}

عن حرية الكتابة وقيود الترجمة

فريد الزاهي 5 يونيو 2024
آراء عن حرية الكتابة وقيود الترجمة
(Getty)
وصلتني من صديق جامعي مقالة عن ترجمة كتاب مرجعي عما يسمى اليوم بالتخييل الذاتي، وهو مصطلح أطلقه أحد الكتاب عن سيرته الذاتية المتخيلة، فغدا منذ أن تحدث عنه محمد برادة اصطلاحا شائعا في الجامعات العربية، وفي الكتابات النقدية. والمقالة عبارة عن نقد لترجمة ذلك الكتاب. وكانت الجملة التي طرقت ذهني باللغة الفرنسية حال انتهائي من قراءة المقال هي (وأنا أترجمها هنا إلى العربية): "لتكتبوا ما شئتم، لكن لا تترجموا أي شيء وبأي طريقة!"...

هل هذا يعني، من جانب مترجم قضى أكثر من أربعة عقود في ممارسة الترجمة، أن الحرية التي نمنحها للكتابة نحرم منها الترجمة؟

لقد أدركنا في العالم العربي أهمية الترجمة منذ عصر النهضة، ومارسناها بطريقتها العادية، كما بالاقتباس والسرقة الأدبية والتصرف والانتحال والإحالة. بيد أنها غدت في الآونة الأخيرة المحرك الدينامي الأساس لحركيتنا الثقافية. وأنا أجازف بالقول بأن القارئ العربي، مع أنه مفهوم فضفاض لا تسعفنا فيه الإحصائيات والدراسات السوسيولوجية، يقبل على اقتناء الترجمات واستهلاكها أكثر من إقباله على قراءة الكتاب المكتوب أصلًا باللغة العربية، بالرغم من أن كمية المنشورات العربية أعلى بكثير من الكتاب المترجم.

الناس لدينا تكتب وتنشر، إما للحيازة على لقب كاتب وشاعر وباحث، مع ما يحمله ذلك من قيمة رمزية، قد يطلقها عليهم القرّاء أو قد يسِمون بها أنفسهم بأنفسهم، أو بوازع ثقافي وجودي أو اجتماعي أو أكاديمي. وأغلب من يطلقون على أنفسهم هذه الألقاب في صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي (من قبيل الكاتب والشاعر والروائي...) لا ثقل لهم ولا وزن في نسيج ثقافتنا، مثلما أن أغلب من يلحون على إلصاق صفة الأستاذ الدكتور أينما حلوا وارتحلوا، لا يجاوز صيتهم أسوار جامعتهم. وما ينشر من مصنّفات قد يكون باكورة كاتب موسوم بالفشل منذ برعومه الأول، أو كشفًا لكاتب أو باحث واعد، أو تعضيدًا لمسيرة كاتب معروف قد يستمر في كسب عيوننا وأذهاننا وقد يخيب ظننا فيه. ما ينشر إذًا، قد يحظى بالتداول فيصل الكتاب طبعته الثانية والثالثة بل أكثر، أو قد تجده بعد وقت مكدسًا في أسواق سقْط المتاع يباع ببعض الدريهمات. ولأن الناشر العربي يتستّر على عدد النسخ، ويقوم أحيانًا بسحب جديد من غير أن يعتبره طبعة ثانية، بل لأن انتقال الكتاب من ناشر إلى آخر لا يمنحه صفة الطبعة الجديدة، لا نعرف مقدار ما تطبعه دور النشر وما تسوقه إلا في القليل النادر.

