}

الحركات الطلابية التي تصنع الفارق

سوسن جميل حسن سوسن جميل حسن 2 مايو 2024
آراء الحركات الطلابية التي تصنع الفارق
احتجاجات طلابية في باريس (Getty, 1968)

 


من المعروف أن أكثر مراحل العمر ازدهارًا بالنسبة إلى الدماغ البشري وإبداعه هي في مرحلة الشباب، حتى عمر الثلاثين، بل إن بعض النظريات تقول إن العمر الزاهي للدماغ بالنسبة لعلوم الرياضيات هو في الخامسة والعشرين.

ومن المعروف أيضًا أن كثيرًا من الأبحاث توكل إلى طلاب الجامعات، هذا في الجامعات القديرة التي تتسم بالكفاءة العلمية والملاءة المادية وأسس التعليم الأكاديمي، وغالبًا ما تلجأ الشركات المنتجة في أي مجال إلى المراكز البحثية التابعة للجامعات من أجل دراسة مشكلة ما واقتراح حلول لها، أو من أجل تطوير منتج ما، وهذا الأمر ينتهي بالتسلسل الهرمي نزولًا إلى أن يصبح بين أيدي الطلاب، أصحاب الأدمغة الأكثر قدرة على الابتكار والإبداع.

هذه الفئة العمرية مفعمة بالطاقة والقدرة الفائقة على معالجة المعلومات والابتكار، ومن الطبيعي أن تعدّ الخامة الأساسية لدى كل شعب أو دولة، عليها ينبني الحاضر والمستقبل.

وإذا ما استحضرنا تاريخ الطلبة في حقب عديدة من تاريخ البشرية، خاصة في القرن الماضي الذي شهد تحولات تاريخية كبرى، فيمكن القول أيضًا إن الضمير الإنساني في أكثر مراحله نزاهة يكون في هذا العمر.

الاحتجاجات الطلابية في القرن الماضي

ما نشهده اليوم من احتجاجات طلابية ضدّ الحرب الإسرائيلية على غزة في عديد من الجامعات الأميركية، يعيدنا إلى تلك المراحل من التاريخ، عندما استطاع الحراك الطلابي التأثير في المشهد السياسي والاجتماعي والحقوقي، وساهم في اتخاذ قرارات كبيرة من قبل الحكومات والأنظمة، وتعدّ جامعة كولومبيا نموذجًا مهمًّا بالنسبة إلى هذا النمط من النشاط الفعال.

أما زمنيًّا فيعدّ العام 1968 عامًا محوريًّا وتأسيسيًّا، إذ شهد كثير من بلدان العالم احتجاجات طلابية، ففي ربيع هذا العام اندلعت في الولايات المتحدة احتجاجات على خلفية سيطرة نحو ألف طالب في جامعة هوارد التي يدرس فيها طلاب أغلبيتهم من أصول أفريقية واحتلوا المبنى الإداري للجامعة مطالبين باستقالة رئيس الجامعة، وإدخال تاريخ وثقافة الطلاب الأفارقة في المنهج التعليمي، ثم تلى تلك الحركة احتجاج طلاب جامعة كولومبيا من أجل الضغط على إدارة الجامعة لإلغاء العقد بينها وبين مركز أبحاث للأسلحة في خضم الحرب على فييتنام، تدخل رجال الأمن حينها بعد أسبوع من احتلال الطلاب لمبان جامعية واعتقل نحو سبعمئة طالب وأصيب عشرات بسبب المواجهات مع الشرطة، لكن الاحتجاجات استمرت فصلًا دراسيًّا كاملًا ما أدى إلى تعطيل العمل في الجامعة واستجابت بعدها إدارة الجامعة إلى طلبات المحتجين.

انتقلت عدوى الاحتجاجات الطلابية إلى أوروبا، ففي فرنسا شكلت الحركات الطلابية في عام 1968 منطلقًا لتحولات كبيرة في فرنسا وخارجها، وتحولت المظاهرات الطلابية إلى حركة ضغط تمس الجوانب الاجتماعية والسياسية والحقوقية، والقضايا العالمية أيضًا. وتبعتها حركات مماثلة في الأعوام 1973 و2003 و2018. تظاهر طلاب السوربون في باريس تطور إلى تمرد شعبي شارك فيه الطلبة بكافة توجهاتهم السياسية.

