}

عندما تمد السياسة لسانها إلى الرياضة

سميرة المسالمة سميرة المسالمة 6 فبراير 2024
آراء عندما تمد السياسة لسانها إلى الرياضة
فريق فلسطين (Getty, Qatar, 14/1/2024)

 

بين "شاشتين" متناقضتين، واحدة منهما، ترى من خلالها الحداثة بأبشع صورها، وكارثية انعكاساتها على البشرية، حيث تشاهد عبر بثها نيران الحروب ودوي المدافع ووحشية نتائجها، وتجعلك تشارك خوف الناس، وأنين النساء، ورجفة طفل يبحث عن أشلاء عائلته تحت الركام المتناثر على جنبات قناة إخبارية، بينما أنت جالس على أريكتك، عاجز، بكل المعاني، وكأنك إما ميت مع الأموات، أو ناج مهزوم وهارب إلى الذكريات، هناك كانوا أهلك في سورية، في اليمن، في ليبيا، في العراق، في السودان، وفي غزة، وصاروا اليوم مجرد أرقام على لوائح الهائمين على وجوههم، أو باتوا عناوين في صناديق بريدية أو على شواهد القبور.

و"شاشة" أخرى تنقل لك الحياة بكل صخبها وحلوها وألق لحظاتها، تأخذك في "استراحة مشاهد" من على ذات الأريكة التي أتعبتها أخبار الموت إلى ضجيج الحياة وثمار البهجة وأخبار الفوز، إنها فرصة النجاة من طوق حصار الفجائع، تذهب معها، تدخل في أروقتها أنت الآن في الملعب بين 11 لاعبًا، تنتمي لا إراديًا إلى فرق تعرف أسماء لاعبيها من أقنية التلفزيون، تتحدث إليهم، تصرخ بوجه الحكم معهم، ثم تنساق إلى مرمى الخصم، تطلب من زميلك أن يسدد، تعلن عن هدف قبل أن تراه، وقد لا تراه، تعاتب المدرب على اختياراته، وتطلق تعليماتك له، بدّل هذا، وأخرج ذاك، أنت بلحظة ما تركل تلك الكرة وتبكي على إتقانها أو ضياعها، أنت هناك في المستطيل الأخضر أحد الناجين من شاشة أخبار الحرب الملونة بدمائنا، لكنك بطريقة أو بأخرى قد تتحول من لاعب إلى مقاتل.

في كل بيت عربي انقسمت القلوب بين فريق وطني ينتمي لك، وفريق فلسطين الذي تنتمي له، بإنسانيتك وعروبتك وهويتك، في الملاعب على أرض قطر حيث تقام بطولة كأس آسيا بين (12 كانون الثاني/ يناير و10 شباط/ فبراير)، وفي كل مباراة كان الرابح هو فريق فلسطين، بغض النظر عن حقيقة النتائج، وأسماء الفرق، فقد حضرت فلسطين وأعلام فلسطين، وحضرت غزة، بآلامها وصمودها، كأنها الحقيقة التي تقاوم غيابها عن ماضي وحاضر الشعوب العربية، وكأن ممارسة الحياة عبر رفاهية الحضور الرياضي، هو انتصار على الموت، والتغييب، والدمار.

ربما وحده فريق سورية لكرة القدم الذي شارك في بطولة كأس آسيا 2023/ قطر، يتشارك مع فريق فلسطين ذات الظروف الانقسامية لشعبه بين حكامه، من حيث التمزق بين التبعيات السياسية، والاحتلال لأرضه، فبينما ينقسم الفلسطينيون بحكم الاحتلال والمنازعات السياسية بين منظماته وفصائله العسكرية إلى فلسطينيي (1948) الذين يعيشون تحت ظل إسرائيل، وفلسطينيي الضفة الغربية الذين تحكمهم السلطة الفلسطينية، دون أن تنتزع عنهم مخالب دولة الاحتلال وأجهزته الأمنية، وفلسطينيي قطاع غزة، وفلسطينيي اللجوء والشتات، ينقسم أيضًا الشعب السوري ما بين سوريين  تحت حكم نظام الأسد، وسوريين تحت الاحتلال الإسرائيلي، وآخرين تحكمهم الفصائل المسلحة وجبهة تحرير الشام، وسوريين تحت حكم الإدارة الذاتية، وسوريي اللجوء والشتات والخيام.