إن حرية الكتابة والنشر تفرز لنا شعبًا كاملًا من الكتاب، بفوارقه وعنصرياته وأعراقه ولغاته، وبأغنيائه وفقرائه وسلطاته ومهمشيه. فثمة كتّاب السلطة، والكتاب ذوو السلطة؛ وثمة كتاب يعيشون من مداخيل ما يكتبون، وآخرون يؤدون ثمن الطبع والنشر ولا يحصدون من ذلك أحيانًا ما يسدد ديونهم. وثمة الصراع والمناوشات بين كتاب العربية والكتاب الفرنكفونيين والإسبانوفونيين والأنجلوفونيين والكردوفونيين والأمازيغوفونيين؛ وثمة الصحافيون الكتّاب والكتاب الصحافيون، وثمة الصحافيون الكَتبة، كما ثمة كتاب الهوامش المنطوون على أنفسهم خارج مدار المؤسسات، وكتاب السُّخرة الذين تسميهم اللغة الفرنسية: Les nègres، أي الكتاب الزنوج أو العبيد الذين يبيعون قوة عملهم الكتابي لأسماء أخرى لا تتقن الكتابة، ويتخلون عن توقيع نصوصهم في مقابل مالي محدّد...

أما الترجمان فإن حريته تنحصر في ما يملكه من إتقان للغته وللغة التي منها يترجم. وقد يتجاوز أحيانا ذلك إلى حرية اختيار النصوص التي يعمل على ترجمتها أو المساهمة في اختيارها. بيد أن إتقان لغتيْ عملية الترجمة لا تمنحنا مترجمًا. فأنا أعرف أشخاصًا بالغي الإتقان للإنكليزية والفرنسية والعربية ولا يتجرؤون أبدًا على خوض مغامرة الترجمة الأدبية، لأن ممارسة الترجمة أيضًا تعبير عن الرغبة في الترجمة وعن حب هذه العملية العويصة والعسيرة والمركّبة. كما لا يكفي إتقان اللغتين للقيام بتلك الممارسة وللنجاح فيها، فاللغة ثقافة ومعارف وحضارة؛ وعدم الإلمام بذلك يقود إلى الترجمة الحرفية وإلى إخطاء المعنى. كما أن اللغة تتطلب حساسية شخصية تتمثل في اختيار المرادفات ومنح الإيقاع والإحساس بتداوير النص المترجم وتلافيفه وثناياه وتلاعباته ومضمراته. لكل هذا يستوجب إتقان اللغتين ذكاء ترجميًا يمتلكه الترجمان من ترجمة لأخرى، كما من معاشرته للكتابة والقراءة باللغة التي منها يترجم. وأنا لا أتصور شخصًا يترجم نصًا من الفرنسية أو الإنكليزية ولا يدمن القراءة بلغته الثانية أو لا يمارس الكتابة والحديث بها، لسبب بسيط هو أن امتلاك اللغة العربية يتعزّز بامتلاك اللغة الثانية، والترجمة إليها تتعزز عميقًا بممارسة الكتابة والقراءة باللغة الثانية. ذلكم هو ما يبني الهوة السحيقة العمق بين المترجم "الأدبي" المحترف والمترجم العارض أو "الهاوي".

"لتكتبوا ما شئتم، لكن لا تترجموا أي شيء وبأي طريقة!"

وحتى أعود لهذه العبارة، أجازف مرة أخرى بالقول، بأن انتقاد ترجمة "رديئة" لكتاب أو مصنّف سيطويه زمن التحولات النقدية والاصطلاحية، يكون انتقادًا عارضًا متصلًا بالطابع العارض للكتاب والترجمة نفسهما، بالرغم من أنه يطرح مسألة الترجمة في عمومها. فالكتاب جاء ليخدم مفهومًا طارئًا، جامعيًا أكثر منه ثقافيًا، ويكون نبراسًا للدراسات في هذا المضمار، وكذلك كان مقصد الترجمة. هذا التهافت الاصطلاحي يوازيه تهافت ترجمي، والحال أننا قضينا أكثر من خمسة عقود قبل أن نترجم كتابًا مرجعيًا لهنري كوربان عن ابن عربي، وقرنًا كاملًا لترجمة الكتاب المرجعي الوحيد عن علاقة الدين بالسحر في العالم العربي، وخمسة قرون لترجمة أسٍّ من أسس الثقافة العالمية هو مونتيني.

