}

ألمانيا وإبادة غزة: شيئان تضاعفا عشر مرّات

آراء ألمانيا وإبادة غزة: شيئان تضاعفا عشر مرّات
برّر هابرماس الحرب والتزم الصمت لما تحوّلت لإبادة (Getty)
ألمانيا All In منذ لحظة 7 تشرين الأول/ أكتوبر. بُسرعة، أُخرِجَ إنذار الهولوكوست، والمقارنة الفوريّة مع الجريمة النازيّة بثّت طاقةً جديدة في الجسد الألمانيّ العام. الاستنفار عال، والجميع يراقب الجميع، على أصغر انحراف. اقتحمت الشرطة حرم الجامعات، وهدّدت الدولة المهاجرين المتضامنين برعبهم النفسيّ الأوّل: الترحيل. الحقّ الأوّلي الذي يجب ألا يُنتزَع من المهاجر هو: حقّ عدم العودة.
اشتعلت صفّارات الإنذار الثقافيّة. في بيانٍ شديد في عدم تواصليّته، أدان يررغن هابرماس الإرهاب، وبرّر الحرب، والتزم الصمت لمّا تحوّلت إلى إبادة. الروائيّة الألمانيّة هيرتا مولر نقلت النقاش إلى عالم الخيال بقولها: "لا أستطيع تخيّل عالمٍ من دون إسرائيل". يُهدّد أيّ متضامن بوظيفته، ويُفضَح علنًا كل من يقول: "أوقفوا الحرب"، وتُجرَى أبحاثٌ نفسيّة لإيجاد بذور كراهية الذات عن اليهود رافضي الصهيونيّة. بالتشويه الإعلامي، والتجفيف الممنهج للموارد، تهاجم ألمانيا أي صوتٍ يهودي معادٍ لإسرائيل. على إسرائيل أن تكون موجودة بدرجات متفاوتة داخل كل يهودي، وتجاوزها حتمًا عطبٌ نفسي وكراهيّة للذات. في الشارع، انخفض عنف الشرطة من مرتبة العمومي المجرّد إلى قاع الشخصي والحقود. كُزَّت الأسنان، وزاد الانتباه للون.
مسّت الروح الانحيازيّة تُخوم القضاء. اصطدمت الحماسة الناشئة مع حياد الإطار القانوني كلّه. قاضٍ، مثلًا، حكم بأنّ شعار "من البحر إلى النهر" ليس معاديًا للسامية (الدخيل الذي يلوّث أي نقاش في ألمانيا)، وبرّئ طلاب جامعة برلين الحرة من التهمة. في الأسابيع الأولى، ولمّا كانت السَّكْرة في ذروتها، أشارت المحكمة الدستورية العليا إلى أنّ لا أساس دستوريًا في منع مظاهرات تدعم فلسطين. قاضٍ آخر حكم بأنّ مقارنة رد الفعل الإسرائيلي في حرب غزّة مع جريمة الهولوكوست ليس جريمة قانونية. وكأنّ القضاء هو رئة الجسد السياسي التي تذكّره بالمدى المسموح للشهقة، أو أنّها جهاز مناعة يذكّرك بألا تطلق النار على نفسك.
ما يجعل قمع الرأي في ألمانيا أسهل منه في الولايات المتّحدة هو أنّ مفهوم الكرامة البشريّة يأتي قبل مفهوم حرية التعبير في ألمانيا، في حين أنّ مفهوم حرية التعبير يأتي قبل مفهوم الكرامة البشريّة في الولايات المتحدة. للفرق المثبّت دستوريًا تداعيات جذريّة في النقاش السياسي. من وجهة النظر الأميركيّة، الفكرة مُركّبة كما يلي: لأنّ مفهوم الكرامة البشريّة نسبي وتاريخي وتجريبي، من الأفضل ضمان حق أكثر عمومية وترسُّخ وأوليّة، وهو حق حرية التعبير. التوتّر بين مفهومي الكرامة البشريّة وحرية التعبير مشدود أكثر إلى جهة الكرامة البشرية في ألمانيا، وأكثر إلى جهة حرية التعبير في الولايات المتحدة. من الأسهل في ألمانيا مط حدود ما يضم خطاب الكراهية، إذْ يمكن أن تضم نقوش الكوفية.
243 عاملًا وعاملة (بدرجات أكاديمية مختلفة) في جامعتي هومبولدت وبرلين الحرة، منهم تلامذة مباشرون لهابرماس، نشروا بيانًا متواضعًا دانوا فيه تدخُّل الشرطة العنيف في الحرم الجامعي، وطالبوا بتوفير جوّ ديمقراطيّ حقيقيّ للنقاش حول جريمة غزّة. لا، لم يندّدوا بالإبادة، أو يُسمَّوا الفاعل، فقط ذكّروا بخطورة انهيار الإطار العام، ورغم ذلك، هُوجِمُوا من قبل زملائهم، واستلمتهم جريدة "بيلد" الفضائحيّة، واتهموا بمعاداة الساميّة.