في كل مباراة كان الرابح هو فريق فلسطين، بغض النظر عن حقيقة النتائج، وأسماء الفرق، فقد حضرت فلسطين وأعلام فلسطين (Getty, Doha, 23/1/2024) 


إلا أن ما ميّز الفريق الفلسطيني الذي جاء بعض لاعبيه من مناطق الخطر المحدق بهم وبأهاليهم، من نقاط التماس مع الموت، ومن بين سلاسل قمع المحتل وخلافات ساسة السلطة وتشتت هويات المبعدين، أنه بكل لاعبيه، كان فلسطينيًا فقط، رمى عنه كل ملحقات الأسماء، وحّد المشاعر بانتمائه إلى كل فلسطين، وعزّز موقع الرياضة في جسر الخلافات بين الأصول من شعبه وبين الشعوب على اختلاف هوياتها وثقافاتها، قال كلمته في الملعب وخارجها هنا فلسطين، وهنا قلب العرب، لقد حضر إلى الملعب حاملًا محبة كل الفلسطينيين، فاز بما يستطيع ولم يخسر ما جاء من أجله، لقد رسخ اسم فلسطين في مرمى قلوب العالم.

وفي الوقت الذي كان السوريون يريدون للرياضة أن تسمو على الخلافات، وأن تكون الرقم الوطني لكل سوري، وأن يستعيد الشعب من خلالها قدرته على بناء ذاكرة جديدة يدّخرها لمستقبله القادم، وأن يعبد من خلالها الطريق إلى مصالحة توحد القلوب قبل أن تردم الحدود، وتزيل الحواجز والجدران، مدت السياسة أنفها، لتقول: ما آن أوان وحدة السوريين، ولا يزال لكل من مناطق سورية الأربع (التي تحكمها سلطات الأمر الواقع) حسابات لم تسدد، ولا يزال الطريق إلى الهدف المأمول غير معبد.

نعم، لقد وقعت الواقعة، وبددت السياسة ما كان للرياضة أن تجسره، وأن تبني عليه في إعادة توحيد السوريين، من أصغر نقطة لقاء في الملعب، وأكبر تجمع للسوريين وهي الرياضة، فقد جرى استخدامها في غير غايتها وهدفها، لتكون أداة تفريق، وسواء كان مجبرًا أم مخيّرًا، من تطوع لأداء هذا الدور، من لاعبين، أو جمهور عبر الشاشات، ومن خلف بنادق الكمبيوترات، فقد أسهم من حيث يدري أو لا يدري، بضياع فرصة الفوز ليس بالكرة، وأهدافها، وإنما بالوطن الموحد، ومواطنيه، على أي بقعة كان، وتحت حكم أي سلطة.

نعم، الرياضة هي جسر بين الشعوب، توطد العلاقات الدولية، وتعزّز قيم الاحترام، وتصنع لجدران السياسة الصماء نوافذ وأبواب غفلت عنها أدواتها، وقد رأينا ذلك بأعيننا وعبر شاشات التلفزة في بطولة كأس العالم/ قطر 2022، وكان يمكن للاعبي الفريق السوري خلال بطولة كأس آسيا المقامة في قطر أيضًا، أن يعززوا ذلك الأمل القادم من الملاعب الخضراء لترميم الصدع السوري، بالتأكيد على أن عالم الرياضة هو عالم السلام، والحب، والتنافس على رفاهية المتعة والتسلية والانتماء خارج مفهوم التنازع على السياسة، لأنه انتماء للشعوب وثقافاتها، ومشاركتهم في فرحة يصنعها بعض قليل لكثير منهم منتشر في الأرجاء، حيث تعلو مطامحهم الإنسانية على مطامع السياسة السلطوية، ويلهمون الناس على مكامن الخير وأدوات التعريف به، وينسجون روابط المودة وأسبابها، كما فعلها فريق فلسطين القادم من تحت ركام الحرب، والمنتمي إلى فلسطين واحدة، رغم كل هذا التمزق الذي يعيشه شعبه، على أرضه، وتحت حكم سلطاته والاحتلال. 

*كاتبة سورية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.