}

حروب الكتابة وحروب الصور: في سياسات الثقافة

فريد الزاهي 15 مايو 2024
آراء حروب الكتابة وحروب الصور: في سياسات الثقافة
عمد المصور لاقتطاع الصورة من سياقها ومنحها معنى آخر

 

بالمصادفة اطّلعت على فيديو حواري للمفكر محمد عابد الجابري ينتقد فيه عبد الله العروي، ويرد على جورج طرابيشي. كانت لهجة الرجل تتسم بالتأتأة والتردد والعصبية خلافًا لما عهدناه فيه من رصانة واسترسال وثقة في النفس في محاوراته الأخرى. يعتبر الجابري نفسه أنه فيلسوف، فيما أن العروي "مجرد" مؤرخ، وإن كانت كتاباته ذات طابع فلسفي، تأخذ لها هيجل مرجعًا. كما أن العروي يكتب باللغة الفرنسية وإن كان قد انتقل بعد ذلك إلى الكتابة بالعربية. وإذا كان الجابري يلح على التزامه السياسي في حزب يساري اشتراكي معارض، فإن العروي في نظره لا التزام سياسي له ويعتبر (مثله في ذلك مثل هيجل) أن دور الدولة أساسي ومركزي في بناء سيرورة العقل. ولا ينسى الجابري أن يذكر الاختلاف الجوهري بينهما، المتمثل في أن العروي يلغي دور التراث في بناء تلك السيرورة العقلانية. ومن اللهجة التي يتحدث بها الرجل لا يمكننا إلا أن نستشف في هذه المقارنة غياب الاعتراف والاختلاف الذي ساد بين كبار مثقفينا في ثقافتنا العربية، ونبرة الإنكار وغياب التحليل السياقي، حتى لدى مفكرين عقلانيين.

إن هذا يذكرنا أيضًا بالهجمة القاصمة التي شنّها الخطيبي على العروي في شكل ضربة مطرقة نيتشوية. فقد اعتبر الخطيبي أن تاريخانية العروي تلغي الوجود والاختلاف وأنها ذات طابع أيديولوجي لا فكري. وأن مفهومه للعقل والتاريخ يلغي الوجود والاختلاف والتعدّد الذي يسم بطابعه مجتمعاتنا العربية. وهذا السجال القاسي يدخل في ما اعتبره الخطيبي، في ما بعد، سمة مرحلة صراعية، لو قدّر له أن يعيشها من جديد لتخلى عن لهجته تلك ولصاغ نصوصه بطريقة أخرى.

حروب الكتابة وافتعال القطائع

حين يصرّح كاتب عربي روائي، ولو على سبيل المزاح (فالمزاح قد يكون حلوًا أو مرًّا)، أنه أهم من طه حسين، ويثير ذلك ما يثيره من زوابع، فهو يدعونا إلى أمرين: ضرورة الاعتراف والتعميد في ثقافتنا المعاصرة، وضرورة القطائع التي لا تحوّل الماضي إلى أصنام. وبغض النظر عن الطابع الذاتي "للمزحة"، يبدو أن معمعة الثقافة العربية المعاصرة، بالرغم من أنها تفرز الأسماء إلا أن تلك الأسماء ترتبط بقبائل متشذرة من القراء والصحافيين الذين لا يمنحونها قيمة صلبة. وتكريم عبد الله العروي وطه حسين ونجيب محفوظ في الآونة الأخيرة يستدعي التفكير في أثر أعلام الثقافة العربية وموقعهم منها.

حين تكون الوسائط الثقافية هشة ومتشذرة وانتقائية، وحين يغيب التصور الشامل للتاريخ الأدبي والثقافي، لا يمكن لثقافة ما إلا أن تتخبط في العشوائية. في حال كهذه تعيشها الممارسة الثقافية في العالم العربي يغدو المثقف والأديب أشبه بدون كيخوتي، يعيش رحلة صراع وهمية تتحول فيها الطواحين الهوائية إلى جيوش يلزم محاربتها. من ثم يغدو "فرسان" الثقافة العربية وسطاء لأنفسهم، ويأخذون مكان الصحافة والمؤسسات الأدبية الثقافية والأصوات النقدية. وسواء تعلق الأمر بمزحة أو بصراع خفي من أجل التعميد، أو بنرجسية ثقافية تلازم العديد من المثقفين والكتاب، فإن الأمر يشكل في نظرنا عرَضًا قابلًا للتحليل السياقي ولاستكناهه لا في ذاته وإنما في ما يعبّر عنه من أبعاد تحيل إلى وضعنا الثقافي عمومًا.