مقارنة 7 أكتوبر بالهولوكوست أمر خبيث، وتُرْفَضُ فورًا، وتُحوّل وجهة النقاش إلى التقاطع بين الهولوكوست وإبادة غزة. رغم أنّ الحذر واجبٌ عند عقد أي مقارنة، ولكن ثمّة ما يجمع إبادة غزة مع إبادة الهولوكوست في العمق. جريدة "دير شبيغل" الألمانيّة نشرت خبرًا يفيد بأنّ القصف على غزّة هو القصف الأكثر شدّة (نسبةً إلى الفترة الزمنية) الموثّق حتّى يومنا هذا في تاريخ الحروب البشريّة. وبمجرّد أن وعت إدارة تحرير الجريدة بأنّ صياغة الخبر "دي أنطولوجية"، إذْ أضفت فرادة كونيّة على حرب غزّة، حذفت الخبر فورًا، وكأنّ الفرادة الكونيّة صفة حصرية لإبادة الهولوكوست. ما يجمع الإبادتين هو ليس فقط النيّة الإباديّة والفرادة الكونيّة، بل بروز النسخة الخاصّة من "العقل الأداتي"، بلغة أدورنو، والمسؤول عن "البربريّة". في الهولوكوست، وصل العقل الصناعي ــ العلمي إلى ذروته، وفي إبادة غزّة يحلِّق العقل الرقمي ــ الذكي. قرارات الإبادة التي تتخذها طائرات ذاتية القرار، وخوارزميات التصفية التي تُنْشَر علنًا على شكل معادلات غريبة، كأن يُقال: "8 مدنيون مقابل 1 مسلّح". إذا كانت الهولوكوست جريمة مثالية عن دور التصنيع والعلم في القتل، فإنّ إبادة غزّة جريمة مثالية عن دور الحوسبة والرقمنة في القتل.
ألمانيا مُحرِّك أسرلة كلّ ما هو يهودي. على صحف النازيين يوجد خبر مشهور فيه خريطة فلسطين وعبارة: "ارحلوا إلى هناك أيها اليهود". تسدّ ألمانيا مدافن التسريب بقوة، إذْ يُهاجَم كلّ يهودي متضامن. "اليهودية كمصير" هي نزعة أزعمُ أنّها لم تُفكَّك في عملية النقد الذاتي التي جرت بعد الجريمة النازية. في الفترة النازية، ما كان مُقلقًا لم يمكن اليهودي المتديّن بشعره المجدول، اليهودي البولندي، بل اليهودي العلماني الاندماجي ذا النزعة الكونيّة. أُشير لتلوّث كونيّة الشيوعيّة بيهوديّة بعض رموزها، ووجدت النازيّة في النخب اليهوديّة عائقًا جوهريًّا أمام تحقّق مشروع الرايخ. غير مسموح تجاوز اليهودية، لأنها الحد الأدنى الضروري الذي سيُشار إليه لحظة النفي. ورغم أنّ الخطر زال فعليًا عن اليهود في ألمانيا، ولُعِنَت النازية قلبًا وقالبًا، ونصب الهولوكوست مزروعٌ في منتصف المدينة، إلا أنّ نزعة "اليهودية مصير أي يهودي" قبل الحرب بقيت، وتحوّلت إلى نزعة "أسرلة كل يهودي" بعد الحرب. العداء المبدئي الكامل لليهود، تحوّل إلى انحياز مبدئي كامل لإسرائيل، من الفوبيا إلى الفيليا، ويُفْرَض هذا التناقض العاطفي على أرضيّة أي نقاش حول الإبادة في ألمانيا.
بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر، شيئان تضاعفا في ألمانيا عشر مرّات؛ الأوّل مجازي، والثاني حرفيّ: إنكار الحق الفلسطيني والدعم العسكري لإسرائيل.

*كاتب سوري مقيم في برلين، يدرس الفلسفة والدراسات الثقافيّة في جامعة هومبولدت، ومن أسرة تحرير "ضفة ثالثة".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.