شاركت حركة الطلبة الألمان في التظاهر ضد قوانين الطوارئ التي كانت مطروحة للنقاش آنذاك، وفي إسبانيا تظاهر الطلاب ضد حكم الجنرال فرانكو الديكتاتوري، وشهدت تشيكوسلوفاكيا احتجاجات تبعت الغزو السوفياتي الذي أنهى "ربيع براغ". كذلك وارسو التي شهدت احتجاجات توسعت بسرعة كبيرة وارتفع عدد المشاركين من ثلاثمئة حتى أكثر من عشرين ألفًا.

الاحتجاجات الطلابية تضع ديمقراطية الدول على المحك

في مستهل القرن الواحد والعشرين، زاد النشاط الطلابي المناهض للحروب في أميركا، ونتج عن ذلك تأسيس "شبكة الحرم الجامعي لمناهضة الحروب"، وحاليًّا يشهد عدد من الجامعات الأميركية مظاهرات احتجاجًا على الحرب الإسرائيلية على غزة، ففي جامعة هارفارد في مدينة بوسطن جرى إغلاق ساحتها الرئيسية أمام العامة ولم تسمح بدخول الخيام إلا بعد الحصول على إذن مسبق. أما في جامعة ييل بولاية كونيتيكت، فقد أقدمت الشرطة على اعتقال أكثر من 60 متظاهرًا يوم الاثنين 22 أبريل/ نيسان، ودعا الطلاب المحتجون في الجامعات الأميركية إلى دعم الجهود الرامية لوقف إطلاق النار في غزة، ووقف الاستثمارات مع الشركات الداعمة لإسرائيل.

وألغت جامعة كاليفورنيا للفنون التطبيقية في هومبولت الحضور الشخصي بعد أن تحصن الطلاب في مبنى إداري، فيما قالت جامعة ميشيغان إنها ستسمح بحرية التعبير والاحتجاج السلمي في احتفالات التخرج في أوائل مايو/ أيار، لكنها ستوقف التعطيل الكبير للدراسة.

لقد رفع الطلاب أصواتهم معلنين مطالبهم، ففي بيان لها قالت المجموعات الطلابية المؤيدة للفلسطينيين في جامعة كولومبيا: نطالب بسماع أصواتنا الرافضة لأعمال القتل الجماعي للفلسطينيين في غزة، جامعتنا متواطئة في هذا العنف وهذا سبب احتجاجنا. وتضامنًا مع الطلاب وتنديدًا بقرار إدارة الجامعة نظم مئات من أعضاء هيئة التدريس في جامعة كولومبيا يوم الاثنين 22 أبريل/ نيسان، إضرابًا عن العمل، فيما قررت إدارة الجامعة استئناف الطلاب دراستهم عن بعد.

احتجاجات في مانهاتن لوقف الحرب على فيتنام (Getty, 1968)


ولا بد من الإشارة إلى موقف رئيسة جامعة كولومبيا الأميركية المصرية، نعمات مينوش شفيق، باستدعائها الشرطة إلى حرم الجامعة فدخلوها واعتقلوا أكثر من 100 طالب. وكأن التاريخ يعيد نفسه، ففي عام 1968 اتخذ رئيس الجامعة وقت احتجاجات الطلاب ضد الحرب على فيتنام، غريسون كيرك، قرارًا بالسماح لشرطة نيويورك باقتحام حرم الجامعة وفض الاعتصام والتظاهرات، وهو القرار الذي قال عنه لاحقًا إنه "أكثر قرار مؤلم اضطر لاتخاذه طوال حياته"، فهل ينتظر من رئيسة الجامعة الحالية موقف مشابه؟

دائمّا ما تتخذ "فزاعة" معاداة السامية في تبرير الكيل بمكيالين بالنسبة للإدارة الأميركية، وغيرها من الدول الداعمة لإسرائيل بالمطلق، علمًا بأن مطالب الطلاب واضحة ومحددة، وهي وقف دائم لإطلاق النار في غزة ووقف المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل، بالإضافة إلى وقف التعاون بين الجامعة وبين تل أبيب، فهل هذه المطالب خارجة عن طبيعة الضمير الإنساني؟ وهل فيها دعوة عدائية ضد أحد، أم إنها رفع الظلم والقتل والإبادة ومنح الشعب المنتهك في غزة حقه في الحياة؟

هل يمكن التعويل على الطلاب أكثر من المثقفين؟

على الرغم من تأثير المثقفين ودورهم في التحولات التاريخية، إلّا أن ما يميز الحراك الطلابي أو الاحتجاجات الطلابية أنها فاعل آني في الأحداث، فهي تمتلك المكان قبل كل شيء، وهذا مهم جدًّا، فتشكل من خلاله واستخدامه وسيلة تجمع وتظاهر وتعبير وتعطيل أيضًا قوة ضغط فعّالة، وهذا ما يميز الإضرابات بشكل عام، إذ يكفي احتلال المباني التابعة للجامعة، أو نصب الخيام في الحرم الجامعي، وتعطيل العملية التعليمية حتى تضطر الإدارة إلى الاستماع إلى الطلبات ومناقشتها.

