}

هامش صغير لكلام كبير: طه حسين وإصلاح المجتمع والدين

فيصل درّاج 10 يونيو 2024
آراء هامش صغير لكلام كبير: طه حسين وإصلاح المجتمع والدين
طه حسين (1889 ــ 1973)

احتفل كتاب عرب شهيرون، الشهر الماضي، بطه حسين، في مناسبة من مناسباته الفكرية الصاخبة المتعددة، أكان كتابه "في الشعر الجاهلي"، الذي جلب له عداء المؤسسة الأزهرية، أم تكريس لقب "عميد الأدب العربي"، أو نهجه العقلي ــ العلماني الذي قرأ به التراث قراءة علمية. وإذا كان الأمر في ذاته جديرًا بالتحية، فإن في الوجه المجزوء من الاحتفال ما يثير بعض الفضول، ذلك أن حسين بدا للمحتفلين به ناقدًا للدين والفكر العربي المحافظ، كما لو أنه بدأ بنقد الدين وانتهى به، على اعتبار أن الموروث الديني لوحده هو سبب تخلّف الثقافة العربية، الذي أفضى بها إلى موروث جامد يُكمل مواتًا يلفّ المجتمعات العربية.
أكّد طه حسين في اجتهاداته المتوالية أنه خاصم أطرافًا ثلاثة واجهت مشروعه الفكري ــ الاجتماعي هي: مؤسسة الأزهر، وقوى الاستعمار الإنكليزي، و"القصر الملكي"، أي أن قضاياه الأساسية كانت سياسية، في التحديد الأول والأخير. فلم يكن مرضيًا عنه في زمن الملك فؤاد، ولم يكن مرحبًا به في زمن ابنه الملك فاروق، واختلف مع حزب الوفد حين كان يكتب في جريدة "السياسة" التابعة لحزبه، آنذاك، حزب الأحرار الدستوريين، واصطدم بموقف الأزهر غير مرة، ودار خلافه مع غيره، في الحالات جميعًا، حول الاستبداد، والديمقراطية، وحصار الفكر والاعتراف بحريته. ولعل هذا الخلاف هو ما جعل السيد العميد يأخذ بسياسة كتابية خاصة به، وأملى عليه "سياسة المثقف المتمرد"، تلك السياسة التي تربط الكتابة، كما القراءة، بسبب اجتماعي مرجعه المصلحة الوطنية، والوطنية كلمة ثابتة في كتاب حسين: "مستقبل الثقافة في مصر". تطلّع إلى الوعي الصحيح للرسالة الدينية، التي تنشد العدل، أو تستغلها السلطة الحاكمة في نشر الظلم والظلام وتبريرهما؛ "لم تعرف الدنيا ولن تعرف الدنيا حاكمًا له عدالة عمر بن الخطاب"، كما جاء في كتابه "الفتنة الكبرى".




من المحقق أن طه حسين لم ينقد الدين، من حيث هو، بل توقف أمام آثاره الاجتماعية ــ الوطنية، التي تحتمل السلب والإيجاب، لذا أنجز دراسة عقلانية ــ سياسية للدين، واضعًا "الدين بين قوسين"، ومنفتحًا على قضايا المجتمع الذي قد يعتقله الوعي الديني المغلق، أو يسهم أحيانًا، ولو بقدر، في "الاستنارة الاجتماعية"، أي أن حسين قرأ الوضع الاجتماعي للدين من وجهة نظر "التحديث الاجتماعي"، والانفتاح على متغيرات الحياة، خاصة أنه أكد في مطلع كتابه "نقد الشعر الجاهلي"، "أن الأمة العربية ــ الإسلامية محافظة، بل إنها شديدة المحافظة". والتزامه بهذا على مبعدة شاسعة من المدرسة المعادية للدين في ذاته، وهو شكل من الترف الثقافي المجاني يرضي مفردًا، ويضع خارجه المجتمع والسياسة والسلطة. تعامل حسين مع المعتقد الديني مُزودًا بأدوات معرفية ثلاث: منهج الشك الذي لا يرضى "بعادات الفكر"، ويُعمِل العقل في الفصل بين الزائف والصحيح، وتجربته الحياتية الأزهرية التي عرّفته على "مشايخ" يرون الفضول الفكري موبقة من الموبقات. وأخيرًا، المقارنة بين المجتمعات والتعرّف على أسباب نهوضها، أو انحطاطها. وكأنه يهجس، ربما، بواقع المجتمع الفرنسي الذي جاءت به، تاريخيًا، الثورة الفرنسية.



