب غالبًا ما يتم معاقبة الضحية بالتساوق مع الجاني، عندما تكون الضحية امرأة، بل وفي بعض الأحيان يكافأ الجاني بالتسامح معه، إذا قبل أن يعقد قرانه على ضحيته إنقاذًا لسمعتها، والصحيح لسمعة عائلتها، في حال لم يسارعوا إلى قتلها للتخلص من عارها المتخيل في عقولهم، وخاصة بعد أن تجد الدعاية الذكورية ما يبرر ارتكاب هذه الجريمة بحق النساء، سواء بسبب الشكل أو المضمون، في حياتها الخاصة، من طريقة لباسها إلى تعليمها أو عملها، ما يعني أن تبعات الجريمة لا تزال حتى اليوم تلاحق الضحية أكثر من مرتكبها.

وإذا كان الحديث اليوم عن جريمة الاغتصاب في كل وقت هو مؤلم، ومحفز على استفاقة تشريعية محلية لكل المجتمعات، فإن الحديث عنها كجريمة جماعية في زمن الحروب والصراعات، مع تنوعها في زمننا، وتعدد جبهاتها، وتكاثر تجارها، يتطلب جهدًا أكبر، وتحقيقات موضوعية، بعيدة عن التسييس، وموازين القوى التي تنصر القوي أو تؤيد ادعاءاته الكاذبة، وهو بالطبع يحتاج إلى تعاون دولي، وتضامن فاعل يماثل ويفوق حملة "وأنا أيضًا"، التي تصدت لها أهم الشخصيات المشهورة والمؤثرة في عالمنا، وهو ما يسهل رصد مساحة أكبر، وجرأة أوضح في طرح موضوعاتها، وتسمية مرتكبيها، بعيدًا عن الابتذال والتعري والتسييس، التي تهدف عادة إلى حصد المشاهدات وأرباح التسويق.

*كاتبة سورية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.