}

ألمانيا ونزع الاستعمار: جدليَّة غير مكتملة

تغطيات ألمانيا ونزع الاستعمار: جدليَّة غير مكتملة
عمليَّة نزع الاستعمار تغمرنا في حياتنا الفعليَّة وحياتنا الفنيَّة
في قاعة Savvy Contemporary في العاصمة الألمانيَّة برلين، ثمَّة برنامجٌ مستمرٌّ يدورُ حول التراث الاستعماريّ لهذا البلد. البرنامج يركِّز بشكلٍ أساسيٍّ على آليَّة نزع الاستعمار كعمليَّةٍ معنيَّةٍ بشكلٍ أوَّلٍ بالحقائق والممارسات حول التحوُّل. نزع الاستعمار هو تحوُّلٌ من حالةٍ إلى حالةٍ، ما يشير إلى أن التحوُّل هو حقائق وممارسات في الدرجة الأولى. منذ نشأتها قبل حوالي 14 عامًا، والأمناء على "سافي" يواجهون الإرث الاستعماريَّ والحقائق حول التحوُّل، داخل وخارج ألمانيا. مواجهة الإرث الاستعماريّ تكون من خلال النضال الأخلاقيّ والتصوُّرات الجماليَّة في عمليَّة نزع الاستعمار، والتي يقوم بها "التابع"، بلغة الناشطة والناقدة الأميركيَّة سبيفاك (82 عامًا).
منذ حوالي 14 عامًا، و"سافي" مشغولة بالصفات النوعيَّة المميِّزة جدًّا للظاهرة الاستعماريَّة، والتي يمكننا رؤيتها هنا وهناك. لا شكَّ في أنَّ إبادة غزَّة أعطت دفعةً حيويَّةً إضافيَّةً إلى مصطلحات الاستعمار والفصل العنصريّ. تشخيص الظاهرة الاستعماريَّة يفتح المجال فورًا لسؤال ضرورة البدء بعمليَّة نزع استعمار. ولكن ثمَّة إشكاليَّة تطرحها عالمة الأنثروبولوجيا روزاليند موريس/ Rosalind Morris، إذْ تقول بأنَّ عمليَّة نزع الاستعمار تغمرنا فعلًا في حياتنا الفعليَّة وحياتنا الفنيَّة، ولكنَّ العلاقة بين الجهتين هي "جدليَّة غير مكتملة"، كما تصفها، والمقصود بأنَّ التوازن بين ممارساتنا الفنيَّة حول نزع الاستعمار، وحياتنا الفعليَّة وموقعها من الظاهرة الاستعماريَّة، غير مُكتمَل.
إنهاء الاستعمار لا ينبغي أن يكون فقط تحرُّكًا في المستوى الفوقيّ ــ الدولتيّ، أي سياسات الفنّ العامَّة، والتعليم الحكوميّ، وبناء المؤسَّسات على المستوى العامّ. إنهاء الاستعمار حيويَّةٌ في المستوى التحتيّ ــ اليوميّ، كالمعارض الصغيرة، والمؤتمرات البحثيَّة، وورش العمل، والأحداث الحيَّة، والمساهمات الإذاعيَّة. إنهاء الاستعمار يجب أن يضفي بعدًا "مطَّاطيًّا" إلى الخطاب الأوروبيّ، إذْ إنَّ هدف إنهاء الاستعمار يستدعي بقاءً ضروريًّا في حالةٍ من التحوُّل، أي الانفتاح على إعادة التعريف والتشكُّل مجدَّدًا بالتناغم مع مجموعةٍ متنوِّعةٍ من المجتمعات والمؤسَّسات والبنى التحتيَّة والسياقات الأخرى.
التاريخ الألمانيّ هو أمُّ التحوُّلات والانتقال من "بعدٍ" إلى "بعدٍ"، من ما بعد الحرب العالميَّة الثانية إلى ما بعد الحرب الباردة، من الاقتصاد القائم على عمالة المهاجرين، إلى المعجزة الاقتصاديَّة التي حلَّقت بألمانيا عاليًا، من الوعود التي أطلقها سقوط الجدار، إلى "سنوات المضرب البيسبول"، وهو مصطلحٌ شهيرٌ يشير إلى انتقال الكتلة العمَّاليَّة في ألمانيا الشرقيَّة من اليسار إلى اليمين القوميّ والعنصريَّة الثقافيَّة، وتمجيد العنف.