لم يثر الضجة نفسَها تصريح أحد الفنانين العرب "اللامعين" على صفحته بالفيسبوك بأنه أفضل من بيكاسو، وبأنه غني عن تراث الإنسانية التشكيلي الذي يحتضنه متحف اللوفر. فبيكاسو ليس عربيًا وإن كان "أهم" من طه حسين في المستوى العالمي وأشهر منه. والسبب قد يعود إلى سياق التصريح، كما إلى الرمزية التي يحظى بها هذا الأخير في ثقافتنا العربية الحديثة. وهو ما يعني أن المشكل لا يكمن في التصريح، ولا في الصيغة التي اتخذها، ولا أيضًا في الأهمية وافتعال القطائع وتعديد المرجعيات زمنيًا، وإنما في دلالته العامة. فالكاتب هنا يأخذ موقع الوسائط التحليلية والنقدية التي تمارس تقويم أعماله وموقعه الثقافي من جهة، ويؤكد على هشاشتها وضعفها وعدم قدرتها على بناء "هرمية ثقافية"، كما تلك التي قامت عربيًا في زمن ما بتعميد طه حسين، من جهة أخرى.

يعتبر الجابري نفسه أنه فيلسوف فيما أن العروي "مجرد" مؤرخ، واعتبر الخطيبي أن تاريخانية العروي تلغي الوجود والاختلاف 


ففي زمن هذا الأخير كانت تلك الوسائط (صحافية ومؤسسية وفردية) تبني مرجعيات الثقافة العربية وتقوم بدورها في تأسيس مسير هذه الثقافة، أمام تحديات ذات طابع قومي وسياسي وتحرري. أما اليوم فإن التسيّب الثقافي العام والضبابية التي تعرفها الممارسات الثقافية وتحوّل الساحة الثقافية إلى قبائل وأرخبيلات، لا نميّز فيها الضحل والغث من السمين القيّم، جعلت من الصعب عملية الفرز الثقافي. فالأسماء أضحت تأخذ أهميتها في الغالب في غير بلدانها، والجوائز تحتضنها مواطن حديثة العهد بالثقافة والإنتاج الثقافي، ودور النشر أضحى لا يهمها غير كثرة الأسماء وكثرة المنشورات، وأغلبها لا يملك لجان قراءة مؤهلة لاختيار المنشورات. وما إن يلمع اسم حتى تتهافت الصحافة والنقد على تكريسه حتى لو باض فراغًا في ما بعد...

من ناحية أخرى، يؤدي هذا الطابع "الليبرالي الهمجي" للإنتاج الثقافي إلى ضرب من الفوضى التي تزيد من هشاشة تلك الوسائط. فهي تجد نفسها تلهث وراء المتابعة، من غير نسقية أو منظور تاريخي لإنتاج المثقف أو لسياقه الثقافي العام. ينضاف إلى ذلك تدخل الوسائط الجديدة في عيانية الكاتب والمثقف، من تسجيلات وتصريحات بصرية في التلفزات المتعددة وقنوات الفيديو والصفحات الشخصية. وهو ما يؤدي إلى "تضخم" باذخ لصورته، وإلى تراكم سيّال للتصريحات والتعاليق والمناقشات، قد يغطي أحيانًا على الإنتاج الأدبي والفكري والثقافي ويعوّمه في الخطاب على الخطاب.   

من حرب الكلام إلى حرب الصور

الأمر لا يقتصر على المجال الثقافي بمعناه الحصري. فقد تداولت مواقع التواصل بالمغرب مؤخرًا صورة مجتزأة من تسجيل فيديو انتزعها صاحبها للتشهير بشابة مغربية يوتوبية تمارس النقد السياسي، وتعلن فيه عن تأسيس حزب سياسي جديد (ينضاف إلى ما يربو على الثلاثين حزبا سياسيا التي تضمها المملكة). لا يهمنا هنا أن هذه السيدة الشابة قد بدأت مشوارها متحجبة مع حزب إسلامي وصل إلى الحكم لمدة ولايتين. كما لن نهتم بكونها تنتقل من موقف إلى آخر بجرأة نفقد معها ذاكرة تلك التحولات والانعطافات. ما يهم هنا، هو أن هذه السيدة الشابة التي استعملت بشراهة الصورة في تواصلها السياسي البصري، وجدت نفسها ضحية لتلك الصورة التي كانت وسيلتها للشهرة في العصر الرقمي.