وما يميز الاحتجاجات الطلابية أيضًا أنها تجذب الأنظار إليها، وتستجلب التعاطف الشعبي من خارج الجامعات، هذا شهده العالم في موجة الاحتجاجات في عام 1968 وما تلاه، خاصة الاحتجاجات في فرنسا، إذ تبدأ بين الطلاب ثم يمكن أن تلتحق بها شرائح أخرى بين عمالية ونقابية وفقراء وغيرهم، عدا كون الطلاب يتمتعون بخصوصية يمكن وصفها بالشعور الأبوي تجاههم من قبل الحاضنة الشعبية، وبحد ما من الثقة بهم وبنيّاتهم، لذلك فإنها مهمة، وعندما تتوسع وتمتد وتكبر يمكن أن يبنى عليها، خاصة في لحظة العالم الحالية المترعة بأسباب القلق الوجودي الذي تعتبر الحروب من أكبر مسبباته، فكيف إذا اقترنت مع الكوارث والتغيرات المناخية وخراب البيئة الحيوية ومشاكل الفقر والجوع التي تهدد البشرية؟

المثقفون لا يمتلكون مكانهم الخاص، غالبًا ما يعبرون عن مواقفهم من الأحداث الراهنة عن طريق البيانات والمقالات والمنابر الإعلامية، وهم دائمًا يفتقرون إلى الهوية الجامعة، فحتى كلمة مثقف مختلف عليها وتعتبر مفهومًا إشكاليًا، وطالما كانت مواقفهم إشكالية أيضًا تجاه بعض القضايا في تاريخ البشرية، بين مؤيد ومعارض لها، منهم ما وقف بجانب الأنظمة، ومنهم من صمت، ومنهم من ناهضها ودفع ثمن مناهضته، ومنهم من كان موقفه مراوغًا وانتهازيًا، ومنهم من دافع بشراسة عن قضايا الشعوب وعن القيم الإنسانية، منهم من التحق بالسياسة ومنهم من استقل عنها، وبينهم من تصالح مع ماضيه وغيره حاول طمس هذا الماضي وابتعد عن النقد الذاتي.

الطلاب يدفعهم ضميرهم قبل كل شيء، فهم برأيي في مرحلة عمرية لم يتوصلوا معها بعد إلى تبني مبادئ فلسفية أو مواقف سياسية، حتى لو وقفت بعض الحركات والأحزاب خلف حراكهم أو بجانبه، بل حتى لم ينضجوا فعليًا لناحية التكوين الثقافي بشكل عام، إنما لديهم رؤاهم حول القضايا الإنسانية، ويشعرون بأنفسهم أنهم أجيال مستقبل مرتهن لنيات السياسيين وصناع القرار في العالم من دون الاكتراث بمستقبلهم، ومن دون الأخذ بآرائهم حوله أو إشراكهم في صنعه، هذا يدفعهم إلى المضي خلف ضمائرهم، وبالتالي فإن مواقفهم أكثر أخلاقية، خاصة أمام الكم الهائل من الصور والمشاهد والأخبار في عصر الثورة الرقمية، فإذا كان التلفزيون قد شكل عاملًا مساعدًا في تكوين وعي أجيال الاحتجاجات الطلابية في ستينيات القرن الماضي، فإن وسائط اليوم فائقة التعدد والذكاء ساهمت في إظهار الحقائق والوقائع بطريقة لا يمكن للإعلام الموجه سياسيًا طمسها، فكشفت سياسات الأنظمة ومخططاتها واستراتيجياتها التي تمشي بالبشرية إلى الخراب، ودفعت بالمبادئ والقيم التي تنادي بها من ديمقراطية وحرية تعبير وعدالة إنسانية إلى المحك.

الاحتجاجات الطلابية من أكبر "اللوبيات" التي يمكن أن تؤثر في السياسات، هذا ما يؤمل منها بالنسبة إلى الحرب الإسرائيلية على غزة، وهي حركات صادقة، حتى إن بعض الطلاب خسروا منحهم الدراسية ولم يتراجعوا، إنها معيار القيم والأخلاق التي لم تشوهها التحزبات والسياسات والأفكار والعقائد، وهي ضمير إنساني في نسخته النقية.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.