من محاولة تجاوز إرث النازيَّة إلى السقوط مجدَّدًا في فخِّ الفخر القوميّ. من مجتمع ما بعد الهجرة، إلى مجتمعٍ ربَّما يفتح حقبة ما بعد الديمقراطيَّة، خصوصًا مع تزايد الدعم لليمين. في السنوات الأخيرة، صارت آثار "الديالكتيك غير المكتمل"، بلغة موريس، واضحةً جدًّا، وازدادت الحاجة إلى "إكمال التوازن"، والبدء بعمليَّة نزع استعمارٍ حقيقيَّةٍ.
بدأ تداول مصطلح "نزع الاستعمار" منذ العقود القليلة الماضية. لفظة "نزع" أطلقت طاقةً وسلسلةً من التدخُّلات في كلماتٍ أخرى، مثل "السحر" (الحداثة نزع السحر عن العالم ــ ماكس فيبر). لفظة "مستعمرة" في اللغة الألمانيَّة والثقافة الأميركيَّة تشير إلى الفعَّاليَّة حول السفر والاستقرار في مكانٍ ما، ثمَّ زراعة التربة، ورفع الإنتاجيَّة، واستخراج الموارد، وتشكيل ثروةٍ للأجيال المقبلة. اجتماعُ الكلمتَيْن "نزع الاستعمار" يشير إلى الاحتجاج على فكرة المستعمرة، من خلال الرفض والمقاومة والإلغاء.
سؤال الاستعمار محيِّرٌ فعلًا في الثقافة الأوروبيَّة، لأنَّ الظاهرة الاستعماريَّة متجذِّرةٌ بعمقٍ في التاريخ الأوروبيّ. على سبيل المثال كيف يتمُّ التفريق بين مهامّ البعثات العلميَّة والرحلات الاستكشافيَّة للمعرفة الكونيَّة، والمهامّ السياسيَّة المتعلِّقة بالاستغلال والقمع؟ في فترة أزمة كورونا، صعد نجم مؤسَّسة "روبرت كوخ" التي تضع السياسات الصحيَّة العامَّة في ألمانيا، لنعرف لاحقًا أنَّ روبرت كوخ كان طبيبًا ألمانيًّا يجري تجارب طبيَّةً على شعوب المستعمرات في فترة الاستعمار الألمانيّ لأفريقيا.
ثلاثة أمورٍ يجب أن تُدرَس، النوايا المُعلنة، والاستراتيجيَّة الفعليَّة، والأفعال الواقعيَّة. مثلًا، كلمة "التنمية" لها وقعٌ سيِّئٌ على مسامع السكَّان الأصليِّين. النيَّة المُعلنة الإيجابيَّة، أي سياسات التنمية، تشير إلى محو الهويَّات الثقافيَّة والتقاليد المحليَّة للسكَّان الأصليِّين (الاستراتيجيَّة الفعليَّة) وإساءة استخدام السلطة بدلًا من مساعدة السكَّان المحليِّين على تحقيق الرفاه الاجتماعيّ (الأفعال الواقعيَّة). لا تزالُ الكتب المدرسيَّة ووسائل الإعلام الألمانيَّة تقدِّم صورًا شديدة الإشكاليَّة وغارقةً في المُحافَظَة حول الثقافات الأخرى، وخصوصًا شعوب المستعمرات السابقة.
ثمَّة شيءٌ مميَّزٌ في الاستعمار الألمانيّ. صحيحٌ أنَّه أقلُّ رسوخًا وتمدُّدًا من القوى الأوروبيَّة الأخرى، إذ يُنظَر إليه دومًا على أنَّه استعمارٌ معتدلٌ، أو "نزعة ضمٍّ" أراضٍ أخرى بدلًا من استعمارٍ مباشرٍ. ولكن للاستعمار الألمانيّ نزعةٌ نفعيَّةٌ جاءت من طرف الليبراليِّين الاقتصاديِّين في سياق تبرير قمع الاضطرابات الاشتراكيَّة التي اندلعت في ألمانيا عام الكساد 1870. ممارسات الهجرة الاستعماريَّة التي كانت متجذِّرةً في الأفكار الليبراليَّة صاغت تصوُّر الألمان حول الاستعمار باعتباره أمرًا ضروريًّا من الناحية الأخلاقيَّة.
الأيديولوجيا الاستعماريَّة الألمانيَّة بُنيت على حافزَيْن: النفعيَّة الاقتصاديَّة، والهجرة إلى الخارج، ولذلك فهي استقبلت بشعبيَّةً كبيرةً من الطبقة الوسطى. وكون الطبقة الوسطى تبنَّت الأيديولوجيا الاستعماريَّة، أدَّى ذلك إلى إضفاء طابعٍ مؤسَّسيٍّ على الاستعمار. يتمُّ تجاهل هذا الأمر بشكلٍ تامٍّ في كلِّ النقاشات حول جبر الضرر والاعتذار الرمزيّ وردِّ الحقّ. الكلمة الأساسيَّة التي يَجب أن تُقال في ألمانيا، الصدع الذي يؤدِّي إلى "جدلٍ غير مكتملٍ" هو الموقف الاجتماعيّ ــ السياسيّ المتناقض حول إبادة غزَّة.
الخلل هنا بالضبط: الانقسام حول العنصريَّة داخل ألمانيا، في حين الاتِّفاق الكامل حول دعم العنصريَّة الإسرائيليَّة، وهذا الخلل هو ما لا يدع الجدل أن يكتمل.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.