سلطة الصورة وقوتها وعتيُّها هو الذي أوقع العديدين قبلها ضحية لها. فهي كالأفعى يمكن للبعض أن يروّضها ويجعل منها كيانًا أليفًا يعايشه في عقر بيته وحياته، غير أنه يكون حتمًا يومًا ما ضحية للسعتها القاتلة. ذلك ما حدث للمصور الفوتوغرافي الجنوب أفريقي كيفن كارتر. فقد صار الرجل مشهورًا بصورة التقطها في السودان عام 1994 في عز الحرب، لصبية هزيلة يترصد نسر هائل أن يجعل منها فريسة سائغة له. وفي السنة نفسها حاز المصور بفضل هذه الصورة على جائزة بوليتزر. بيد أن الصحافة انهالت عليه بالنقد والتشهير واتهامه بالخلل الأخلاقي والهمجية لأنه صوّر وضعية مأساوية كان عليه فيها أن ينقذ الفتاة عوض أن يجعل منها فريسة لشهرته هو. ولم يتحمّل المصور هذه الهجمة الشرسة المتواصلة فأقدم على الانتحار في السنة الموالية واضعًا حدًّا لحياته كما لمستقبله الفني. في عام 2011، قام صحافي من أميركا اللاتينية باستطلاع عن هذه القضية، وسافر للسودان، والتقى بعائلة الصبية وأعاد الأمور إلى نصابها. فقد اكتشف أن الصبية "المحتضرة" لا زالت على قيد الحياة وصارة فتاة شابة، وأن كيفن كارتر التقط الصورة حين كانت الصبية تلهو غير بعيد عن أبويها، وأن وجود النسر أمر معتاد في القرية السودانية. ما الذي حدث إذًا؟ لقد عمد المصور إلى اقتطاع الصورة من سياقها ومنحها معنى غير معناها المرجعي الأصل، ودلالة جديدة قائمة على التحوير والاستعمال العمد Manipulation، فأضحى بدوره ضحية لتحويره للقطة، وعوض أن تكون الصبية فريسة للنسر كما في الصورة، صار المصور ضحية لاستخدامه التحويري للواقع بالصورة.    

إذا كانت السياسة مجالًا خصبًا للكذب والمناورات والمناوشات، فإن الصورة تشكّل عنصرًا أساسًا فيها. ففي بلدان من قبيل أميركا وبريطانيا وفرنسا، تلاحق الصور الساسة والزعماء والمشاهير، وتكشف عن هفواتهم وخياناتهم والتفاصيل الخفية لحياتهم لتشهرها فتقلب أحيانًا حياتهم رأسًا على عقب إن لم تضع حدًا لنشاطاتهم السياسية. والصورة التي نشرت للسيدة السياسية الشابة أصابت مقتلًا منها في بداية مشوارها الحزبي. فالصورة، أي صورة، يمكن أن تأخذ طابعًا سياسيًا حتى إن لم يكن موضوعها سياسيًا. والصورة التي اقتلعت من سياق تسجيل الفيديو، ونشرت للسياسية الشابة، بغض النظر عن طبيعتها، تكشف مقاصد من يستعملها لغرض غير ذلك الذي أنتجت من أجله.

حرب الصور، إذًا، قاتلة أحيانًا أكثر من حروب الكلام، لأن حروب الكلام تنتج الكلام أكثر من الصمت، حتى ولو أفحم أحد الأطرافَ الأخرى بالإقناع والحجاج أو السخرية. أما الصور فمهما خلقت من ضجيج فإنه يكون كلاميًا؛ لأن الصورة تصيب المقتل مباشرة وتؤجج العواطف، وقد تجبر على الصمت والتراجع والانطواء. وقبل أن تعود اللقطة إلى سياقها وتندرج فيه ولا تخرج منه غولًا يلتهم صاحبها (كما في حال المصور كيفن كارتر)، تكون قد دّمرت أمورًا وغيّرت مسارًا وتركت ما تركته من آثار مدمرة، مثل عاصفة هوجاء تحصد في طريقها الأخضر واليابس، لكيلا نكتشف آثارها إلا بعد مرورها. أما الحروب الكلامية فإن عاصفتها التي تكون سحابة صيف، تولّد ردود الفعل، وتكشف عن لاوعينا الثقافي، كما عن هشاشة تاريخنا الثقافي المعاصر وضبابيته... 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.