لندرْ رأسنا ونتفحص تاريخ المترجمات في العالم العربي كي نستخلص منها بنيات تفكيرنا في الترجمة وفي التلاقح الثقافي. إنها ترجمات تخضع للحاجيات الفكرية والسياسية الراهنة، وعينها مركزة على الاستعجال: الأدبيات الماركسية والقومية، ثم البنيوية ثم النسوانية ثم النقد الثقافي، وما بعد الكولونيالية والديكولونيالية ثم النوع. وأغلب هذه الترجمات تخدم أيضًا الدراسات الأكاديمية وتغدو مرجعيات للطلاب. إننا لا ننكر أهمية هذه الحاجة الاستعجالية ولا أهمية الترجمات التي تقف وراءها، بيد أن الثقافة الكونية لا يمكن اختزالها في الحاجيات الجامعية. وقد أدت هذه الاستعجالية إلى استشراء الترجمات من لغات وسيطة، لأسماء هامة من قبيل الشكلانيين الروس وميخائيل باختين وأمبرتو إيكو. وهي ترجمات لها زمنها المحدود ومدة صلاحيتها التي لا تجاوزها، لتغدو كتبًا ميتة تغتالها ترجمات جديدة من اللغة الأصل كما يغتالها الزمن بتحول الاهتمامات الثقافية والأكاديمية.

بيد أن المستعجل اليوم يتمثل في الترجمة الاحترافية التي تعي حرياتها وحدودها. فلقد غدا الترجمان اليوم المثقف الذي يستطيع أن يقف بممارسته على نواقص ثقافتنا العربية، وعلى ما يمكن أن يخدمها بشكل تاريخي دائم، وما يمكن أن يحرك فيها ركودها أو يبدد عَنَتها وعنادها وانطواءها على ثنائياتها اللاهوتية والميتافيزيقية. الترجمان، حين يختار كتابًا ويترجمه، يمارس فعلا يجاوز فعل الكاتب، أو على الأقل يوازيه. فترجمة رابليه مثلًا إلى العربية، والذي كان لباختين الفضل في تسليط الضوء عليه لنا نحن القراء العرب (وهو من أعسر ما يمكن ترجمته)، لا يمكن إلا أن يزكّي ويعضد الاهتمام بالأدب الهازل في الثقافة العربية وبالنوادر وما شابهها، كما سيزكي من ناحية أخرى الاهتمام بالكتابات الهامشية في ثقافتنا العربية والشعبية. كما أن ترجمة الثقافات المتوسطية القريبة إلى ذهنيتنا (يونانية وبرتغالية وإسبانية وإيطالية اللغة) من شأنها أن تعضد الأواصر المتوسطية التي نشترك فيها، والتي سوف نعيشها بشكل مغاير في تظاهرة كأس العالم الذي ستنظمه إسبانيا والمغرب والبرتغال بعد عدة سنوات.

الترجمة إذًا هي "القوة الجيوثقافية الناعمة" (بالاصطلاحات المتداولة اليوم) في المجال الثقافي. والترجمان نَسّاج للتواصلات، وفتّاح لمعابر مرور الأفكار والثقافات والمتخيلات الفردية والجماعية. وهو حين يترجم ثقافته إلى لغات أخرى يمارس فعلًا أهم من فعل ذلك الكاتب الذي يترجمه. إنه يمنحه أجواء العالمية ويمنحه لسانًا جديدًا يعبر به حدودًا فرضتها الجيوسياسة بهمجيتها الراهنة. الترجمان هو البطل الثقافي الأولمبي للأوقات الراهنة، وأهميته تكون أعمق وأكبر كلما كانت ترجمته متسمة بالجودة والذكاء، وتشكل مديحًا صادحًا للغتين اللتين يترجم في حضنهما. إنه مديح الكتابة والضيافة اللغوية، مقدار ما هو مديح للظلال العالية الوارفة التي يستظل بفيئها فكرنا وفكر الآخر، اليد في اليد... إنه يحوّل اللغة إلى بديل للقنابل والحقد والسلاح، ويروّض تراتبية الآخر ليحوّلها إلى نِدّية تتحاور في اللغات... وجهًا لوجه...

لذلك، رجاء، اكتبوا وانشروا ما شئتم، لكن لا تترجموا أي شيء وبأي طريقة كانت!

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.