اتكاء على ثقافته الذاتية وتجاربه الحياتية، رأى حسين أن الدين علاقة اجتماعية تُختصَر في ثنائية مجردة حدّاها الإلحاد والإيمان، إنما ترتبط ارتباطًا عضويًا بالمستوى الثقافي في الاجتماعي الذي تلعب السلطة السياسية في تشكيله دورًا حاسمًا، بدءًا من مراحل التعليم المختلفة، وصولًا إلى السياسة الإعلامية والطقوس الدينية التي تحتفي بها، أو تستنكرها، وانتهاء بأجهزة الدولة الأيديولوجية في علاقتها بتشكيل العبادات، وأنماط القراءة والاستعمالات اللغوية.
لكأن في نظر حسين ما كان يقول: ينزع تأويل الدين في البيئة الاجتماعية المتخلّفة إلى التخلّف، ويرتقي بارتقاء الوعي الاجتماعي، ويتسفّل إن تسفّل هذا الوعي وحاصره الجهل. فللعقول المفكرّة "الممتازة"، والصفة الأخيرة من لغة حسين، وعي ديني على صورتها، وللأفكار المتدَرْوشة التي تنفي الإنسان وعقله "دينًا متدرْوشًا" ينوس بين تلقين جهول، واستظهار أكثر جهلًا.




لم يأخذ طه حسين بتصوّر "أكاديمي محترف" يربط، أوتوماتيكيًا، بين معرفة القراءة و"النفاذ" إلى دلالة الدين، إنما أقام القراءة الصحيحة على التربية الديمقراطية وبناء العقل الفعّال الحر، ذلك أن قراءة يحكمها المنظور المستبد تنتهي إلى منظور يبارك استبداد النص الديني. لم يكن في ذلك بعيدًا عن موقف عبد الرحمن الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد"، الذي أكّد أن الاستبداد السلطوي المسيطر يعيد بناء صورته في العلاقات الاجتماعية جميعها، بما في ذلك قراءة "النصوص المقدسّة".
في العلاقة بين الديمقراطية وقراءة النصوص المقدسة، تأخذ الأولى، في منظور حسين، موقع الأولوية. ولهذا جاء في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر": إن تعليمًا بلا ديمقراطية لغو فارغ يفيد "النخبة الحاكمة"، وإن ديمقرطية بلا تعليم لا تؤمن من حاجات المجتمع شيئًا. بهذا المعنى، فإن التحرّر من التربية الدينية المتزمتة يستلزم تربية اجتماعية ديمقراطية، الأمر الذي يضيء العلاقة بين "السياسة والقراءة" وبين الاستبداد الديني المحروس "بنخبة دينية" متكسّبة من الاستبداد المسيطر الحاكم.
يمكن القول، اتكاء على ما سبق، إن "مطالبة المستنيرين" بإصلاح ديني منشود، من دون نقد السلطات الحاكمة، لا يفضي إلى شيء. ذلك أن السلطات المستبدة لا يضيرها التدرْوش الديني في شيء، فهي تدفع إليه، مثلما أن كلام "المتعالمين من المثقفين" عن إصلاح العقل لا يضيرها في شيء أيضًا.
لا وجود لإصلاح اجتماعي من دون الحديث عن إصلاح سياسي، ولا مجال لإصلاح الوعي، أكان دينيًا، أو وطنيًا، إلا بدفاع حاسم عن حق المجتمعات العربية في حياة ديمقراطية. أكثر من ذلك: إن الحديث عن ثقافة عربية تشرف على الموت، أو احتلها الموت أكثر من مرة، لا يستقيم إلا بالإشارة إلى أنظمة عربية مأخوذة بالثبات والركود، أي نصيرة للموت في الثقافة والتربية السياسية معًا. فالإنسان يتأنْسن بالسياسة، والسياسة تستيقظ بالديمقراطية، والديمقراطية طريق إلى الحداثة الاجتماعية التي استهلها الفرنسي ديكارت بجملته الشهيرة: "أنا أفكر، إذن، أنا موجود"، ذلك أن الإنسان اليقظ الصالح رأى فيه الدين خليفة الله على الأرض.
لم يكن طه حسين مشغولًا بالثنائية المجردة: الإلحاد والإيمان، فقد هجس طيلة حياته بإنسان يحترم ذاته، ويعتز بذاتيته، ويميز بين القبح والجمال، وبين التعليم ومحاربة الأميّة والحرية والاستبداد، وبين الجامعات الشكلانية، وتلك التي تنتج المعرفة واليقين والشك، ومحبة البشر والأوطان معًا.
طرح حسين مشروعًا إصلاحيًا شاملًا، لا يقتصر على الدين، بل يتضمّن وجوه المجتمع المتنوعة، واكتفى المحتفون به بكلام كبير وكثير وغزير عمّا يرضي ذواتهم المتعالية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.